ثقافة و فن

الخواجة مصري (4).. هنريش بروكش..”ابن الفراعنة” أهم من شمبليون!

أجانب أثروا في تاريخ المصريين ..الشخصية الرابعة

 هنريش بروكش في مصر

سلسلة يكتبها أحمد الفران*

شهد عام ١٨٢٨ وصول أول قطعة أثرية مصرية إلى مدينة برلين الألمانية أثناء حكم الملك البروسي فريدريك وليام الثالث، الذي عهد إلى الإيطالي جوزيبي باسالاكوا –تاجر الآثار- بجمع مجموعة متميزة من الأثار المصرية لتكون نواة للمتحف المصري ببرلين، وكان من بين تلك الأثار مجموعة نادرة من أوراق البردي المصرية القديمة مكونة من ٢٤ بردية، والتي عرفت فيما بعد باسم “برديات بروكش” أو “برديات برلين الكبرى”، نسبة إلى عالم المصريات الشهير هنريش بروكش، والتي يعود اكتشافها إلى الإيطالي جوزيبي باسالاكوا حينما عثر عليها بسقارة، ومن قام بترجمتها ونشرها هوعالم المصريات الألماني والتر رزينسكي عام 1909.

مهدت تلك البرديات طريق بروكش -وهو في السادسة عشر من عمره فقط- في حل لغز اللغة الديموطيقية، ليكون أول من نجح في قراءة هذه اللغة التي كانت الخط المبسط من الخط الهيراطيقي والذي استخدمه المصريين القدماء في تدوين النصوص الدينية والرسائل التجارية والقانونية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقد تفوق بروكش على كل علماء المصريات في القرن التاسع عشر، ويستحق أن يوضع في نفس مكانة شامبليون وربما أعلى، إذ لم يستطع بروكش قراءة اللغة الديموطيقية فحسب، بل كان أول من اكتشف الحروف السبعة التي دخلت على اللغة المصرية في العهد البطلمي وهو ما أثبته في “قاموس اللغة الديموطيقية” والذي لا يمكن أن يستغني عنه أي دارس لعلوم المصريات، إلى جانب أنه أول مدير لمدرسة الألسن في مصر.

أجج اكتشاف بروكش لحروف اللغة الديموطيقية الصراع الفرنسي الإنجليزي الألماني على السيطرة على علوم المصريات آنذاك، أذ بدأت الغلبة تميل إلى العلماء الألمان في تلك الفترة، الأمر الذي دفع الخديوي إسماعيل إلى أصدر أوامره بإنشاء أول مدرسة للألسن “مدرسة اللسان المصري والحبشي” في مصر في أغسطس ١٨٦٩ وعهد بإدارتها إلى بروكش.

بالفعل اختيرت اللغة الألمانية لتكون أول لغة يتم تعليمها للطلاب بمدرسة الألسن، إلى جانب دراسة اللغة الحبشية والخط الهيروغليفي التي كانت تتعلق بمشروعات إسماعيل في السيطرة على منابع النيل وهو ما يوضحه الأمر العالي بتاريخ ١٣ رجب ١٢٨٥ “١٨٦٩”.

واقترح بروكش على الخديوي إسماعيل إرسال أول بعثة علمية إلى النمسا وبروسيا “ألمانيا” لتعلم اللغة الألمانية والإقامة في المدراس هناك لمدة لا تقل عن عام، ويتم اختيارهم عن طريق بروكش ويرافقهم إلى هناك وعند عودتهم يعينون مدرسين بالمدراس المصرية، إذ كان الخديوي يفكر في البدء في تعليم اللغة الألمانية بالمدراس المصرية، ولم يدخل مقترحه حيذ التنفيذ ولم ترسل الحكومة المصرية أي بعثة علمية إلى النمسا أو بروسيا، بل أغلق الخديوي مدرسة الألسن بعد سبع أعوام فقط عام ١٨٧٦، مع تغلل النفوذ الأنجلو الفرنسي بمصر وفشل الحملة العسكرية على الحبشة.

وعلى الرغم من السنوات القليلة التي عاشتها أول مدرسة للألسن في مصر، إلا أنها استطاعت تخريج مجموعة من الطلاب المصريين النابهين الذي أثروا في تمصير علوم المصريات وكان على رأسهم أحمد كمال بك (١٨٥١-١٩٢٣) رائد الأثريين المصريين ومؤسس المدرسة المصرية لعلم الآثار المصرية.

لقد كان بروكش مؤهلاً بلا أدنى شك إلى تولى إدارة مصلحة الآثار المصرية، ولكن النفوذ الفرنسي في مصر حال دون تحقيق ذلك، والذي قصر تولى إدارة مصلحة الآثار على الفرنسيين، فلا يقل دوره باي حال من الأحوال عن دور شامبليون أو أي من العلماء الفرنسيين، ولكن افتقاد بروكش لدعم السياسي حال بينه وبين تحقيق أحلامه.

ابن الفراعنة!!

ولد هنريش فرديناند كارل بروكش في ١٨ فبراير ١٨٢٧ ببرلين وسط عائلة عسكرية فقد كان والده إرنست ويليام ضابط بسلاح الفرسان بالجيش البرويسي، بعد مولده كان والديه يخططان لتعميده على المذهب البروتستانتي، إلا أن جده كارل بروكش كان له رأي أخر فقد استطاع تعميده على المذهب الكاثوليكي، منذ صغره أظهر اهتماماً بالغاً بقراءة أعمال المؤرخين اليونانيين والإنجيل، ورافق والده في حضور سباقات الخيول بالصالة الفرنسية ببرلين، وفي عام ١٨٣٤ إلتحق بروكش بمدرسة كولنيتشس الثانوية ” Köllnische” اشتهر بين زملائه واساتذته بأنها تلميذا نجيباً، وأظهر ميالاً شديداً إلى علوم المصريات، وارتبط بالفراعنة وحضارتهم ارتباطاً وثيقاً.

أنداك كانت مجموعة من الآثار المصرية قد استقرت بمتحف برلين بقلعة مونبيجو بوسط برلين تحت إشراف الإيطالي جوزيبي باسالاكا، وقام بتنظيمها وعرضها على الباحثين والمهتمين بعلوم المصريات، لتتاح أول فرصة لبروكش لملامسة الحضارة المصرية عن قرب والتعمق في دراستها، وفي قاعات المتحف ألتقي بروكش برائد علوم المصريات الألماني ريتشارد ليبسيوس (١٨١٠-١٨٨٤)، بيد أن شيء ما عكر صفو العلاقة بين ليبسيوس والفتى الصغير بروكش، ليكون انطباع ليبسيوس عنه أنه طالب دون المستوى المتوسط، ولم يسمح له بحضور محاضراته.

فك رموز اللغة الديموطيقية

في عام ١٨٤٥ بدأت أولى محاولات بروكش في فك رموز اللغة الديموطيقية، وبالفعل نجح بروكش وقام بنشر أول قاموس للغة الديموطيقية تحت عنوان ” Scriptura Aegyptiorum demotica” والذي شكل حدث علمي فريد بكل المقايس ومنعطف جديد في دراسة علوم المصريات، وذاع صيته بشكل كبير، واستقبله الملك البروسي فريدريك وليام الرابع، وقدم الدعم الكامل له ومكنه من استكمال دراسته خارج بروسيا وزيارة متاحف باريس ولندن وتورينو وليدن.

عاد بروكش إلى برلين عام ١٨٥١، ليتزوج من بولين هارك، والتي أنجب منها فيما بعد بنت واحدة وثلاث ذكور، ووفق بيانات أخرى أنجب منها بنتان وأربعة ذكور.

إلى مصر!!

بعد انتهائه من جولاته العلمية في متاحف أوروبا أرسلته الحكومة البروسية في أولى رحلاته العلمية إلى مصر في عام ١٨٥٣، وفيها كان لقاءه الأول مع المستكشف الفرنسي وعالم المصريات أوجست مارييت، واشترك سوياً في بعض الحفائر الأثرية بممفيس، ولكنه عاد سريعاً إلى برلين في ١٨٥٤، وتم تعيينه محاضراً بجامعة برلين ومساعداً لجوزيبي في إدارة المتحف المصري ببرلين.

عاد إلى مصر في رحلته الثانية بين عامي ١٨٥٧ و ١٨٥٨ استكمل خلالها دراسته الميدانية والاستكشافية لعلوم المصريات، ثم العودة إلى برلين مرة أخرى لنشر نتائج تلك الدراسات، ومنها إلى مرافقة البعثة البروسية الرسمية إلى بلاد فارس “إيران من مايو ١٨٦٠ إلى يونيه ١٨٦١.

وفي خريف ١٨٦٤ عين قنصل بروسيا بالقاهرة، وبدأ في تأسيس أول مجلة للغة المصرية القديمة والآثار في نفس العام، لتكون بذلك أول مجلة علمية مصرية، وفي عام ١٨٦٧ نشر له قاموس الهيروغليفية – الديموطيقية في كتاب من أربع مجلدات ، والذي أكمله بعد ١٣ عاماً في ١٨٨٠ بثلاثة مجلدات أخرى.

عاد بروكش إلى برلين مرة أخرى في عام ١٨٦٨ ليقيم مراسم زواجه الثاني، والذي خلف عنه خمسة أبناء أخرين كان من بينها الطبيب الألماني المعروف تيودور بروكش.

مدير أول مدرسة مصرية للألسن

تولى بروكش إدارة أول مدرسة مصرية للألسن والتي أسست في أغسطس ١٨٦٩ تحت اسم مدرسة اللسان المصري والحبشي، ومنحة الخديوي إسماعيل رتبة البكوية في عام ١٨٧٣، وكان من بين الفريق الذي مثل مصر في المعرض العالمي بفيينا بنفس العام، ثم مثل مصر في المعرض الصناعي بفلادلفيا عام ١٨٧٧، ومع عزل إسماعيل من عرشه عاد إلى برلين.

ولكن حلم إدارة مصلحة الآثار المصرية كان يراود بروكش، وعاد إلى مصر على أمل أن يخلف مارييت في إدارة مصلحة الآثار، إلا أن النفوذ الفرنسي في مصر حال بينه وبين تحقيق حلمه، فاقتصرت إدارة المصلحة على الفرنسيين فقط، ولمجهوداته العظيمة منحه الخديوي توفيق رتبة الباشوية عام ١٨٨١، وفي نفس العام عاد إلى النمسا لمرافقة ولي العهد النمساوي إلى الخارج، ثم مرافقة ألأمير البروسي فريدريش نيكولاس في جولاته بمصر وسوريا بين عامي ١٨٨٢ و ١٨٨٣، ومنها إلى إيران ليعمل ضمن البعثة الدبلوماسية الألمانية في عام ١٨٨٤.

الوداع في تابوت فرعوني

في عام ١٨٩١ كانت زيارته الأخيرة إلى مصر والصحراء الليبية، والتي استمرت حتى عام ١٨٩٢ قام خلالها بجمع عدد من الآثار المصرية وإرسالها إلى برلين، وفي سن ال ٦٧ وافته المنية في ٩ سبتمبر ١٨٩٤ في منزله بشارع شارلوتنبورغ ببرلين، وأجريت مراسم الدفن في بإنجيلية لويسنفريدهوف الثالث، واختار لنفسه تابوت فرعوني من الجرانيت الأسواني الأحمر حتى يدفن فيه، وزين التابوت بالأشكال الفرعونية وزهرة اللوتس، لتكون الحضارة المصرية غطاءً له في مماته كما كانت في حياته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أحمد الفران (باحث في السياسات الثقافية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى