سياسة

نيويورك تايمز: كيف تحول الأخوان كواشي من هواة إلى جهاديين بلا رحمة؟

 

نيويورك تايمز: طريق الأخوين شريف وسعيد كواشي إلى الهجوم على مجلة “شارلي إبدو”  ..القصة الكاملة

روكميني كاليماشي وجيم ياردلي

نيويورك تايمز 

ترجمة -محمد الصباغ، دعاء جمال، محمد علي الدين

الدماء في مكتب شارلي إبدو بعد الهجوم
الدماء في مكتب شارلي إبدو بعد الهجوم

  بعد عام من غزو الولايات المتحدة للعراق، لم يعد عامل توصيل البيتزا البالغ  من العمر 22 عاما  يحتمل أكثر . صور الجنود الأمريكيين وهم يهينون المسلمين في سجن أبو غريب تثير حنقه، وتدفعه للتفكير في قتال الولايات المتحدة. درس بندقية “إيه كي – 47” كلاشينكوف افتراضيا على مواقع الانترنت، ثم تلقى دروسا من رجل يستخدم صورا مرسومة باليد لشرح السلاح.

كانت مجرد محاولة للالتحاق بالجهاد لكنها مثيرة للسخرية، وكان شريف كواشي عامل توصيل البيتزا لا يشعر بالثقة في نفسه مع اقتراب يوم مغادرته فرنسا. وقد شعر بالارتياح عندما اعتقلته الشرطة قبل مغادرته فرنسا على متن طائرة “آليتاليا” التى كانت ستقلع في 6:45  صباحا يوم 25 يناير 2005. وقال للمحققين: “شعرت عدة مرات أنني أريد الانسحاب، لا أريد أن أموت هناك”. وأضاف: “قلت لنفسي إذا ترددت سيعتبرونني جبانا، لذا قررت أن أذهب على أي حال”.

بعد عشر سنوات، وبدون الحاجة إلى أي تذاكر طيران، نفذ شريف كواشي مع أخيه الأكبر سعيد، 34 عاما، عملية إرهابية وحشية على مرأى من العالم عندما دخلا بطريقة عسكرية منضبطة مكتب صحيفة “شارلي إبدو” الساخرة الذى كان خاضعا للحراسة، وقتلا 12 رساما باسم الإسلام. بعدها بساعات وبلا مبالاة، أجرى شريف اتصالا هاتفيا بمراسل صحفي ليتأكد أن العالم عرف أن الهجوم كان باسم تنظيم القاعدة في اليمن. ثم وقع تبادل لإطلاق النار مع الشرطة أسفر عن مقتل الأخوين.

عشر سنوات تطور فيها شريف بسهولة من مبتدىء قلق وخائف إلى قاتل صلب، هى ملخص قصة الراديكالية التى تزداد عمقا أمام أعين السلطات الفرنسية التى وقع شريف في قبضتها مرتين. بعد اعتقاله في 2005، عندما كان شريف مجرد جهاديا ناشئا، قضى 20 شهرا في السجن، وهناك ألتقى “جمال بقال” أكبر عملاء القاعدة في فرنسا وأصبح مساعدا له. ووفقا لمسؤولين فرنسيين في مجال مكافحة الإرهاب، أرسلت القاعدة “بقال” إلى فرنسا لتكوين خلية لاستهداف المصالح الأمريكية. وأصبح شريف أيضا صديقا للصّ المدان “حميدي كوليبالي” الذى نفذ فيما بعد عملية الاختطاف في المطعم اليهودي التى أسفرت عن مقتل شرطي ورهائن بالتنسيق مع هجوم “شارلي إبدو” ليرفع حصيلة الضحايا إلى 17 قتيلا.

يحيط الكثير من الغموض بحياة منفذي الهجمات رغم آلاف المستندات القانونية التى حصلت عليها “نيويورك تايمز”، والمستندات تتضمن أجزاءً من التحقيقات، وملخصات من تسجيلات هاتفية، ورسائل تم اعتراضها في السجن، وصور ونصوص دينية وجدت على جهاز “اللاب توب” الخاص بشريف كواشي وكوليبالي. كلها تكشف عن صناعة التطرف التى جعلت من هؤلاء جهاديين أكثر احترافية وخبرة.

كانوا يحلقون لحاهم بانتظام تجنبا للمظهر المعتاد الذى تسهل ملاحظته للإسلاميين. ارتدوا الجينز والأحذية الرياضية، ولم يفعلوا أي شىء قد يلمح إلى مخططاتهم أو عقيدتهم الجهادية.

  حذرت الولايات المتحدة السلطات الفرنسية بعد أن سافر أحد الأخوين كواشي إلى اليمن في 2011. يقول لويس كابريولي، نائب رئيس وحدة مكافحة الإرهاب الفرنسية منذ 1998 إلى 2004، إن ثلاث سنوات من متابعة الأخوين لم تسفر عن أي نتائج، لذا قررت لجنة عليا أن المراقبة لم تعد ذات قيمة.

وأضاف أن الأخوين بدا وكأنهما ليسا مصدرا لأي تهديد بعد إيقاف الرقابة عليهما منتصف العام الماضي، خاصة أن أولويات السلطات الفرنسية تغيرت مع سفر مئات الشباب المسلم إلى سوريا للجهاد. ويعلق جون-شارلز بريسار خبير الإرهاب ومستشار النائب العام الفرنسي لمكافحة الإرهاب قائلا: “لقد هزمت المنظومة (الأمنية)”.

شعر الجميع بالصدمة بما فيهم أقارب كواشي عندما اقتحم الأخوان في 7 يناير البوابات الحديدية الثقيلة لمجلة “شارلي إبدو” التى سخرت من النبي محمد. تقول خديجة حميد، أخت زوجة شريف كواشي: “الطريقة الوحيدة لفهم الأمر أنه (شريف) كان يعيش حياة مزدوجة”.

ممثل الفصل الدراسي

عندما كانت صور الأخوين كواشي تعرض على شاشات التلفزيون أمام المتابعين بعد الهجوم، لاحظ محمد بداوي، 34 عاما، شامة على وجه أحدهما، وقال محدثا نفسه: “لا يمكن أبدا”. بداوي لم ير شريف كواشي الأخ الأصغر لزميل الدراسة سعيد، منذ أن كان ثلاثتهم طلاب في مدرسة للأيتام بقرية “ترينا” في وسط فرنسا.

ويقول بداوي إن والدة الأخوين كواشي مرضت عام 1994 عندما كان شريف يبلغ 12عاما وسعيد 14 عاما، وأُرسل الاثنان إلى مركز “موندييه”  للرعاية الممول من مؤسسة كلاود بومبيدو. وأضاف: “كان والدهما قد توفى قبل ذلك بسنوات، وعندما توفيت والدتهما أصبح المركز الذى يبيت فيه كل ثلاثة أطفال في غرفة هو بيتهما الوحيد”.

رغم الظروف يبدو أن الأخوين قد انتعشا حيث انخرط سعيد في برنامج تدريب خلال الاجازات في مجال الإدارة الفندقية، واختاره زملاء الدراسة كممثل عنهم. يقول بداوي إن “سعيد كان خجولا ويمكنك أن تقول أنه كان ذكيا ومنضبطا ولم يعان من الدراسة ولم يتكاسل”.

كان الأخوان يذهبان يومي السبت والأربعاء إلى ستاد كرة قدم قريب للعب لصالح اتحاد غرب وسط فرنسا الذى كان يديره نادي “إيه اس شامبيرتويز”. ويقول مدربهما السابق: “رغم أن شريف كان أصغر بعامين إلا أنه كان أكثر عدوانية، ويلعب في خط الهجوم بينما يلعب سعيد في الدفاع. ويعلق آلن لسكو رئيس النادي: “كانا يضحكان ويلعبان مثل كل المراهقين ولم يكن متوقعا ما فعلاه الأسبوع الماضي”.

يقول بداوي إنه لا يتذكر أنهما كانا يؤديان الصلاة بشكل دائم. وكغيرهم من صبيان المركز، حلم الأخوان كواشي بمغادرة القرية الصغيرة البالغ عدد سكنها 1700 نسمة. وأضاف: “إذا كان لهما دين.. فقد كان باريس”.

مع وفاة والديهما عاش الأخوان المراهقان كواشي في مركز فوستر وحضرا في تلك المدرسة في ترينا، في كوريز الفرنسية

ليس “مسلما جيدا”

انتقل الأخوان كواشي في عام 2000 إلى باريس، وأقاما في الحي التاسع عشر الذى يعج بأبناء الطبقة العاملة والمهاجرين المسلمين الجدد القادمين من مستعمرات فرنسا السابقة في شمال أفريقيا. وحصل شريف كواشي على وظيفة عامل توصيل بمطعم “إل بريمو بيتزا”.ولا يتذكر زملائه في المدرسة أنهم شاهدوه يدخن كثيرا لكنه اعترف لاحقا للمحققين أنه اعتاد تدخين الماريجوانا.

واظب الأخوان كواشي على أداء الصلاة في مسجد الدعوة الموجود في “ريو دي تانجير”، بعد الغزو الامريكي للعراق في 2003 حيث كان المسجد يستقبل 5 آلاف مصل وفقا لـ عيسى عمار مسؤول إدارة المسجد الذى هدم بعد ذلك.

بعد وقبل الصلاة، كان الشباب يجلسون في مجموعات مكونة من ثلاثة أو أربعة أشخاص ويناقشون أحداث اليوم، وهناك ألتقى الأخوان كواشي بـ فريد بن يتو، 22 عاما، ابن مهاجر جزائري.

ووفقا لأحد الجيران الذى رفض ذكر اسمه، فإن شقيقة فريد بن يتو استبعدت من مدرسة “باليرون” الثانوية لأانها رفضت خلع الحجاب. وبالنسبة لشريف سريع التأثر، فإن إيمان وورع صديقه بن يتو كان أمرا مدهشا.

كتب محققو باريس في تقريرهم النهائي بعد اعتقال شريف في 2005 إن “كواشي لا يعتبر نفسه مسلما جيدا”. وأضاف التقرير: “قال إنه بدأ الذهاب إلى المسجد منذ عامين أو ثلاثة أعوام وبدأ يصلي أكثر رغم أنه مازال يدخن الماريجوانا”.

بدأ فريد بن يتو في تقديم دروس لمجموعة من الشباب، لاحقا أصبح اسمها مجموعة منتزه “بوت شيمو”، حيث يجلس الجميع على الأرض المغطاة بالسجاد داخل المسجد لمدة ساعتين يوميا.

جعلت الدروس من شريف مستقيماً و تحركاته محدودة و لكن ذلك عندما كان يحضرها، و كتب المحقق، ولم يعد يدخن أو يشرب. و عندما توقف عن الحضور عاد فوراً لعاداته القديمة.

وبشخصية الواثق صاحب الكاريزما، يحاول بن يتو أن يقنع الشباب بالانضمام للجهاد. لقد صنع مضخة تدفع الشاب الفرنسي المسلم إلى السفر والإلتحاق بأبي مصعب الزرقاوي في العراق، و التي ستصبح بعد وقت قريب منطقة تنظيم القاعدة التى تمتلأ بالفرنسيين. و ذلك حسب معلومات مفصلة من ملفات المحكمة.

و بحلول سبتمبر وأكتوبر عام 2004، أظهرت سجلات المحكمة أن شريف و سعيد كواشي أصبحا منتظمين في الذهاب إلى مكتب بن يتو لمناقشة التبريرات الدينية للهجمات الإنتحارية. وهناك، تعلموا كيفية حمل قنبلة داخل شاحنة وإيصالها إلى قاعدة أمريكية.

و كان شريف هو من بدأ بالمطالبة بهجوم داخل فرنسا، وهو المخطط الذي لم يلق موافقة حتى من مرشده الديني.  و يقول صديقه و شريكه في العملية سامر بوشناق: “شريف لم يتوقف عن الحديث عن المحلات اليهودية وعن الهجوم عليهم في الشوارع و قتلهم، وتحدث بوضوح عن فعل شىء هنا في فرنسا”.

ويضيف بوشناق: ”استفسر شريف من بن يتو إذا كان ذلك مسموحاً، لقد كان يريد أن يحصل على إذن من معلمه لكن بن يتو لم يعطه الإذن”، وعوضاً عن ذلك قرر شريف السفر إلى العراق و نما بداخله قلق متزايد.

و عندما سافر أحد أعضاء المجموعة إلى الفلوجة فقط من أجل أن يُقتل جراء غارات قوات التحالف، أعاد بن يتو التأكيد عليهم بأن روح صديقهم البالغ 19 عاماً في جسد طائر في الجنة، ويرفرف حوله 72 من الحور العين. وقال محامي شريف “فيسينت أوليفيير” إن كواشي شعر بارتياح عندما رأى ضباط الشرطة قادمون للقبض عليه”. ويضيف المحامي لصحيفة “لوفيجارو”: “لقد كان كالطفل الضائع الذي ينادي الموت، لا أعلم إن كان أصبح كذلك بسبب فترة حبسه في السجن أم نتيجة التزامه الشديد”.

بطاقات عضوية الأخوان كواشي في نادي سنترال ويست

سجن الإسلام

قضى شريف كواشى حوالي 20 شهراً قبل محاكمته بداخل سجن “فلورى ميروجيس” على بعد 15 ميلا جنوب فرنسا، ويعد أكبر مجمع سجون فى فرنسا وكان معروفاً عنه أوضاعه السيئة، كما كان مليئاً بالسخط الإسلامى، وبه كان كواشى أحد أكثر الجهاديين تطرفاً فى فرنسا، وبداخله كان المسلمون يشتكون من صعوبة تواصلهم مع الأئمة أو خدمات تسمح لهم بممارسة شعائرهم الدينية مقارنة بزملائهم من السجناء المسيحيين، لذلك أحتجوا عن طريق تنظيم صلاة جماعية على أرض السجن المخصصة للجميع وهو ما يعد انتهاك لقوانين السجن وفقاً لناشط إسلامى فى باريس على دراية بالوضع فى السجن. ويتحول الغضب أحياناً لمواجهة.

سارعت سلطات السجن بتوظيف العديد من رجال الدين المسلمين، لكن الجهاديين المتمردين كانوا يعطلون صلاتهم. يقول الناشط المسلم “كانوا يسألون في الدين وأياً كانت الإجابة، كانوا يعترضون عليها، وكانوا يلقون الأسئلة باستهزاء: ما رأي الإمام فى الجهاد؟ ماذا عن الوضع فى فلسطين؟  لماذا لا يقدم اللحم الحلال فى السجن؟

أكثر السجناء شهرة كان “جمال بقال” الجهادى الذى تدرب فى أحد معسكرات أسامة بن لادن فى أفغانستان، وأرسل إلى فرنسا بطلب من الرجل الثالث فى القاعدة، ووفقا للنائب العام الفرنسى، لينشىء خلية لاستهداف مصالح أمريكية.

بعد غزو الأمريكيين للعراق ، بدأ الأخوان كواشي حضور دروس في مسجد الدعوة شارع طنجة

وفى 2001 تم إدانته بالتآمر لتفجير السفارة الأمريكية فى باريس، وتم التحفظ عليه فى الحبس الإنفرادى فى “فلورى ميروجيس” غير أن الحراس اعترفوا بأنه على الأغلب كانت لديه فرصة لمقابلة الآخرين و التأثير عليهم. يقول “كابريولى” المسئول السابق لمكافحة الإرهاب: جمال بقال كانت لديه القدرة على إقناع الناس بالتمسك بالإسلام المتطرف لأنه كان رجلاً ذكياً.

كان تأثير بقال على كواشى باقياً بالإضافة لتأثيره على سجين آخر هو “كوليبالى” الذى كان حينها فى الـ 23 من عمره، مجرم صغير يقضى عقوبته للسرقات المسلحة، وكان بقال فى الـ 40 من عمره أكبر جهادى، أصبح حلقة الوصل بين المسلحين المستقبليين، كما يقول المحقق.

و فى وثائق المحكمة وصف “كوليبالى” كيف أصبح صديقا لممثل القاعدة فى فرنسا من خلال نافذة زنزانته. يقول “كوليبالى” فى سلسلة من الشهادات فى 2010: “على المستوى الإنسانى، هو شخص أثر فى، فعندما كنت فى السجن، كانت زنزانته فوق زنزانتى وكان هو فى الحبس الإنفرادى”. وأضاف: “يضع الدين قبل كل شىء، ويمارس الشعائر بحماس”.

رغم بقاء السجناء فى زنازينهم 22 ساعة يومياً، إلا أنهم وجدوا طرقاً للتواصل وبناء شبكات، تحدثوا من خلال النوافذ المفتوحة، واستخدموا حيلة ورقية للمراسلات من دور لاخر.

فى حين أن حراس السجن دائماً ما يكونوا غارقين فى العمل حيث لا يتوفر إلا حارس لكل 100 سجين فى بعض المناطق، وفى مقابلات مع عدد من الحراس، وصفوا الإسلام المتطرف بقوة ضخمة من الصعب احتوائها.

يقول “ديفيد دولونديل” الحارس العام للكونفدرالية العامة للتشغيل، وهى أحد النقابات الممثلة لحراس السجن: ” لسنا مدربين أو مجهزين للتعامل مع التعصب الدينى، إذا كنا نواجه صعوبة فى تنظيم شىء بسيط مثل السجائر، كيف تتوقع منا تنظيم شىء مجرد مثل الأفكار، ومثل الدين؟”.

فى 2006، أطلق سراح شريف من السجن تحت الإشراف القضائى بينما استمرت القضية، وأدين فى 2008 بالوقت الذى قضاه، إلا أن سجن ” فلورى ميروجيس” أثر فيه.

ففى جلسة الاستماع، قال أحد المحامين فى القضية إنه رفض الوقوف لأن القاضية امرأة، وفور إطلاق سراحه انتقل لشقة فى مبنى من الطوب فى شارع ” رو بايسلى” فى الضاحية الباريسية “لجينيفيلرز” وفى 2008 تزوج فى مبنى البلدية من “إيزان حميد” كما تظهر سجلات البلدية.

في سجن فلوري ميروجيس ، أمضى شريف كواشي 20 شهرا يطور علاقاته مع الجهاديين الآخرين، لا سيما القيادي في القاعدة :جمال بقال

ولشهر العسل سافر الزوجان للحج بمكة، السعودية، وفقاً لصحيفة ” ديمانشى” بالإضافة لوثيقة الزواج ودمغات الدخول فى جوازات السفر التى شوهدت فى وثائق المحكمة.

وحين خرج من السجن اجتمع بأخيه الأكبر سعيد كواشى، الذى كان دائماً أهدأ ويبدوا أقل اندفاعاً، وقد عانى لإيجاد عملاً، وكان أحياناً يشغل وظائف قصيرة المدى من خلال برامج البطالة الحكومية.

وبينما أصبح أخوه أكثر تطرفاً خلف القطبان، سعيد أيضاً انحرف تجاه شكل متزمت أكثر للإسلام، غير أن مسيرته أقل توثيقا.

وفى 2007،عمل لحكومة باريس كجزء من فريق عمال النظافة، يذهبون من منزل لمنزل للدعوة لإعادة التدوير، وتم فصله فى 2009 وفقاً لمتحدث ياسم البلدية، كما ذكرت الصحيفة اليومية الفرنسية “لى باريسيان” أن سعيد كواشى كان جزءً من مجموعة من الموظفين الأصوليين ممن رفضوا مصافحة النساء وأصروا على إحضار سجادة صلاة للعمل.

مكان فى الدولة

بحلول 2009، كان كل من مطلقى النار المستقبليين ومرشدهم قد أطلق سراحهم من السجن، بقال الذى لا يزال يعتبر خطراً، وضع تحت المراقبة داخل فندق فى “مورات” الواقعة فى أعماق الريف الفرنسى، بعد تجريده من الجنسية الفرنسية، ولكنه كان يطعن على حكم تسليمه كمجرم للجزائر، فلم تجد السلطات الفرنسية حلاً أفضل من وضعه هناك.

واصل الرجال الثلاثة التواصل وعلى الفور بدأوا العمل على خطة، وبحلول ربيع 2010 بدأت الشرطة باعتراض مكالمات هاتفية بين “كوليبالى” و “كواشى” ومرشدهم الجهادى، متحدثين بما يشبه الشفرة.

يشيرون إلى البلدة التى يتواجد بها “بيغال” بالمكان الذى تشعر فيه بالبرد بدلاً من “مورات”، وبدأوا فى التحدث عن “الزواج” المستقبلى، وهى شفرة معروفة جيداً يستخدمها مقاتلين من فرع القاعدة فى شمال أفريقيا وتعنى العملية المعلقة “المنتظرة”.

بدأت الشرطة فى تعقب كواشى و كوليبالى. وأظهرت صور المراقبة كواشى يترك باريس و يقود سيارة على الطريق السريع لأكثر من 300 ميل متجهاً لبلدة “مورات” وبمجرد وصوله، شوهد يسير مع “بيغال” فى غابة ويؤدون تمارين فى الأرض المفتوحة.

كان هاتف بقال  مراقب من قبل الشرطة حيث أظهرت النصوص أنه قام فى العديد من المناسبات بمكالمة سجين داخل الزنزانة رقم 208 فى سجن المدينة الفرنسية “كليرفو” يدعى “سمعان آيت على بلقاسيم” الذي كان فى 41 من عمره حينها، زعيم إرهابى من أصل جزائرى، كان يقضى عقوبة السجن مدى الحياة لتفجيره مترو باريس عام 1995. واستنتجت الشرطة أنهم يخططون لتهريب “بلقاسم”.

كوليبالى لديه صلات بتجار للسلاح من ماضيه الإجرامى وكان يعمل على تخزين الأسلحة لهم، كما تظهر نصوص التسجيلات أن الرجال مازالوا يتحدثون بشفرات، مثل “الكتب” (أسلحة) والقول إنهم بحاجة لإيجاد “مكتبة جديدة ” (تاجر سلاح).

فى مايو 2010، فتشت السلطات منزل “كوليبالى” فى “بيجنوكس” خارج باريس، وهناك وجدوا جراب مسدس وذخيرة بعدد 240 طلقة عيار 7.62 ملم مخبأ داخل صفيحة دهان وفقاً لتقرير مداهمة الشرطة.

كما وجدوا وثائق بالعربية مكتوبة من بقال يطلب من شخص غير معلوم تزوير مستندات إدارية “بهدف فى غاية الأهمية يتخطى أهدافي الشخصية”.

قال أحد المحامين فى قضية  “كوليبالى” إن معاينة أقرب لملخص المحادثة المشفرة توحي بأن خطتهم، بجانب الهروب من السجن، تتضمن هجوما مستقبليا.

فى أحد المكالمات، قال “بيغال” لـ”بلقاسم”: هناك شيئان كنت أفكر فيهم منذ وقت طويل، إنه شىء أبنيه طوبة طوبة لسنوات الآن، لأتمكن من ضربهم بقوة”.

فى صيف 2010، دمرت الشرطة المؤامرة، وأدين فى النهاية كل من بقال وكوليبالى وعادوا مجدداً للسجن، وقضى كوليبالى عقوبته حتى مارس الماضى، على يد نفس القاضى الذى حكم بعدم وجود أدلة كافية لإدانة شريف كواشى، الذى أكمل حيانه فى “جينيفيلرز”.

وفى استعادة للأحداث، فالمادة التى وجدت على كمبيوتر شريف كواشى كان يجب أن تنبههم، كما يقول أحد المحامين فى القضية، الذى طلب عدم الكشف عن هويته ليتحدث بصراحة عن رد فعل الحكومة.

كان شريف غارقا في عقيدة الجهاد العنيف قبل خمس سنوات من إراقة الدماء هذا الشهر.

من ضمن النصوص المستعادة من كمبيوتر شريف، والتى تم ضمها لوثائق المحكمة، نص بعنوان “عملية التضحية” الذى وصف خطة الهجوم الذى سيقوم به. وورد في النص: “المجاهد يفرض طريقته على قاعدة العدو أو أي منطقة بها مجموعة ويطلق النار على مسافات قريبة بدون تحضير لخطة هروب، والهدف قتل أكبر عدد من الأعداء، ومعد العملية على الأرجح سيموت أيضاً”.

و ظهرت وثيقة أخري تشرح الأسباب الدينية وراء الفتوى التى صدرت ضد الروائي سلمان رشدي. وهاجمت أيضاُ الكاتب الفرنسي مايكل هويلبيك، الذي أطلق تعليقات مسيئة للإسلام، وهاجمت تلك الوثيقة أيضاً ”الرسوم غير الأمينة“ من صحفيين حولوا “الكفر إلى ترفيه سادي”.

و توجد بعض النصائح الأخري المتعلقة بالعمليات، فنصح أبو محمد المقدسي، المنتمي لفكر القاعدة، الجهاديين الذين يخططون لهجمات أن يجعلوا اتصالاتهم محدودة بالخلية الأم.

وجاء في الوثيقة: “ليس من الضروري في أغلب الحالات أن يعرف من يمول العملية متى و أين ستحدث، ولا حتى من سينفذها”.

و بمرور الوقت، اتضح أن الطفل الذي كان يرتعد و معدته لا تهدأ قبل رحلة طيرانه في 2005، اختلف تماماً. واتضح أيضاً انه استوعب درس الحذر جيداً.  وعندما استدعى شريف للتحقيق في 2010 استطاع أن يعرقل المحققين بهدوء. و كتب أحد الضباط في تقريره: “لقد لاحظنا أن كواشي ظل محدقاً في الأرض ولم يجب بالإشارات ولا حتى بالكلمات”.

و يقول الضابط حتى بعد أسئلة أكثر “كواشي بقي صامتاً و لا يتحرك”، و حاولنا مرة أخيرة ثم انتهينا إلى أن ”كواشي لا يجيب لكن عينه اليسرى قد رمشت”.

ظهر شريف كواشي في وثائقي عن الجهاد في العام 2005

جواز السفر المفقود

و في عام 2011 سافر أحد الأخوين أو ربما  كليهما إلى اليمن من أجل التدريب مع تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية.

في البداية، قال مسئولون أمريكيون أن سعيد كواشي هو من ذهب إلى اليمن في 2011. و لكن الآن يعتقدون أن من ذهب هو شريف مستخدماً جواز سفر أخيه ليتلقى التدريبات مع القاعدة و يحصل على 20 ألف دولارا من التنظيم المتمركز هناك، و ذلك حسب ما قاله مسئولون أمريكيون يعملون فى مكافحة الإرهاب و طلبوا عدم ذكر أسمائهم.

و ربما يتعارض هذا الكلام مع ما قالته سمية زوجة سعيد لمحاميها أنطوني فلاسكيير. وكانت قد أخبرته أنها كانت حامل في عام 2011 و بقي زوجها بجوارها ولم يغادرها أكثر من أيام قليلة في تلك الفترة. وأضافت أنه من المستحيل أن يكون سعيد قد سافر لأنه فقد جواز سفره و لم يقم بتجديده أيضاً. وقال محاميها إنه لذلك السبب لم يرافقها كواشي في إجازتها التى زارت فيها العائلة في الجزائر.

و في محادثة تليفونية مختصرة مع مراسل تليفزيوني، قال شريف كواشي قبل وفاته أنه و شقيقه يعملون لحساب تنظيم القاعدة وأنه تم تدريبه و تمويله بواسطة “أنور العوقلي” الذي نشأ في ولاية نيو مكسيكو وأصبح المروج الرئيسي للقاعدة.

و بعد أيام من الهجوم، أعلن تنظيم القاعدة في اليمن مسؤوليته عن العملية وأن مجموعة من قادة التنظيم قد اختاروا الهدف ووضعوا الخطة و مولوا العملية. و في نفس الوقت قال التنظيم إن الهجوم على المطعم اليهودي الذي نفذه كوليبالي، الذي أعلن أنه ينتمي للدولة الإسلامية، هو خير من عند الله

و لم تكتشف تلك السلطات أي دلائل تشير إلى أن الهجوم جاء انعكاساً لخبرات كواشي وكوليبالي الواسعة في التعامل مع وحدة مكافحة الإرهاب الفرنسية

و يقول كابريولي، المسئول السابق في مكافحة الإرهاب” “هو درس يتعلمه كل من تطأ قدميه أرض السجن. عندما يصبحوا أحراراً، سيحرصون على عدم لفت الأنظار. سيمتنعون عن استخدام هواتفهم المحمولة و سيمتنعون أيضاً عن التصرف كمتطرفين إسلاميين”.

على بعد 90 ميلاً من باريس وبالتحديد في مدينة ريمس حيث عاش سعيد وزوجته العامين الماضيين، أحب الرجل ابنه الذي بدأ خطواته الأولى بجنون و ترك طلبات في مكاتب التوظيف ليحصل على عمل. و مضى أوقاتاً طويلة يلعب لعبة الفيفا التى تذكره بممارسته لكرة القدم قديماً.

و في المرة التى ترك فيها حياته الروتينية غادر زوجته التى أصبح واضحاً أنها لم ترتكب أي إثم، ولم يكن قد تحدث عن “شارلي إيبدو” أو الوضع في الشرق الأوسط ولو مرة، و بعد اعترافه بارتكاب المذبحة صدم الواقع عائلة زوجته.

 و يقول فلاسكيير محامي الزوجة “عرفت الزوجة الآن أن جانباً من حياته قد غاب عنها، وأن طرفي العلاقة لم يخبرا بعضهما البعض بكل شئ، اعتقدت أن كل منهما له حديقة أسراره، لكنها ليست حديقة إنه كوكب من الأسرار”.

و بالنسبة لجيران شريف في الضاحية الباريسية، لم يذكر أحدهم شيئا محددا عنه عدا سيدة كان قد ساعدها في حمل الخضروات عقب تعطل المصعد.

و أشار المحققون إلى أن شريف و كوليبالي قد تحدثا مئات المرات في الأشهر القليلة من هواتف زوجاتهم. ولو كان الأخوان كواشي شديدي التحفظ فإن كوليبالي قد ترك دليلاً واضحاً في الأسابيع الأخيرة. فقد قبض المحققون البلجيكيون على تاجر أسلحة وكان قد باع لكوليبالي الأسلحة التى استخدمها في حادث المطعم اليهودي.

وأكدت السلطات في إسبانيا أن كوليبالي اصطحب صديقته حياة بومدين إلى مدريد في 31 ديسمبر  وظل هناك حتى سافرت إلى اسطنبول في الثاني من يناير، أي قبل الهجوم الأول بخمسة أيام.

و استخدم أيضاً قرضاً من أحد البنوك لتمويل العملية، و ذكرت صحيفة “لا فوادي نورد” أنه في الرابع من ديسمبر قدم طلباً للحصول على قرض بمبلغ 6 آلاف يورو بعد تقديمه للأوراق المطلوبة و بطاقة هويته.

و في مقطع فيديو ظهر بعد وفاته، قال كوليبالي أنه أقرض أحد الشقيقين كواشي أموالاً “لشراء ما يجب أن يشتروه”.

المذبحة

لم تكن هناك أي علامات على استهداف مكتب مجلة شارلي إيبدو، و التهديدات بالقتل كانت متشابهة لدرجة أن المجلة قررت تخصيص شخص للرد على الرسائل الإليكترونية التى تمتليء بالكراهية بإجابات مهذبة.

فكانت السموم المرسلة في رسائل التهديد تقريباً ثابتة لدرجة أن زينب الرازوي، أحد صحفيي المجلة و التى كانت قد بدأت في عام 2011، قد اعتادت علي تلك المخاوف حتى بعد الهجوم بالقنابل الحارقة على المجلة في 2011.

في الخريف الماضي، قررت الحكومة الفرنسية عدم جدوى بقاء سيارة الشرطة التى كانت متواجدة أمام مبني المجلة و اكتفت بالشرطي، فرانك برينسولارو، و الذي أصبح قريباً جداً من الصحفيين لدرجة أنهم اعتبروه جزءاً من العاملين في المجلة.

و لدخول المبني تحتاج لمفتاح ممغنط، وفي الأعلى يوجد باب معدني مضاد للرصاص له كود خاص لفتحه. كل ذلك لا يهم، فرجل البيتزا الذي تدرب على الجهاد بمسدس ورقي مازال يقترف الأخطاء، ذهب شريف كواشي للمبنى الخطأ رقم 6 في شارع نيكولاس أبيرت بدلاُ من رقم 10، لكنه توصل لمعلومات مهمة.

يجتمع صحفيو المجلة بالكامل مرة أسبوعياً في يوم الأربعاء لمدة ساعتين تقريباً بداية من العاشرة صباحاً. واقتحم الأخوان كواشي المكتب يوم الأربعاء حوالي الساعة 11:15 صباحاً في السابع من يناير.

و علقت الصحفية زينب الرازوي على الهجوم، وقالت: “لم يكونوا مبتدئين، ومقتنعة أنهم لم يتصرفوا بشكل فردي. هذه العملية تمت بأوامر عليا”.

و لا يعلم أحد إن كان الأخوان كواشي قد توقفا ليلاحظوا أن صحفيي تشارلي إيبدو قد زينوا مكتبهم بأشياء يسخرون منها بشكل معتاد مثل علم الدولة الإسلامية المعلق على الحائط ونقاب معلق على حائط آخر بالإضافة لرشاش بلاستيكي من طراز  AK-47 .

قال لورنت ليجر أحد الصحفيين الذي استطاع أن يختبأ تحت منضدة جانبية أثناء الهجوم: “لقد رأيتهما من مسافة متر واحد”، وأضاف: ”لقد ارتدوا ملابسا مثل الجنود و هجموا صارخين الله أكبر على الأقل مرتين”.

و قال ليجر إنهم نادوا على رئيس التحرير “شارب”، وقتلوه قبل أن يطلقوا رصاصهم على بقية الرسامين الجالسين على طاولة الاجتماع. و حاولت الصحفية سيجولينيه فينسون أن تزحف بعيدا،ً و قال لها أحد الأخوين ”نحن لا نقتل النساء”.

ثم ترك الأخوان الجثث على الأرض و تركوا الخوف و الرهبة في قلوب من بقوا على قيد الحياة و خرجوا إلى الشارع يطلق أحدهم أعيرته في الهواء، و سمع واحد من المارة أحد الأخوين يقول: “أخبروا الإعلام أننا نتبع تنظيم القاعدة في اليمن”.

و أطلق الثنائي كواشي النار أيضاً على ضابط شرطة أسرع لمسرح الجريمة و أردوه قتيلاً برصاصة في رأسه و تركوه على الرصيف. و في اليوم التالي قتل كوليبالي ضابطة شرطة و جرح مدنيين.

ففي يوم الجمعة 9 يناير و بينما انشغلت الشرطة بالأخوين كواشي في مصنع للطباعة على أطراف باريس، هاجم كوليبالي المطعم اليهودي و قتل أربعة أشخاص و احتجز أكثر من عشرة آخرين. و أخبر أحد البائعين صحيفة “لوموند” أن المسلح قام بتصوير الأحداث بواسطة كاميرا “جوبرو”.

و بعد ذلك نقل المادة إلى جهاز كمبيوتر محمول و قام بتعديل بعض الصور. امتلك كوليبالي الوقت ليصلي على أرضية المكان الدامية قبل أن تقتحم الشرطة و تقتله برصاصة في صدره.

وفي مصنع الطباعة حيث  يخوض الأخوان كواشي معركتهما الأخيرة و الحاسمة ضد الشرطة، قال المالك مايكل كاتالونو لاحقاً للصحفيين أنه اقتنع أنه سيموت حين وصل الأخوان حاملين أسلحتهم الآلية و قاذفة صواريخ.

و عندما اقترب رجل مبيعات من الباب قال له أحد الأخوين بكل بساطة أن يبتعد، ويضيف كاتالونو: “ارحل، نحن لا نقتل مدنيين“ هكذا قال أحدهما كأنه أحد الجنود.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى