سياسة

الجارديان: حكايات “الفتيات الرجال” في شوارع القاهرة

جارديان.. حكايات مرعبة عن “الفتيات الرجال” في  شوارع القاهرة

الجارديان: باتريك كينجسلي – ترجمة محمد الصباغ و محمد علي الدين.

منال وأحمد لا يشبهان بعضهما البعض. منال تحمل ابنها الصغير الذي يداعب حجابها. وخلفها  تبدو صورة أحمد معلقة على الحائط يرتدي فيها  قبعة بيسبول. هي أم صغيرة خجولة، وهو شاب عصبي. يبدوان كشخصين مختلفين. لكن منال تقول مشيرة إلى الصورة على الحائط ”هذا أنا، وتلك ملابسي الرجالية“ إنهما – منال وأحمد –  نفس الشخص.

نحن هنا في مأوى للنساء المشردات بالفسطاط بمصر القديمة جنوب القاهرة، أقدم منطقة في العاصمة المصرية. الكثير من النساء هنا أمثلة على أكثر ظاهرة مثيرة للجدل.

فتيات الشوارع، نساء مشردات وأطفالهن، في بعض الأحيان يرتدين ملابس كالرجال. منال 23 عاماً، أم لثلاثة أطفال جميعهم ولدوا في الشارع. منذ سن الثامنة وهي مشردة بلا مأوى ، لذا قامت بحلاقة رأسها وارتدت ملابس الأولاد. وعملت في وظائف عادة ما يعمل بها الرجال المصريون. عملت في أحد المقاهي، وقادت توكتوك. ومن لم يعرفها أطلق عليها اسم أحمد، والتصق الاسم بها منذ ذلك الحين.

تقول منال ”يحصل الأولاد على كامل حريتهم في الشارع، أما الفتيات فيختلف الأمر بالنسبة إليهن، لهذا  أردت  أن أكون صبياً.“

لمعرفة لماذا حدث ذلك، أو المحاولة على الأقل، يجب أن تدرك أنه يوجد أطفال يعيشون في الشوارع في مصر. هناك مشردون من الصغار في كل أنحاء العالم، منهم 1,6 مليون بالولايات المتحدة الامريكية وحدها.  لكن المشكلة في مصر واضحة بشكل كبير. آلاف الأطفال والمراهقين يجدون مكاناً لهم بين الأزقة والشوارع الرئيسية في القاهرة. والكثير منهم كمنال، يبقون في تلك الأماكن حتى في سن البلوغ.

الكثير من سكان القاهرة يرونهم فقط في إشارات المرور وعلى مقاهي الشيشة. هم الوجوه بدون أسماء التي تبيع لك المناديل أو تتوسل إليك من أجل النقود المعدنية من نافذة سيارتك ثم  تختفي. هم يقعون خارج الواقع الحي للقاهريين، وكنتيجة لذلك فأي نقاش عنهم يدور في نطاق غير واقعي. والأفكار  المطروحةعنهم  كانت ما بين  تلك البعيدة المنال – كمدينة خاصة بالمشردين- إلى المثيرة للإشمئزاز. أحد كتاب الأعمدة في الجرائد الكبيرة نادي بـ”حملات تطهير واسعة“ تكون فيها مصير أطفال الشوارع أن ”يعدموا كالكلاب الضالة.“

وسط هذا الصراخ، نادراً ما استمعنا إلى اهتماماتهم كبشر. وفي محاولة لسماع قصصهم ذهبنا إلى منال ورفيقاتها،  والأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين الذين تعاملوا معهن، والمدارس والأماكن التي يترددون عليها.

في الفسطاط، وسط الحواري والشوارع التي كانت أول عاصمة إسلامية، يقع منزل حديث من أربعة طوابق. ويمكن تمييزه عن غيره من المباني حيث له أهمية خاصة للمن لا يجدن مكانا لنوم الجيد. هذا المكان هو أحد المراكز التي تديرها مؤسسة ”بناتي“ لفتيات الشوارع. وتقدم مكاناً لفترة راحة بالنهار، وأحياناً بالليل لمن هن مثل منال وصديقتها هديل.

مع سرعة البديهة وسهولة الابتسام، لا تعطي هديل انطباعا عن حياتها الصعبة. لكن حياتها  مزيج من التعقيد والقسوة في الشوارع. هربت من منزلها في الثامنة، وبعد عقدين من الزمان مازالت مشردة إلى الآن. تزوجت على الأقل مرتين، كل مرة تنتهي بعودتها إلى الشارع، وفي أحد المرات عادت بسبب مقتل زوجها. لديها ستة أطفال، يعيش منهم اثنين معها، بينما الآخرون مع جداتهم حيث مأواهم الشارع أيضاً. لأنهم ولدوا خارج النظام، لا يمتلك الأطفال شهادات ميلاد، ولا بطاقات شخصية. بالنسبة للدولة هم غير موجودون. لذا سواء أحبوا ذلك أم لا، فحياة أمهم وجداتهم تقريباً هي حياتهم أيضاً.

تقول هند سامي، أخصائية اجتماعية بـ”بناتي” وتعرف هديل منذ سنوات ”الآن نعمل على الجيل الثالث من أطفال الشوارع، الآن ليسوا بنات فقط أو اولادا في الشوارع بل عائلات، يكوّنون عائلات شوارع.“

وحول عدد الاطفال الذين هم في مثل موقف أبناء هديل لا يمكن ان نتوصل لرقم معين. في يناير، أعلنت الحكومة عن نتائج لإحصائية قالت إن في مصر أكثر من 16 ألف طفل شوارع، وبالتحديد 16،019. لكن عام 2007، كانت اليونيسيف قد قدرت هؤلاء الأطفال ب 600 ألف على الأقل.

حسب ما تقول نيللي علي، المتطوعة للعمل في أزمة فتيات الشوارع، فإنه ”لا يمكن تحديد الرقم الحقيقي لأنه لا يمكن تتبع الأطفال. هم يتنقلون باستمرار. وليس لديهم شهادات ميلاد. ثم يموتون.“

لا يتفق أحد على ما هو “طفل الشارع”، حتى الأطفال أنفسهم. هناك الصغار في عمر السادسة، ومن هم في عمر 16،  من دون التطرق إلى من هم غير عاملين من أطفال الشارع كهديل ومنال. هناك أطفال يتحركون في شوارع القاهرة نهاراً ويتوسلون من أجل نقود ”فكة“ ثم يعودوا إلى آبائهم في المساء. كما ان هناك الأطفال الذين يهربون من منازلهم من وقت لآخر، قبل أن يعودوا إلى بعد عدة ليالي. وهناك من قرروا ترك منازلهم بشكل دائم.

أما بالنسبة لغادة والي الوزيرة التي أصدرت بياناً بالرقم 16 ألف، فهذا هو التعريف الأكثر قبولاً. أطفال الشوارع، تقول والقهوة على مكتبها، هم الذين ”تركوا  عائلاتهم، وفقدوا الصلات  بها . هؤلاء يعيشون أسفل الكباري، في منازل مهجورة. هؤلاء هم الأطفال الذين يتعرضون لأكبر خطورة. هؤلاء هم من تشملهم دراستنا.“

لكن اسأل من في الشوارع أنفسهم، وقد تجد إجابة مختلفة في كل مرة. فمنال تعتقد أن المفهوم أكثر مرونة مما تحاول إظهاره الحكومة. فالفتى الذي يقضي نعظم يومه في الشارع، هو جزء من تكوين الشارع المعقد، هو طفل شوارع ”حتى لو كان يذهب إلى منزله يومياً“، وتضيف منال ”هو” جزء من مجموعة الشارع، “هي” في الشارع، لذا بالطبع يمكن أن تطلق عليهم اسم طفل شوارع.“

فيما تعتقد فتاة شارع أخرى أن المصطلح فقط يطلق على ”الأشخاص الجاهلين“ في المقام الأول. وتقول نادية 15 عاماً، يعني ذلك أن أطفال الشوارع كلهم متشابهين. لكن، في الحقيقة، أطفال الشوارع يختلفون من حيث العمر والنوع والخلفية الاجتماعية، اختلافات تعني أن خبرة كل طفل في الشارع هي فريدة من نوعها.

وقالت نادية لأميرة الفقي الباحثة في (بنات شوارع)، ”ليس هناك ما هو مثل (أطفال الشوارع).. الشارع لا يلد ولا يربي الأطفال، لا يفعل شيئا.“

في المقطم تقع إحدى المؤسسات الخيرية واسمها ”قرية الأمل“، ويقال أنها الأولى من نوعها التي تهتم بأطفال الشوارع. يبدو المكان عالما بعيداً عن معركة القاهرة، لكن بين جنباته، يتم معالجة بعض الذين أصيبوا من المدينة. في هذا المكان توجد عشرات المراهقات بعيداً عن الشارع وفي مكان آمن يربين أبنائهن. ولو اتفق القليل بالتحديد على متى يصبح شخص ما  “طفل شوارع”، فقصص هؤلاء النساء تعطي سببا واضحا حول: لماذا أردن الذهاب إلى هناك بالمقام الأول؟.

سنوات قبل أن تصل إلى قرية الأمل، غادرت مايا منزلها في السابعة بعدما قامت زوجة والدها بتحديد دائرة خيالية لا تخرج منها في حجرة لمدة ثلاثة سنوات، مساحة يجب أن تنام فيها وتأكل وتقضي حاجتها. وأخيراً بعد أن خرجت، أجبرت على أن تكون خادمة لأخواتها من والدها. وبعد خطأ منها في المطبخ تعرضت لعقاب كبير، ضربتها زوجة أبيها بكسارة الثوم على جمجمتها، قبل أن يقوم والدها بجرها إلى السطح وضربها. هنا قررت أن الأمر وصل إلى نهايته وغادرت.

أما فرح ،12 عاماً، فرفضت أن تعمل مع عمها في شبكة دعارة. وحسب قولها، فقد قام  بربطها واغتصابها يومياً لشهور. وفي أحد الأيام تظاهرت بأنها ستفعل ما يريده. فقام بفكها، وسريعاً قامت بالقفز من شباك الطابق الرابع، وكسرت الكثير من عظامها. نجت بأعجوبة، وتم اسعافها. وبعد مغادرة المستشفى، أصبحت في الشارع.

ربما من المفاجئ أن الفقر ليس  في حد ذاته هو ما يقود الأطفال إلى الشوارع. يقول محمود أحمد، مدير المركز ”الفقر هو أحد الأشياء التي تجعل من العائلات عنيفة.“ لكن ليس السبب الرئيسي في حد ذاته، على العكس من الاعتداء الجنسي المتكرر، أو تفكك  العائلة. وتقول نيللي علي ”الكثير من الأطفال في شوارع القاهرة لديهم أشقاء مازالوا في منازلهم.“ وأضافت ”لو كان الأمر فقط يتعلق بالفقر، سيكونون جميعهم في الشارع.“

التعامل المتساهل للمجتمع  مع العنف المنزلي يعتبر عاملاً مساعداً في قرار الطفل بالهرب. هناك قوانين للتعامل مع عنف الآباء، وخطوط ساخنة للإبلاغ عنهم. لكن في ثقافة حيث يشعر الكثيرون أن الآباء لديهم الحق في التعامل مع أبنائهم كما يريدون، فلا يتم اتباع القوانين والتشريعات عادة. وتوضح شيماء ، إحدى  الطبيبات النفسيات المقيمات في قرية الأمل، ”يمكن لرجل أن يضرب ابنه حتى الموت أمام ضابط شرطة. لكن لا يمكن لأحد أن يتدخل لأنه ابنه.“

ونتيجة لذلك، ربما أصبح الشارع حرفياً هو السبيل الوحيد للأطفال. وهناك يصبحون لقمة سائغة للبالغين الآخرين أكثر من آبائهم.

الساعة 9:30 مساءاً. شيماء الطبيبة النفسية، تسير في أحد شوارع شمال القاهرة في منطقة راقية. القهوة الغالية الثمن موضوعة للسكان الأثرياء على موائد بجانبي الطريق، وطابور يقف لشراء الأيس كريم من أحد أكثر أماكن المدينة رقياً.

لكن شيماء هنا ليست لكي تقابلهم. هي تبحث عن مراهقة تائهة. اعتدي على سارة من والديها، ثم أصبحت فتاة ليل، و انتهى بها الأمر إلى تسويقها بواسطة قوادها إلى رجال خليجيين حيث أبقوها في شقة بالقاهرة. هربت بعد ذلك بطريقة ما، وانتهى بها المطاف إلى أحد المراكز حيث قابلت شيماء للمرة الأولى. لكن سارة اختفت مرة أخرى، وشيماء تريد أن تجدها. و قالت بعض فتيات الشوارع أنها قد تكون في هذا المكان (الكوربة- مصر الجديدة).

هو عمل خطير في العادة، أن تعمل ما تقوم به شيماء. تأسست قرية الأمل عام 1988 على يد  البريطاني ريتشارد هيمسلي. و يدير المكان الآن عددا من المراكز للإقامة اليومية والطويلة والتي تهدف إلى إعادة تأهيل أطفال الشوارع تدريجياً و دمجهم مرة أخرى بالمجتمع. بعض الفتيات لا يستطعن الالتزام بروتين المركز، ومثل سارة يختفون في بعض الأحيان. و إحدى مهام شيماء هي أن تجدهم.

العثور عليهن صعب. إعادة فتاة مرة أخرى إلى المركز قد يعطل عمل شبكة الدعارة. وفي أي منطقة، تحتاج شيماء إلى دعم من كبير الشارع كي لا يتم مهاجمتها. وتقول شيماء ”لو كنت ذاهبة لإحضار فتاة يتم استخدامها لأعمال ما بواسطة مجموعة رجال، إذا فأنا هدف. فأنا أسلبهم أحد مصادر رزقهم.“

في بعض الأحيان يأتي المهاجمون إلى المركز بأنفسهم. وفي أحد المرات، دخل أربعة رجال بأسلحة بيضاء وهددوا إن لم تعد فتاة بعينها إليهم، فسوف يقطعون أيادي كل الموجودات.“

و في بعض المناسبات يأتي التهديد من الفتيات أنفسهن. في نوبة من كراهية النفس، قامت إحدى المقيمات بالمركز بالخروج من أحد الاجتماعات وأخرجت شفرة وبدأت بتقطيع جسدها وجرحت شيماء عندما حاولت الاقتراب منها. تُجري شيماء ورفاقها في قرية الأمل فحوصات وتطعيمات نصف سنوية ضد الامراض المختلفة. فبعض الفتيات في المركز مصابات بالإيدز أو يعانين من فيروس سي.

في مثل هذه الوظيفة الصعبة، بعض العاملين في قرية الامل لديهم ذكريات معينة تجعلهم يمتلكون الدافع للاستمرار. بالنسبة لشيماء، كانت إحدى مريضاتها الأوائل: فتاة في عمر 9 سنوات جاءت إلى أحد المراكز بعد اغتصابها من قبل عصابة في الشارع. وتحكي شيماء ”بعد كل هذه السنوات، هذه الفتاة هي ما تجعلني أستمر. لا أستطيع أن أنساها ونهي  تجلس ببراءة على أرجوحة وهي لاتزال تنزف من آثار الاغتصاب.“

الاغتصاب والاتصال الجنسي بالإكراه حقيقة متكررة في معظم حياة الأطفال. ستعمل الكثير من مراهقات الشوارع كفتيات ليل. وحتى خارج شبكات الدعارة الرسمية، يمكن للجنس أن يكون نوعاً من “العُملة”. من أجل تأمين مكان للنوم على أرضية لليلة واحدة، أو كمقابل لاستخدام حمام في محطة. الأطفال وهم صغار في السادسة عرفوا كيفية عرض خدمات جنسية للعمال الرجال في بعض المراكز التي يأوون إليها. خبراتهم في الشوارع، حيث يتم اضطهادهم بكل روتيني، قد جعلت هذا  التصرف أمراً عادياً.

في الشارع، كل من الفتيات والأولاد في بعض الاحيان يتم اغتصابهم بواسطة مجموعة من الرجال الذين يعرفون أنهم سيهربون من العقوبة لأن الاطفال لا يمتلكون أوراقاً رسمية ولا عائلات، تقنياً ليس لهم وضع قانوني. وحسب العاملين في مؤسسة بناتي، فالفتيات غالباً ما ”تخزينهن“ بمعنى وضعهن في مكان مغلق لعدة أيام قبل اغتصابهن جماعيا.

لا تنتهي الوحشية بالاغتصاب نفسه. بعد اغتصاب العذراء، عادة يقوم المغتصبون بصنع علامة هلى وجه الضحية، ”لكسر العين“. وبعد عدة هجومات يتم صنع ندبة على خد الطفل.

وللهروب من مساوئ العنف، قد تحاول الفتاة تجنب النوم ليلاً أو لا تنام أبداً. وقالت ياسمين ،16 عاماً، لأميرة الفقي ”أستطيع البقاء دون نوم لثلاثة أيام أو خمسة.“

بعض الفتيات يفضلن طريقة أخرى للدفاع عن النفس. يتظاهرون بأنهم أولاد.

منذ عشر سنوات مضت، جاء ولد بلا مأوى إلى أحد مراكز الرعاية في القاهرة، وقال إنه كان ينزف حتى الموت. كان الولد معروفا لدى المركز وأرسله العاملون بالمركز سريعا إلى الطبيب كي يعرف سبب المشكلة.

كشف فحص الطبيب عن عدد من المفاجآت. أولا: الدم كان سببه الدورة الشهرية، وثانيا: الولد الذى ظل يأتي إلى المركز لسنوات لم يكن إلا بنتا قصت شعرها وربطت ثديها لتتجنب لفت الانتباه غير المرغوب في الشوارع، وكي تضمن أيضا السماح لها بدخول مركز الرعاية المخصص للذكور فقط.

خلال السنوات القليلة الماضية، كان نشطاء حقوق الأطفال والاخصائيون الاجتماعيون يعتقدون أن الصبية وحدهم يتحولون إلى أطفال شوارع. لكن أظهرت حالة الفتاة التى تعاني من النزيف وضعا مختلفا تماما.

تتحدث معنا هديل بينما يراقبنا ابنها من الغرفة المقابلة، وتقول: “كانت تلك الطريقة الوحيدة كي نحمي أنفسنا”، وأضافت: “اعتدنا على قص شعورنا كي تبدو قصيرة للغاية وارتداء البنطلونات والتي شيرتات، وبالتالي لا يستطيع أي رجل أن يأتي ويقول أريد هذه الفتاة او تلك”.

بالنسبة للبعض، لم يكن الهدف الوحيد هو تجنب الاعتداءات الجنسية بل أيضا الشعور بالراحة في الاماكن العامة في مصر التى عادة ما يسيطر عليها الذكور. هذا الأمر مكّن الفتيات من التدخين والصياح والجلوس ببساطة في الشارع، وكلها أفعال يقوم بها الصبية دون أي يتعرضوا لأي انتقاد، لكن لا تستطيع الفتيات فعلها. وتشرح أميرة الفقي، أكاديمية سابقة أجرت بحثا على هذا الموضوع: “كل المميزات التى يتمتع بها الرجال يمكنهن التمتع بها الآن. هن يسخرن من فكرة الجنس.. ويقلن: إذا كنت تعتقد أن النساء ضعيفات فإننا لن نكون نساء بعد  ذلك”.

وكي تجعل الفتاة نفسها أقل عرضة للأذى، تنضم فتاة الشارع إلى ما يسميه الباحثون “أسرة الشارع”، وهى عبارة عن أسرة مكونة من 10 أطفال شوارع من الجنسين، ويتقاسمون ما يكسبونه وينامون سويا بغرض الحماية. وتقول نيلي  إن العمل يتم تقسيمه فيما بينهم وفقا للنوع، فالأولاد يقومون بأعمال السرقة بينما تعمل البنات في الدعارة. ويتم جمع مكاسب كل يوم عمل وإعطائها لقائد المجموعة الذى عادة ما يكون ولدا أثبت أنه الاعنف والأقوى بينهم جميعا.

ويقول محمود أحمد، الذى يعمل بقرية الأمل وأجرى بحثا على بنية أسر الشوارع خلال عدة سنوات: “المفاجأة أن أصغرهم سناً عادة هو من يكون قائد المجموعة”، ويضيف أن القائد “يكون الشخص الذى يثبت للاخرين قدرته على القيام بأشياء لا يستطيعون فعلها”. هذه القدرات تكون عادة عمليّة مثل القدرة على السرقة أفضل من الاخرين، أو تكون بدنية مثل ” من يمكنه القفز من أعلى أحد الكبارى دون أن تتكسر عظامه، وبالتالي ينال احترام أقرانه.

لكن قائد المجموعة يتلقى ما هو أكثر من الاحترام: كلمته لا ترد، وفي المقابل يمنح أعضاء الأسرة هوية مشتركة، ويوفر لهم الحماية من الغرباء. لكن داخل المجموعة يعد القائد نفسه تهديدا. يقول محمود أحمد: “يمتلك القائد حقوق جنسية  تجاه أفراد الأسرة من الأولاد والبنات.. ويترك علامات جنسية على أجسادهم بصورة مستمرة” لكن بالنسبة للفتيات فإن الندبات ليست آخر شىء سيتركه على أجسادهن.

لا تعتبر مستشفى عين شمس، الواقعة في شمال شرق القاهرة، الاختيار الأفضل للسيدات اللاتي قاربن على الانجاب، فهي مستشفى تعليمي تجري فيها العمليات أمام حشد من الطلاب، ولا تتوافر بها الامكانيات اللازمة لذا يدفع الأطباء بأنفسهم تكلفة المعدات وعمليات نقل الدم. لكن مستشفى عين شمس تصبح الخيار الوحيد أمام فتيات الشوارع الحوامل، وتعتبر الأرخص سعرا مقارنة بالمستشفيات الأخرى. وتبلغ تكلفة إدخال المريض فيها 120 جنيها أي حوالي 10 جنيهات استرليني.

بالنسبة لامرأة أصبحت حاملا في الشارع يكون الثمن الاكبر الذى تدفعه عند دخولها إلى مستشفى عين شمس هو كرامتها. معظمهن لا يحملن بطاقات هوية، والطريقة الوحيدة لدخولهن المستشفى أن يكون بصحبتهن مرافق وعادة ما يكون الزوج. لكن إذا كانت الحامل ضحية لعصابة من المغتصبين وفهي في الغالب لا تعرف أبا لطفلها. ولا تدخل المستشفى إلا بعد عملية صعبة من الاستجواب، بعدها تأتي مرحلة المخاض الطويلة والمؤلمة التى قد يتخللها إعطاء الحامل بعض مسكنات الألم، ثم تبدأ عملية الولادة المهينة التى تجرى امام 20 طالبا في بعض الاحيان.

تقول سارة يونس، طبيبة حديثة التخرج والمسؤولة عن حملة لتحسين معاملة فتيات الشوارع الحوامل في عين شمس، إنها عملية متتابعة من الحزن والألم. وتضيف: “يكون لديك 12 ساعة مع عبوة مسكّن واحدة ثم يضع 20 شخصا أياديهم داخلك ثم ياتي اشخاص اخرون يسألونك لما أنت هنا؟”. ثم ربما يأتي أحدهم ويقول لك لماذا تصرخين؟ توقفي عن الإنجاب حتى لا تصرخين مرة أخرى… لقد سمعت أشخاص يقولون ذلك، ورأيت آخرين يضربونهن على أرجلهن كي يتوقفن عن الصراخ”.

تبدأ الدائرة مجددا، حيث يعتقد الناشطون في قرية الأمل أن 20% فقط من الأشخاص بلا مآوى ينوون ترك الشارع. ويبدو الأمر أكثر صعوبة بالنسبة لأطفالهم الذين قد لا يحملون بطاقات هوية ولم يعرفوا إلا حياة الشارع.

تخطط منال لترك حياة الشارع والرغبة في التصرف كالذكور وراء ظهرها، وتعيش حاليا في سكن تابع لمؤسسة “بناتي”. لكنها تنوي فقط إحضار ابن واحد من ابنائها الثلاثة للعيش معها. الابنان الآخران يعيشان مع جدتهما، ويقول الأخصائيون الاجتماعيون إنهما يجوبان الشوارع يوميا لبيع المخدرات.

تقول هند سامي ،مرشدتها في ”بناتي“، إن الأمر ليس لأن منال لا تهتم. هي تفعل ما بوسعها، مثل كل أمهات الشوارع. وتضيف ”لديهن  مشاعر عميقة تجاه أطفالهن. حتى لو تركوهم، مازالوا يريدون أن يروهم، وأن يكنّ  قريبات منهم.“ وتؤكد ”عندما نتحدث إليهنّ، لا ننسى أنهن بشر. لو مررنا بما مروا به من الاعتداءات، قد نصبح بسهولة واحدة منهن”

** بعض الأسماء في هذا التقرير تم تغييرها

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى