إعلام

إيهاب عبدالحميد يكتب عن تغييرات “فيسبوك”: معضلة الأخبار الزائفة

تغييرات فيسبوك.. عصر جديد للإعلام! (2-2)

 

BERLIN, GERMANY – JANUARY 18: Company Logo of facebook on January 18, 2016 in Berlin, Germany. (Photo by Thomas Trutschel/Photothek via Getty Images)

إيهاب عبد الحميد*

ناقشنا في الجزء السابق من المقالة، الأسبوع الماضي، الإجراءات الأخيرة التي اتخذها فيسبوك بغرض تقليص ظهور “أخبار” المؤسسات الإعلامية على قسم “آخر الأخبار”، في مقابل زيادة منشورات العائلة والأصدقاء. وتطرقنا إلى الأزمة التي ربما يكون الموقع العملاق وجد نفسه فيها، وكيف حاز سلطة ضخمة ربما لم يكن يقصدها.

في هذا الجزء الثاني والأخير، نتطرق إلى المشكلات العملية التي يواجهها فيسبوك، وإلى تأثيرات قراراته الأخيرة على المؤسسات الإعلامية.

 

هل يخشى فيسبوك من إجراءات تهدد وجوده؟

من هنا، يواجه فيسبوك معضلة حقيقية في علاقته بالديمقراطية. هذه المعضلة ظلت تتفاقم في الآونة الأخيرة، وصولا إلى المجالس التشريعية في كبرى دول العالم “الديمقراطي”. وربما وجد فيسبوك نفسه، من خلال لعبه لدور لم يكن يقصده، بحد ما يُفهم من كلام زوكربرج، عرضة لهجمة عالمية تهدد وجوده ذاته.

مثالان بارزان أسهما في مخاوف الدول “الديمقراطية” من تأثير فيسبوك “اللا-ديمقراطي”:

الأول: مزاعم التلاعب في الاستفتاء البريطاني على الانفصال من الاتحاد الأوروبي، عن طريق “لجان إلكترونية روسية”.

والثاني: مزاعم التلاعب في الانتخابات الأمريكية الأخيرة، أيضا عن طريق “لجان إلكترونية روسية”.

لن نخوض هنا في التفاصيل، التحقيقات الاستقصائية، لجان الاستماع، وردود فيسبوك واعتذاراته في تلك القضايا. يكفي أن نذكر أن خبرا زائفا يزعم أن “بابا الفاتيكان يدعم ترامب” اجتذب عددا من القراء أكثر من أخبار المنظمات الإخبارية “الموثوقة”. فإذا كان هذا ما يفعله “خبر زائف” واحد، لنا أن نتخيل تأثير سيل من الأخبار الزائفة على الديمقراطية.

العام الماضي، صدر قانون ألماني أصبح يسمى بـ”قانون فيسبوك“، يمنح الحكومة الألمانية حق تغريم وسائل الإعلام الاجتماعي التي تضم أكثر من مليوني مستخدم، بغرامات مالية (تصل إلى 50 مليون يورو). وهو ما دعا فيسبوك إلى تعيين مئات المراجعين لفلترة المحتوى في ألمانيا وحدها.

كان القانون متعلق بخطابات الكراهية، والغرامة ليست أكثر من قطرة في بحر فيسبوك. لكنه نموذج على ما يمكن أن يواجهه الموقع العملاق إذا ما قرر المشرعون شن هجماتهم عليه.

وينقلنا هذا إلى المزيد من الحديث عن الأخبار الزائفة.

معضلة الأخبار الزائفة

في بيانه الأخير، أعلن زوكربرج عن تفعيل التقليص الإخباري على فيسبوك. قبل الإعلان كانت نسبة المحتوى “الإعلامي” القادم من “المؤسسات الإعلامية” تساوي 5% من محتوى المنشورات التي يراها المستخدم. بعد الإعلان، تم تقليص تلك النسبة مباشرة إلى 4% (قد تبدو نسبة ضئيلة، لكنها تعني فعليا أن المؤسسات الإعلامية ستفقد 20% من فرص ظهورها على فيسبوك في خطوة واحدة.. وهذه هي الخطوة الأولى).

يعرف فيسبوك جيدا مشكلته مع الأخبار الزائفة، ويسعى منذ نحو عامين لإدارة حوار مع المؤسسات الإعلامية حول هذا الموضوع. لكن كيف لنظام قائم على “الخوارزميات” أن يفصل بين الأخبار الحقيقية والزائفة؟

في بيانه الثاني (19 يناير)، أوضح زوكربرج أن الأخبار ستظل تظهر، لكن من “عدد أقل من الناشرين”. ستظهر الأخبار أكثر من “المصادر الموثوقة”. بداية من الأسبوع الجاري ستعمم التجربة في الولايات المتحدة، ومن المنتظر أن تشهد “المواقع الموثوقة” زيادة في التوزيع مقارنة بـ”المواقع غير الموثوقة”.

لكن كيف تتحدد “الموثوقية” في المقام الأول؟ هل سيضع فيسبوك “قائمة بيضاء” بالمواقع الإخبارية الجديرة بالوصول إلى مستخدميه؟

يبدو أن ذلك ما لا يرغب في فيسبوك، ويفضل ترك الأمر للجمهور، أن يحدد “المجتمع” موثوقية المصادر، بحد تعبير زوكربرج.

المجتمع مرة أخرى؟ هكذا يسأل المعارضون. من هو “مجتمع فيسبوك”؟ اثنان مليار من البشر؟ أليس هذا المجتمع هو الذي أقبل على الأخبار الزائفة استهلاكا ونشرا؟ هل سيحل ذلك المشكلة أم سيعود بها إلى نقطة الصفر؟

لا أحد يعرف إجابة السؤال: هناك اقتراحات مختلفة، منها اختيار مشاركين “ممثلين” أو “مميزين” هم من يحق لهم تحديد الموثوقية. والظاهر أن فيسبوك قد يجرب في هذا الاتجاه، وفي اتجاهات أخرى عديدة، سعيا لحل هذه المعضلة، في الآونة القادمة.

أرباح أقل أم أكثر لفيسبوك؟

السؤال التالي في مجموعة الأسئلة التي أثارتها تصريحات زوكربرج هو: كيف ستؤثر تلك القرارات على أرباح الشركة؟

في العدد السابق، ذكرنا أن سهم الشركة تراجع بنسبة 4% فور إعلان القرارات الجديدة. لكن يبدو أن ذلك كان مجرد تذبذب وقتي، إذ سرعان ما عاد السهم إلى الصعود مرة أخرى. فلماذا؟
من ناحية، كان الانطباع الأول أن القرارات الجديدة سوف تقلل الزمن الذي يقضيه المستخدم على الموقع، وستقلل عدد مرات ظهور العلامات التجارية (بما فيها المؤسسات الإعلامية)، مما يؤثر مباشرة على كمية الأرباح المتحققة من الإعلانات.

لكن من الناحية الأخرى، قد يتحرك ميزان العرض والطلب لمعادلة هذا الأثر. فالمساحات الإعلانية الأقل، تعني عرضا أقل، وتعني طلبا أكثر، وهو ما يؤدي في النهاية، بطبيعة الحال، إلى زيادة أسعار تلك المساحات الإعلانية، ويسبب مخاوف حقيقية للعلامات التجارية، خاصة للمؤسسات الإعلامية التي أصبحت معتمدة بشكل كبير على الموقع العملاق.

هل سيكون ذلك “أفضل” أم “أسوأ” للمؤسسات الإعلامية؟

إخفاء “الأخبار” من قسم “آخر الأخبار” قد يكون أحد أفضل الأخبار لصناع الأخبار، بحسب تعبير الصحفي “مارك ليتل” على موقع “نيفا لابس”.

بالتأكيد، هناك زاوية جيدة للنظر إلى الأمور. لطالما ارتاب الإعلام التقليدي في فيسبوك. لطالما هاجمه بوصفه محتكرا للأخبار، “رئيس التحرير الكوني”. والآن: إذا سحب فيسبوك يده، ألا يمكن أن نرى في ذلك خبرا طيبا؟

لا شك أن المؤسسات الإعلامية سوف تحتاج إلى تغيير جذري في “نموذج البيزنس” الخاص بها. في سابق الأيام (قبل أن يعلن زوكربرج قراراته الجديدة)، كانت المؤسسات الإعلامية تتسابق في “ماراثون الترافيك”، سباق طويل من أجل “الحجم”، من أجل “أكبر عدد” من القراء.

لكن يبدو أن الماراثون الذي أطلقه فيسبوك قد ألغي فجأة، بينما العداؤون في منتصف السباق، وانصرف الحكام، والجمهور، ساحبين معهم شريط خط النهاية.

في الأيام القادمة، قد لا يعود “حجم الترافيك” هو الفيصل، ولكن الصلة بكل مستخدم على حدة، العمق، الدقة، المعنى، المحلية، الملاءمة. كلها مفاهيم ظلت مطروقة على الطاولة، وحان الوقت لتفعيلها.

نعم، ربما نكون بصدد تغيير حقيقي في “نموذج البيزنس”، بعضه يعود بنا إلى الماضي (حيث الإعلام الجاد الخاص بالأيام الخوالي)، وبعضه ينتقل إلى المستقبل (حيث ابتكارات جديدة تواكب أنماط الاستهلاك الحديثة).

النموذج القائم على الترافيك، الذي يجعلك تضع مادتك على فيسبوك، مغازلا خوارزمياته، لكي تصل إلى أكبر عدد من القراء، يشاركون منشوراتك ليراها عدد أكبر من القراء، لتحصل في النهاية على حركة مرور كبيرة، تستطيع بيعها لـ”معلن” ما، من أجل تحقيق إيرادات؛ هذا النموذج قد يكون على وشك الانتهاء. ربما تحل محلها نماذج أخرى. أحد هذه النماذج قد يكون: صحافة جادة ووثيقة الصلة بالقارئ، مقابل اشتراكات أو عضويات، أو دفع مقابل القراءة، تعيد العلاقة المباشرة بين الإعلام والقارئ، من دون وساطة خوارزمية، ومن دون منافسة مع ملايين الأخبار الزائفة.

خلاصة:

لطالما ظلت المؤسسات الإعلامية (وخصوصا المؤسسات المصرية) تلهث في محاولة لتتبع خطى موقع فيسبوك العملاق؛ تسعى جاهدة لتعديل نماذج أعمالها، وتطوير منتجاتها، لتتواكب مع رؤية أصحاب الموقع. لم تكن هناك “شراكة” حقيقية بين الإعلام التقليدي والإعلام الاجتماعي. عندما قرر فيسبوك أن على الإعلام الاتجاه إلى زيادة إنتاج مقاطع الفيديو، جاهدت المؤسسات الإعلامية لتلبية هذا الطلب. الآن، يأتي فيسبوك ليقول إنه أصبح يعتبر مشاهدة “مقاطع الفيديو” نوع من الاستهلاك “السلبي” غير المرغوب (حيث يجلس المشاهد لدقائق أمام المقطع بدون أن يمد يده إلى لوحة المفاتيح للمشاركة برأيه).

ربما حان الوقت لكي تفكر وسائل الإعلام بشكل أكثر استقلالية. لا نقول إنها يجب أن “تنعزل” عن فيسبوك، وإنما يجب ألا تلقي بكل أوراقها فيه، وتعتمد عليه بصورة أساسية في صياغة نموذج البيزنس الخاص بها.

قد يبدو هذا الكلام مكررا، لكنه يصبح أكثر إلحاحا الآن، وسيزداد إلحاحه في الأيام القادمة. ونحن نرى أن الخروج من “حضَّانة” فيسبوك، أو على الأقل عقد شراكات “جادة” معه، يتطلب المزيد من الحوار والتنسيق داخل الميدان الإعلامي بوصفه صناعة، بغض النظر عن أية منافسات مهنية.

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

*صحافي وروائي مصري، عضو المكتب التنفيذي لمنتدى المحررين المصريين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى