إعلاممجتمع

واشنطن بوست: كيف يتحرك المصريون لمواجهة العنف الجنسي؟

واشنطن بوست: كيف يتحرك المصريون لمواجهة العنف الجنسي؟

واشنطن بوست – فيكي لانجوهر

 

– ترجمة: محمد الصباغ

 

بدأ نشطاء وناشطات من الشباب في مصر عام 2012 عددا من المجموعات التي ركّزت مجهودها للقضاء على العنف الجنسي في المجال العام. منذ ذلك الحين وهم يسعون إلى إنهاء التحرش الجنسي في الشارع والمواصلات العامة، والذي يبدأ من كلمة ”يا قطة“ وحتى إيذاء أجساد النساء؛ بالإضافة إلى سعيهم لإيقاف الاعتداء الجنسي الجماعي في الشوارع والميادين الرئيسية خلال أيام عيد الأضحى أو المظاهرات السياسية، حيث قام مجموعة من الرجال بالتحرش بسيدة وتعريتها وفي بعض الحالات قاموا بعملية الاغتصاب بآلات حادة.

يعبر هذا النشاط عن نوع التغيير الذي عادة ما يغيب عن علماء السياسة. يركز النشطاء المهتمين بالديمقراطية وعلماء السياسة معاً على كم التغييرات التي حدثت في السياسة الانتخابية، والقوانين والدساتير. لكنهم لا يهتمون بتقييم التغييرات الملموسة في عادات المجتمع والتي قد يكون لها تأثير قوي على ضمان حرية المواطنين في ممارستهم للحياة اليومية. ومع أن مصر لم تشهد الازدهار الديمقراطي الذي أمل فيه الكثيرون بعد الانتفاضات الشعبية المتتالية، إلا أنه ظهرت خطابات تدور حول القضايا الاجتماعية الرئيسية بشكل بارز.

خلال العقد الذي سبق الإطاحة بمبارك في فبراير 2011، ركز نشطاء حقوق المرأة في مصر على تحسين حقوق المرأة في المجال العام مثل زيادة طرق الحصول على الطلاق ورفع السن القانوني لزواج الفتيات. قاد هذا النشاط محاميات، وأساتذة جامعيات وأخريات غالبًا ما كانوا في منتصف أعمارهم.

وعلى العكس من النشاط المناصر لحقوق المرأة في السابق، لم يكن الهدف الرئيسي من العمل ضد العنف الجنسي العام منذ عام 2012، هو التغيير القانوني. حيث قاد هذا النشاط منظمات مثل “بسمة” و”ضد التحرش” ومجموعة ”قوة ضد التحرش والاعتداء الجنسي“. وبينما تفاخر النشطاء في 2014 بالتعديلات على قانون التحرش، كان من بين الأهداف القصيرة الأمد لهذه المجموعات هو منع حوادث العنف الجنسي العام عبر التدخل بشكل مباشر وجسدي لوقفها -جعل التضييق الذي فرضه الرئيس عبدالفتاح السيسي على النشطاء في الأماكن العامة من ذلك أمر شبه مستحيل. ويبقى الهدف طويل الأمد هو تغيير الأفكار والثقافة التي عادة ما تستخدم لتبرير العنف الجنسي العام.

 

ما الذي أدى لظهور هذا النوع من النشاط، ولماذا يعد مهماً؟

بالإضافة إلى هذه الحركات الشابة الجديدة، حدث تغير كبير في التليفزيون المصري بعد 2011. فاتسعت دائرة النقاش حول العنف الجنسي العام. وساعد هذا الأمر في نشر أمرين رئيسيين لمواجهة العنف الجنسي في المجال العام: الأول هو أن المرتكبين يتورطون في سلوك إجرامي غير مقبول، لا يبرره الزي الذي ترتديه المرأة. أما الأمر الثاني فهو أن مسؤولية مواجهة هذه الظاهرة تقع على عاتق كل المصريين، سواء المواطنين العاديين أو المسؤولين.

عادة ما تكون نسبة مشاهدة القنوات الفضائية الخاصة في مصر من البرامج التي تبثها القنوات الحكومية. ومع أن التغطية الإعلامية لقضية العنف الجنسي العام كانت قد بدأ تناولها على الفضائيات منذ السنوات الأخيرة لحكم مبارك، إلا أنه وحتى ديسمبر 2010 كانت تغطية عرضية وأقرب لأن تكون رد فعل على الحوادث الكبيرة.

في ديسمبر 2006، قام مجموعة من الشباب بالاعتداء جنسياً على سيدة أمام إحدى سينمات القاهرة خلال العيد، ولم تتعرض أي قناة تليفزيونية لذلك الاعتداء لمدة 3 أيام حتى ظهرت الناشطة نوارة نجم في برنامج ”العاشرة مساء“  مع المذيعة منى الشاذلي، وكان من المفترض مناقشة المسلسلات الرمضانية، إلا أن نوارة اقترحت مناقشة الإعتداءات بدلاً من ذلك وأجريت الشاذلي مداخلات من المشاهدين وطالبت وزير الداخلية بالرد. عادت الشاذلي لمناقشة قضايا التحرش في أكتوبر 2008 عندما استضافت نهى رشدي، أول امرأة تقاضي المتحرش بها.

وبدأت التغطية الإعلامية تصبح أكثر انتظاماً لقضايا العنف الجنسي العام في الشهرين الأخيرين قبل سقوط مبارك. ففي ديسمبر 2010 بدأ المذيعون في تغطية المبادرات الجديدة ضد العنف الجنسي. من بين ذلك كان لقاء مع إنجي غزلان، مؤسسة خريطة التحرش، وهي أول منظمة تعمل من أجل القضاء على العنف الجنسي والتي كانت قد افتتحت قبل شهر من اللقاء.

وفي الأشهر التي أعقبت سقوط  مبارك، تغير مشهد القنوات الفضائية في مصر بشكل درامي. فبدلاً من وجود 5 قنوات خاصة في يناير 2011، سمح المجلس الأعلى للقوات المسلحة بترخيص المزيد، وبحلول سبتمبر 2011، كان هناك ما يصل إلى 16 قناة فضائية جديدة، من بينها قناة مصر 25 التابعة للإخوان المسلمين. ومع زيادة التنوع الأيدولوجي في البرامج الفضائية، ظهرت أنواع مختلفة من البرامج مثل برنامج الصحافة الاستقصائية ”أول الخيط“ وبرامج ساخرة مثل ”حكومة نص الليل“ و برنامج باسم يوسف ”البرنامج“. وتحدثت هذه البرامج عن الجهد الذي تقوم به منظمات ضد العنف الجنسي، وعبرت عن رؤيتها.

من الممكن، لكنه من غير المرجح، أن يكون الاهتمام الزائد في التغطية التليفزيونية لقضية العنف الجنسي عقب الإطاحة بمبارك، هو مجرد انعكاس طبيعي للارتفاع الكبير في هذه الظاهرة عقب 2011. لكن هذا لا ينفي أن التحرش الجنسي كان منتشرًا وقت حكم مبارك. فوفقاً لإحصائية أجراها المركز المصري لحقوق المرأة في 3 محافظات عام 2008، وجد أن 83% من النساء تعرضن للتحرش و46% منهن يواجهن الظاهرة بشكل يومي.

وفي عام 2013، أظهرت إحصائية للأمم المتحدة أجريت في 7 محافظات أن 99% من النساء تعرضن للتحرش، و49% يتعرضن له بشكل يومي.لكن التغير الأكثر وضوحا بعد عام 2011 هو ظهور الاعتداءات الجنسية الجماعية في المظاهرات السياسية.

ومع ذلك، فقد كان هناك اعتداءات جماعية وقت حكم مبارك، مثل هجمات العيد عام 2006. لكن أرقام ووحشية هذه الهجمات ارتفعت بشكل درامي خلال المظاهرات في الفترة ما بين 2012 و 2014. وتبع ذلك تأسيس مجموعات مثل “حراس التحرير” و”قوة مواجهة التحرش الجنسي“ لإنقاذ النساء من الاعتداءات في مظاهرات التحرير. اتخدت عدة برامج تليفزيونية هذه الهجمات كنقطة انطلاق لمناقشة موضوع العنف الجنسي بشكل عام. لكن نشاط هذه المنظمات المناهضة للعنف الجنسي لعب أيضاً دوراً رئيسياً في دفع القضية إلى السطح. كما تناولت البرامج التليفزيونية طريقة تعامل منظمات ضد التحرش مع الاعتدءات، بالإضافة إلى تخصيص مساحة كبيرة من وقت البث للنشطاء ليعرضوا آرائهم حول هذا الأمر.

 

تغيير الخطابات السائدة: هل زيّ المرأة هو السبب في عملية التحرش؟

التبرير السائد للعنف الجنسي العام يركِّز على أن مظهر المرأة ”غير اللائق“ هو السبب الرئيسي للتحرش -وهو الأمر الذي قد يشمل عدم ارتدائها للحجاب أو ارتداء ملابس تتخذ شكل الجسد. فوفقاً لإحصائية الأمم المتحدة عام 2013، كان السبب الأكثر تكرارًا بين الرجال لتبرير التحرش بالمرأة هو زيها، فأشار أكثر من 73% من الرجال إلى أن زي الفتاة غير اللائق والذي يكشف أجزاء من جسدها هو من الأسباب الرئيسية للتحرش.

واجهت بعض البرامج الفضائية هذا التبرير وعلى رأسها البرنامج الكوميدي ”حكومة نص الليل“ في حلقة أبريل 2013، حيث ظهر المذيع محاطاً ”بمانيكانات“ مغطاة بأغطية بيضاء، ساخراً من أن المرأة تتحمل مسؤولية عملية التحرش بها. كشف المذيع عن المانيكان الأول لنجده مجسداً لسيدة ترتدي بنطال ضيق ورداء بلا أكمام وسأل: ”ماذا عن تلك المرأة، ألا تطلب التحرش؟“ وكان كل ”مانيكان“ يتم الكشف عنه يظهر زياً متحفظاً بدرجة أكبر من الذي قبله. حتى وصل إلى الأخير وقال: ”ما شكل زي المرأة المحترمة التي لا تريد التعرض للتحرش في أثناء تحركها في الشارع؟“ وكشف الغطاء عن المانيكان لنجد الزي الذي عليه هو نقاب لا يظهر سوى العينين. ثم استضاف إحدى عضوات ”حراس التحرير“، ماري عبدالله، للحديث حول الحقائق والخرافات المحيطة بظاهرة العنف الجنسي.

ولنرى إلى أي حد وصلت إليه مواجهة الفكرة التي تلقي باللوم على المرأة، يمكن متابعة بدء رفض ذلك الأمر في البرامج الإسلامية. ففي أكتوبر 2012، وخلال حلقة من برنامج ”ست البنات“ على قناة مصر 25 التابعة للإخوان المسلمين، رفضت المذيعة شاهيناز محمود فكرة أن السيدات مسؤولات عن التحرش، كما أثنت على اللواتي تقدمن ببلاغات عن عمليات التحرش ضدهن. في حين أشارت مذيعة أخرى، نور عبدالله، إلى أن الزي ”الجرئ“ قد يسهل التحرش، وهو الأمر الذي رفضه طبيب نفسي كان ضيفًا على البرنامج، وأصر على أن حتى التعري بشكل عام لا يبرر التحرش، ودُعمت وجهة النظر هذه باستضافة نشطاء من منظمات ضد التحرش، والمشهورين بتكوين مجموعات لإيقاف عمليات التحرش بعيد الأضحى.

حتى القنوات السلفية التي أظهرت إهانات متكررة للمرأة في المناخ العام، لم تتجاهل الأمر. في فبراير 2013، وخلال حلقة من برنامج ”مصابيح البيوت“ على قناة الحافظ السلفية، ظهر داعية إسلامي وأستاذ بارز في القانون مع عضو بمجلس الشورى عن حزب الحرية والعدالة التابع للإخوان المسلمين الحاكم آنذاك، وأيمن ناجي من منظمة ضد التحرش، لمناقشة أسباب العنف الجنسي العام.

وكما هو توقع، اختلف الضيوف مع ناجي على دور زي المرأة، وأشار أستاذ القانون إلى أنه يُسهِّل التحرش، بينما رد ناجي بأن ”نحن –الرجال- لسنا حيوانات تسير في الشارع، لنسير خلف كل امرأة و نهاجمها.“ وما أثار الدهشة هو أن المذيع بالحلقة، أحمد بهاء، اعترض بشكل متكرر على مزاعم ضيوفه بأن الزي ”غير اللائق“ يُسهِّل من عملية العنف الجنسي، ثم أشار إلى أن فترات الستينيات والسبعينيات كان التحرش الجنسي أقل  مع أن أكثر النساء لم تكن ترتدين الحجاب وكانت ملابسهن أقصر وأكثر تحررًا.

وفي إشارة واضحة إلى تغير الخطاب المجتمعي، تم إيقاف المذيعة ريهام سعيد بعد بثها في أكتوبر الماضي صورًا خاصة لسيدة تم الاعتداء عليها بمول تجاري. حيث أشارت خلال برنامجها إلى أن الملابس الأكثر التزاما كان من الممكن أن تمنع مثل هذا الاعتداء، كما قام آنذاك المعلنين الأساسيين بالبرنامج بسحب رعايتهم.

يؤكد النشطاء على أن كل المواطنين يجب أن يواجهوا العنف الجنسي العام ويحاسبوا القادة على إهمال هذا الأمر. أشاد مختلف المذيعين من كل الاطياف السياسية  بعمل المواطنين اليومي ضد التحرش، من الليبرالي باسم يوسف، الذي أشاد بنشطاء قوة ضد التحرش وحراس التحرير ووصفهم بأنهم ”أشهاص يصنعون الفارق،“ إلى برنامج ست البنات الإخواني، حيث وصفوا النشطاء الضيوف بالرائعين والإيجابيين.

والأكثر أهمية هو تسهيل القنوات الفضائية المواجهات مع كل من الإسلاميين والقادة العسكريين. ففي نوفمبر 2012، ظهرت عزة سليمان مديرة المركز المصري لقضايا المرأة آنذاك، وقائدة مبادرة شفت تحرش، على قناة أون تي في ”الصورة الكاملة“. وفي الحلقة واجهت المذيعة ليليان داوود، سعد عمارة، القيادي بحزب الحرية والعدالة، بالتصريحات الاخيرة لقادة الإخوان المسلمين التي تُحمِّل المرأة مسؤولية التحرش، وبعدها تشاحن النشطاء مع عمارة ونادر بكار، المتحدث باسم حزب النور السلفي آنذاك.

وحتى مع تراجع الانتقادات في القنوات الفضائية لحكومة السيسي، دفعت عملية الاعتداء الجنسي على سيدة خلال احتفالات ضخمة بانتخاب السيسي رئيسا عام 2014، المذيعة لميس الحديدي المؤيدة للسيسي إلى انتقاد وزير الصحة بسبب الاستجابة الضعيفة من المستشفيات الحكومية في استقبالها من تتعرضن للتحرش ويحتجن لرعاية صحية.

من المبكر جداً الحديث عما إذا كان تغير الحوار حول العنف الجنسي العام في القنوات الفضائية، أدى إلى تراجع نسبة التحرش على الأرض. لكن هذا التطور وتغير الخطاب تذكرنا بما ينساه عادة علماء السياسة حول أن نتائج فترات الاضطراب السياسي لا يمكن قياسها من ناحية تغير المناخ السياسي فقط، وأن ”الثورات“ التي فشلت حتى الآن في تحقيق سياسات مستقرة وتحررية، يمكنها مع ذلك إحداث تغيرات اجتماعية هامة.

 

فيكي لانجوهر، أستاذ مساعد في العلوم السياسية بجامعة هولي كروس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى