إعلامسياسة

التجربة الإيطالية: كيف تغطي الهجرة غير الشرعية وسط أجواء عنصرية؟

كيف استطاع الصحفيون الإيطاليون تغطية مشكلة الهجرة غير الشرعية وسط أجواء تخيم عليها العنصرية

86ca061-c527aaa-b

إيدن وايت – شبكة الصحافة الأخلاقية

ترجمة – محمود مصطفى

أحد أصعب اختبارات الصحافة الاخلاقية في أوروبا هي القصة المأساوية للهجرة،  والتي تشمل آلاف الرجال والنساء والاطفال من أفريقيا والشرق الأوسط ، أحوجهم الفقر وكثير منهم هربوا من الحرب،  يخاطرون بحياتهم بعبورهم المحفوف بالمخاطر للبحر بحثاً عن ملاذ على شواطئ إيطاليا وأسبانيا.

في المائدة المستديرة لحرية الصحافة التي انعقدت في إطار كونجرس الصحف العالمي السادس والستين الذي أقيم في تورينو، قال رئيس تحرير يومية “لا ستامبا” الإيطالية ماريو كالابريزي إن محنة المهاجرين غالباً ما لا يتم تغطيتها بصورة كافية من قبل الإعلام الذي يخشى أن يصبح ضحية لحملات عدوانية من العنصريين والأحزاب السياسية ومن المواطنين.

“في عصر شبكات التواصل الإجتماعي تكون الضغوط على الصحفيين قوية ويمكنها أن تدفع الصحف إلى التحيز والالتزام فقط بالحقائق المجردة تجنباً للانتقادات وخوفاً من المقاطعة وخسارة القراء.”

يعارض كالابريزي هذا التصرف ويرى أن قصة المهاجرين تقدم فرصة لإظهار كيف هي الصحافة مهمة لمستقبل الديمقراطية، ويستخدم كالابريزي ما قامت به صحيفته لتوضيح كيفية حكاية القصة بتعاطف وإنسانية ودقة.

ويقول “هدف الصحافة اليوم يجب أن يكون الحفاظ على النقاش العقلاني، وتزويد المواطنين بأدوات الفهم، ومحاربة المخاوف، وتجنب الإنغماس في التحيز العاطفي.”

ويطالب كالابريزي الصحفيين بألا تكبلهم الشعبوية،  وأن لا يخشوا اللاعقلانية  وألا يُضعفوا الصحافة بإخفاء الحقيقة أو كبتها خوفاً من أن لا يُفهموا.

“يجب أن نقدم سياقا عقلانيا مبنيا على الحقائق ويجب أن نسعى لتغيير مشاعر الناس الذين لا يفهمون بشكل كامل قصة الهجرة” يقول كالابريزي.

ولكن كيف يمكن فعل ذلك؟ وخاصة في دولة مثل إيطاليا حيث المشاعر العنصرية يمكن أن تكون قوية ، وحيث كانت العنصرية قبل سنوات قليلة فقط مستفحلة لدرجة أن الصحفيين والمحررين اجتمعوا لإطلاق “ميثاق روما” وهو جهد غير مسبوق لتحسين التغطية الصحفية للأقليات العرقية.

“في البداية، من المهم التصرف بأسلوب غير أيديولوجي ويشي بالمصداقية” يقول كالابريزي “يجب أن نعمل بجد للحصول على الحقائق وفهم خلفية القصة ومن ثم شرح ما يعنيه كل هذا.”

ويقول إن “لا ستامبا” بدأت هذا العمل قبل خمسة أعوام عندما بدأت أول إنزالات المهاجرين في جزيرة لامبيدوسا، ووقتها، يقول كالابريزي، كانت حكومة سيلفيو بيرلسكوني تتعاون مع حزب عنصري بشكل علني هو حزب “رابطة الشمال” وأطلقت حملة لإقناع الإيطاليين بأن البلاد تتعرض للحصار والغزو من جهة البحر.

بدأ صحفيو “لا ستامبا” تحقيقاً استمر لفترة طويلة ووجدوا أن الأغلبية الواسعة من المهاجرين إلى إيطاليا تأتي عبر البر (من البلقان) وليس البحر وأن معظم المهاجرين كانوا يتجهون لمناطق أخرى في أوروبا خاصة الشمال .. لم يكن هناك غزو.

أخذت القصة منحى درامي ومأسوي في الثالث من أكتوبر 2013 بالقرب من لامبيدوسا عندما مات 366 شخصاً كانوا على متن ظهر مركب غرق بعد أن كان قادماً من ليبيا، وكان ذلك أحد أسوأ الكوارث الإنسانية في المتوسط.

استجابت الحكومة الإيطالية بإيقاف العمليات الأمنية ونشر خمسة قطع بحرية و900 جندي لمنع مآسي أخرى عن طريق إنقاذ المعرضون للخطر في السفن التي تقل أعداد أكبر من طاقتها أو غير المتوازنة.

أوائل هذا العام تعرضت هذه السياسة لتحدٍ خلال الحملات الإنتخابية للبرلمان الأوروبي حيث شنت بعض بعض المجموعات السياسية، ومنها رابطة الشمال، حملة قاسية ضد هذه السياسة بالرغم من أنها تتماشى مع التزامات إيطاليا وفق القانون الدولي.

الهدف من الحملة كان تسميم الرأي العام ضد المهاجرين، يقول كالابريزي. الفكرة التي تم نشرها كانت أن ذلك لم يكن عملية إنقاذ بل كانت تهدف بدلاً من ذلك لمساعدة المهاجرين غير الشرعيين على الوصول لإيطاليا، والحجة الصاخبة للدعاية كانت منذرة بالشؤم: إسبانيا تدافع عن حدودها بإطلاق النار على المراكب غير الشرعية بينما في إيطاليا يذهب الجيش لينقذها.

وقال كالابريزي “هذه الدعاية تلعب على وتر خوف الإيطاليين الذين يعتقدون أن أن هذه المراكب ملآى بالرجال البالغين الذين قدموا من أفريقيا إلى إيطاليا للعمل في تهريب المخدرات أو السرقة أو القيام بأعمال إرهابية.”

كان رد جريدته هو القيام بتحقيق والحصول على الحقائق وشرح السياق وحكي القصة بتجرد ودحض الأساطير. وقال كالابريزي “في البداية ذهبنا جميعاً للبحث عن الناجين من حادث تحطم المركب في الثالث من أكتوبر ولرؤية المكان الذي انتهوا إليه. وجدنا أن معظم هؤلاء الأشخاص هم شباب هربوا من إريتريا ومن الجيش ولم يبق أي منهم في إيطاليا حيث عثرنا عليهم في شمال أوروبا في السويد وهولندا وألمانيا.

بعد ذلك فحص الصحفيون ملفات 30 ألف مهاجر آخر أنقذتهم البحرية منذ أكتوبر ووجدوا أنهم لم يعودوا يأتون من آسيا (في الماضي كانوا يأتون من هناك غالباً خاصة من سريلانكا أو باكستان) أو من جنوب الصحراء الأفريقية ويبحثون بشكل أساسي عن عمل، بل المهاجرون اليوم بشكل كبير هم أسر تصحب اطفالاً هاربين من سوريا وليبيا ومالي وكلها \ول عصفت بها الحرب الأهلية والصراع الإجتماعي.

“كيف تحكي القصة” هو أمر حيوي، يقول كالابريزي. “من المهم تسمية كل شيء بمسماه السليم يجب أن تكون الصحافة مسئولة في استخدامها للكلمات: إذا قلنا إن بارجة وصلت من ليبيا وعلى متنها ثلاثمائة مهاجر غير شرعي فهذا يحفز شعور سلبياً لدى القارئ وإذا شرحنا أن على هذا القارب مئة أسرة سورية و133 طفلاً فإن رد الفعل يكون مختلف تماماً.”

قبل أربعة أيام من الإنتخابات الأوروبية وفي لحظة كان فيها الهجوم على المهاجرين قوياً، أخذ كالابريزي مبادرة تحريرية مصممة لصد البروباجندا والكراهية وتقديم منظور مختلف.

“وضعت على الصحفة الأولى صورة لقارب وكتبت مقالاً لمحاولة عكس مفهوم القارئ،” يقول كالابريزي وجاء في مقاله:

“أصبح الحديث عن المهاجرين الآن شديد الصعوبة فلا أحد يملك الصبر ليسمع. من هم أكثر اعتدالاً يظلون صامتين بينما يقول آخرون إما “أعيدوا القوارب إلى وجهتها” أو “غضوا البصر بينما تغرق أو تتحطم.”

“تم التعامل مع المسألة بالمصطلحات الإقتصادية فقط: كلفة الإنقاذ والضيافة والتهديد الذي يمثله المهاجرون للأمن أو لسوق عملنا المتهالك بالأصل.”

“نحن نختار أن نجادل بعقلانية وأن ننظر للأرقام وأن نوضح أن الكثير جداً من هؤلاء المهاجرين يستقرون في ألمانيا أو فرنسا أو السويد، نحن أرض ممر ولسنا هدفهم النهائي.”

ثم تقرأ أنت قصة الأم التي تمكنت من إبقاء ابنها ذو الثمانية أعوام طافياً لساعة قبل أن تموت عندما وصلت المساعدة، وتشعر بأن شيئاً ليس على ما يرام في داخلنا وخارجنا.

“أنظر إلى الصورة الموجودة في هذه الصفحة واكتشف أنه على متن هذا القارب الأحمر والأخضر المنجرف بلا هدى في البحر هناك 133 طفلاً تم تجفيفهم وانعاشهم وناموا تحت غطاء بفضل البحرية الإيطالية التي أنقذتهم. هؤلاء سوريون فروا من الحرب مع آباءهم.”

“أنقذت عملية “مير نوستروم” (بحرنا) 30 ألف حياة منذ أكتوبر 2013 ويرى الكثيرون أن هذا تقصير وأن هذه المساعدة يجب أن توقف في أقرب وقت، لكن ربما هي كذلك يد المساعدة الوحيدة التي نمدها نحو سلسلة من الصراعات التي لا نريد أن نراها.”

“رياضتنا الوطنية هي انتقاد إيطاليا وقول إن الوطن فاشل وأن لا شيء يستحق الدفاع عنه، لكن ماذا إذا كان خلاصنا هو في إعادة إكتشاف أننا قادرين على أن نكون بشر؟ على الأرجح سأجلب على نفسي قدراً من الانتقاد لكني أريد أن أقول أنني فخور بالإنتماء لوطن يرسل الجيش لإنقاذ الأسر وليس لإطلاق النار عليهم.”

أخذ كالابريزي مخاطرة تحريرية لكنه يقول إن الامر يستحق المخاطرة “تلقيت بعض تعليقات السباب وبعض التعليقات تتهمني بانعدام المسئولية لكن في الوقت ذاته تلقيت مئات الرسائل البريدية الإليكترونية والرسائل على تويتر أو فيسبوك تشكرني على ما فعلت.”

ويقول كالابريزي إن التجربة تكشف لماذا يجب أن تظهر الصحافة والإعلام شجاعة أكبر في في حكي قصة المهاجرين كاملة وبحس إنساني. ويقول “مشكلة الهجرة موجودة ويجب التعامل معها. لكن دور الصحيفة يجب أن يكون إبقاء النقاش في إطاره الصحيح. يجب أن نحافظ على عقلانية النقاش وألا ترهبنا أو تفزعنا عدوانية السياسة أو شبكات التواصل الإجتماعي.”

.

http://ethicaljournalismnetwork.org/

 هذه المقالة برعاية  شبكة الصحافة الأخلاقية   ، وهي منظمة إعلامية  غير ربحية تدعو إلى الصحافة الأخلاقية والحكم الرشيد والتنظيم المستقل لوسائل الإعلام. تم إنشاؤها في عام 2011 في إطار حملة مهنية  لتعزيز مهنة الصحافة. يمكن قراءة النسخة الأصلية لهذه المقال بالإنجليزية  على هذا الرابط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى