أخبارترجمات

“ذي أتلانتيك”: مصر تفوَّقت على أمريكا في علاج التهاب الكبد الوبائي

رغم توافر الأدوية الجديدة الثورية لم تحقق الدول التي لديها موارد أكثر تقدمًا كبيرًا ضد المرض

المصدر: The Attlantic – TED ALCORN

ترجمة: ماري مراد

قبل خمس سنوات فقط، مع أفضل العلاجات الطبية المتاحة، كانت احتمالات علاج شخص مصاب بالتهاب الكبد الوبائي ليست أفضل من مراهنة القطع النقدية، والقضاء على المرض من بلد بأكمله أمر لا يمكن تصوّره.

لكن اليوم، تمحو مصر المرض من سكانها بوتيرة غير مسبوقة. لقد كان هذا الجهد ممكنًا بفضل الأدوية الجديدة الثورية، ولكن لم يقترب أي بلد، بما في ذلك الولايات المتحدة، من نشر هذه الأدوية على مستوى مكافئ. أظهرت مصر أن التحسينات المذهلة في الصحة العامة ممكنة عندما يتم تسعير الأدوية بتكلفة معقولة، وتبذل الحكومة جهدًا لنشرها بشكل منهجي. لكن مصر هي أيضًا الاستثناء الذي يثبت القاعدة أنه في حين أثبت المجتمع الحديث أنه قادر على تطوير ابتكارات طبية تحويلية، فإنه أقل كفاءة بكثير في تعظيم استخدامها.

تغيّر النظرة إلى المرض

بدأ وباء التهاب الكبد الوبائي “سي” في مصر -البلد صاحب أعلى معدل انتشار للمرض في العالم- منذ حوالي 50 عامًا عندما كانت الحكومة تحاول التخلص من وباء واحد وانتهى الأمر باستبداله بآخر. بالنسبة لآلاف السنين كانت دلتا النيل أرضا خصبة لتكاثر مرض البلهارسيا، وهو طفيل ينتشر في البشر بواسطة القواقع المائية. وفي منتصف القرن العشرين، قامت الحكومة المصرية بحملات متعددة للعلاج الجماعي باستخدام دواء مقيء قابل للحقن، وتمت إعادة استخدام الإبر بشكل متكرر. وانتشر فيروس الالتهاب الكبدي الوبائي -غير معروف حتى الآن لكنه ينتقل بكفاءة عن طريق الدم- انتشر عن غير قصد لدى العديد من المواطنين، وبحلول عام 2008 كان واحدٌ من بين 10 مصريين مصابًا بالتهاب الكبد المزمن.

يتسبب الفيروس في تلف الكبد التدريجي الذي يظهر فقط على مدى عقد أو أكثر، عندما يتوج في شكل سرطان أو فشل الكبد. وبحلول عام 2015، كان التهاب الكبد “C” مسؤولًا عن 40 ألف حالة وفاة سنويًا في مصر -أي 7.6% من مجموع الوفيات هناك- ونقص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1.5%.

في حين أن العدوى أكثر شيوعًا في المناطق الريفية والفقيرة، فإن شرائح قليلة من المجتمع المصري لم تتأثر بها. ويقول جون وارد -الذي قاد شعبة “CDC” للالتهاب الكبدي الفيروسي لأكثر من 13 عامًا وهو الآن مدير في منظمة “Task Force for Global Health” غير الربحية- إنه يرى تأثير العدوى حتى بين المغتربين المصريين الذين يلتقي بهم عن طريق الصدفة في واشنطن العاصمة، مضيفا: “سأكون في سيارة أجرة، سأقول إنني أعمل على التهاب الكبد الوبائي “C”، وهذا يحول المحادثة بأكملها حول العائلة والأصدقاء والأصهار والآباء الذين فقدوا بسبب التهاب الكبد الوبائي.. لذا فهي مشكلة كبيرة جدا”.

تغيرت النظرة للمرض في أواخر عام 2013 مع ظهور علاجات جديدة فعالة لكنها باهظة الثمن. في حين أن العلاجات المسبقة أدت إلى الإجهاد والتأثيرات الجانبية الأخرى وأزالت العدوى في أقل من نصف المرضى، كانت العلاجات الجديدة غير مؤلمة. قدمت شركة “Gilead Sciences” أول هذا الدواء إلى السوق في الولايات المتحدة بمبلغ 84 ألف دولار لكل مريض. وعند هذا السعر، كانت تكلفته معالجة كامل السكان المصريين المصابين يبلغ نصف تريليون دولار، أي ما يقرب من ضعف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.

حدّد صانعو الأدوية أسعارًا مرتفعة كانت البلدان في أشد الحاجة أقل قدرة على تحملها. أرادت الحكومة المصرية إتاحة علاج التهاب الكبد “C” لكل مواطن يحتاج إليه. لكن ذلك يتطلب سعرًا منخفضًا بما يكفي لشراء الحجم الضخم الضروري، ونظامًا لتوصيل الأدوية إلى أولئك الذين تم تشخيصهم بالفعل، وحملة لفحص أي شخص آخر مصاب بالمرض.

تأمين الأدوية بأسعار معقولة

بينما بدأت الحكومة المصرية مفاوضات الأسعار مع “Gilead”، كانت البلاد أيضًا تدرس طلب شركة الدواء للحصول على براءة اختراع. (لم يصدروا واحدة، مما سمح لمصنعي الأدوية العامة بدخول السوق المصرية). وتذكر جريج ألتون، نائب الرئيس التنفيذي في “Gilead” الذي مثل الشركة في الاجتماعات، ما حدث داخل الاجتماعات بقوله: “أدعوها محادثات ودية، لكنهم مفاوضون جيدون”.

أخيرا، وافقت “Gilead” على ترخيص بيع الأدوية في مصر وبعض الدول الأخرى مقابل 300 دولار للتزويد لمدة شهر واحد و900 دولار لدورة علاجية مدتها 12 أسبوعا، وفي نهاية المطاف، دفع مصنعو الأدوية العامة السعر في مصر إلى 84 دولارًا لكل مريض.

ويقول وحيد دوس، رئيس اللجنة الوطنية لمكافحة مرض الالتهاب الكبدي في مصر، إن تصميم البلاد على توفير علاج واسع النطاق ساعدهم في بناء قضيتهم (تحديد أسباب ضرورة القيام بذلك)، مضيفا: “جزء من قصة النجاح والسبب في موافقة “Gilead” كان أننا أردنا فعلا أن يكون لنا تأثير في بلدنا”، وباعت الشركة في نهاية الأمر، وفقًا لألتون، عقاقير التهاب الكبد الوبائي إلى أكثر من 160 ألف مريض مصري، وفقًا لألتون، ويشير دوس إلى أن الشركة: “كسبت أيضا بعض المال. لم يكن عملا خيريا”.

مع تأمين الأدوية بأسعار معقولة، عملت البلد على توزيعها على نطاق لم يسبق له مثيل من قبل. في عام 2014، بدؤوا بوابة إلكترونية يسجل فيها المصابون بالمرض، وفي غضون 3 أيام سجل 200 ألف شخص. على مدار السنوات الثلاث التالية، تلقى أكثر من 1.6 ملايين مصري علاج التهاب الكبد الوبائي، وفقا لبيانات البنك الدولي. هذا أكثر من جميع المرضى الذين عولجوا خلال ذلك الوقت في الولايات المتحدة وأوروبا مجتمعين.

لكن هذا الطوفان الأول من المصريين الباحثين عن علاج تم تشخيصهم مصابين بالتهاب الكبد، ومع الوقت تحول التحدي من إتاحة العلاج إلى اكتشاف مزيد من الأشخاص الذين في حاجة إلى علاج.

لذا في عام 2017، شرعت وزارة الصحة في برنامج فحص وطني. أكثر من 260 فريقًا من العاملين في مجال الصحة المجتمعية يعملون في قرية تلو الأخرى. بحلول أواخر عام 2017 فحصوا 1200 مجتمع. ومع ذلك فقد تباطأ العلاج من نقطة عالية في عام 2016، وفقًا لمؤسسة ” CDA”، التي تجمع البيانات الوبائية عن التهاب الكبد الفيروسي، وانخفض عدد المصريين الذين عولجوا في عام 2017 بنحو 30% مقارنة بعام 2016، على الرغم من أن ما يقدر بنحو 4 ملايين شخص ما زالوا مصابين في البلاد.

إمكانية القضاء على المرض بحلول 2023

مع الوعد بالعقاقير المجانية من الحكومة لأولئك الذين تم تشخيصهم، فإن منظمات المجتمع المدني من المصانع إلى الكنائس إلى المساجد شاركت في الفحص أيضا. ويقول ستيفن موريسون، نائب رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، إن الوباء يعبر المجتمع بطريقة أفادت جهود القضاء. قد يحمل التهاب الكبد “C” وصمة عار، ولكن هناك عدد قليل من العائلات في مصر التي ليس لديها شخص صارع هذا المرض”.

في العام الماضي، في حي القطامية الراقي في القاهرة الجديدة، رتب فرع من نادي الروتاري فحص التهاب الكبد الوبائي لسكان الحي وموظفيه. وكان أحد المنظمين محمد زيوار، الذي تقاعد مؤخرا من دور قيادي في شركة “Bayer” للأدوية. ويقول إن النادي تعاقد مع ممرضين من معمل محلي، إذ قاموا بفحص حوالي ألف شخص، ثم رتبوا لعلاج الـ30 شخصا الذين اتضح أن نتائج فحوصاتهم إيجابية. وأضاف: “بعد الانتهاء من ذلك، كانت لدينا طلبات أخرى من أقارب هؤلاء الناس، إذ يريدون إجراء فحوصات”.

قدر زيوار أن النادي انتهى بإنفاق حوالي 5 آلاف دولار. كان يمكن أن يكون أكثر بكثير، لكن نظرا لأنه جهد خيري أجرى المعمل تحاليل الدم تقريبا بتكلفته. لكن فحص المجموعة بأكملها فاقت تكلفته سعر الدواء الذي يحتاجه 30 من السكان المصابين للعلاج. هذا يثبت أن يكون صحيحًا على المستوى الوطني أيضا. في حين أن التشخيص غير مكلف -إذ يجب فحص 20 لإيجاد شخص مصاب- ولضمان اختبار جميع المقيمين في مجتمع معين، يجب على فرق الفحص أحيانًا العودة مرات عدة.

مدى سرعة مصر في القضاء على المرض يتوقف على مدى سرعة تشخيصها للأشخاص المصابين، ولا تزال السلطات هناك تحدد حجم برنامج الفحص وجمع الموارد اللازمة لدفع ثمنه. حسب المعدل الذي تقوم البلاد به حاليا بفحص ومعالجة المرضى، فإنها ستخفض انتشار المرض إلى النصف بحلول عام 2023، وإذا زادت من حجم البرنامج إلى حد كبير، بتكلفة إضافية قدرها 530 مليون دولار، فيمكن القضاء على المرض بحلول ذلك الوقت.

إن جهود مصر الضخمة قد يجعل من السهل على الدول الأخرى اتباعها. ويشير عمرو الشلقاني، أخصائي الصحة في البنك الدولي، إلى أن شراء كميات كبيرة من أدوات الفحص المستخدمة لتشخيص الأمراض قد يؤدي إلى زيادة الطاقة الإنتاجية في جميع أنحاء العالم وخفض تكلفتها. وقال: “هناك ميزة خاصة بمصر، ولكنها ميزة جيدة للصحة العامة على مستوى العالم. هذه التغيرات في الأسعار يمكن أن تكون لها آثار عالمية على الدول الأخرى التي تتطلع لمعالجة التهاب الكبد سي”.

عرض مسبق

رغم أن الأدوية الجديدة أحدثت ثورة في علاج المرضى الفرديين فإن استدراج الوباء من الظل هو الآن التحدي الرئيسي في جميع أنحاء العالم. في عام 2016، تم تشخيص حالة واحدة فقط من كل 5 أشخاص على مستوى العالم مصابة بالتهاب الكبد “سي” المزمن، وفقا لمنظمة الصحة العالمية، وفي البلدان منخفضة الدخل، هي واحد من كل 10. وحتى يتم فحص وتشخيص عشرات الملايين من الأشخاص، لن يستفيدوا أبدًا من أحدث الأدوية. ويقول هومي رازافي، المدير الإداري لمؤسسة “CDA”: “ما يحدث في مصر هو مجرد عرض مسبق لما سيواجهه كل بلد آخر”.

فقط حفنة من البلدان تقوم برسم مسار مماثل نحو القضاء على الالتهاب الكبدي “سي”. العديد من الدول التي لديها الكثير من الموارد تحت تصرفها لا تقترب من معالجة جميع سكانها. على سبيل المثال، من بين الأشخاص المصابين بالتهاب الكبد الوبائي سي في الولايات المتحدة، تلقى أقل من 20٪ منهم العلاج.

على المدى الطويل، فإن فوائد القضاء على التهاب الكبد الوبائي “سي” لا لبس فيها -حملة مصر سوف تحول دون عشرات الآلاف من الوفيات وتقليل النفقات العامة للرعاية الصحية- ولكن يجب دفع تكاليف الفحص مقدما. ويقول رزافي: “من الناحية الاقتصادية، من المنطقي تمامًا أن نعالج الفيروس، لكن الحكومات تتأخر، وتقول إننا سنبقى في منصبنا 4 سنوات ولن نرى الفوائد على الإطلاق. ما هو مختلف في مصر هو وجود التزام سياسي بالعمل”.

هذا لم يكن ممكنا دون عقاقير بأسعار معقولة، وحصول البلاد على سعر في متناول اليد، فقد تكون الثروة في الواقع عائقًا. ففي البلدان الأكثر فقرًا مثل مصر، كانت شركات الأدوية أكثر استعدادًا لتقديم العقاقير بتكلفة التصنيع أو بالقرب منها، لتعكس قدرة البلدان على الدفع. وفي مثال آخر، أعلنت شركة “Pfizer” في الصيف الماضي أنها ستخصم بشكل كبير عددًا من العلاج الكيميائي الخاص بها في 6 دول جنوب الصحراء الكبرى، حيث تحدث 44٪ من حالات السرطان في إفريقيا.

تطوير العقاقير أسهل من نشرها

ولكن في البلدان ذات الدخل فوق المتوسط، ترى شركات الأدوية فرصة للربح ولا تظهر نفس المرونة. في الصين والبرازيل، قام صانعو الأدوية بتسعير علاجات التهاب الكبد “سي” ليكون أعلى بكثير من تكلفة الإنتاج الهامشية، وتدرس الحكومات ما إذا كانت ستدفع أو ترفض أو تتجاهل بشكل قانوني براءات اختراعها حتى يمكن للمنافسة العامة أن تدفع الأسعار إلى الانخفاض. ويقول الخبراء إن النزاعات حول أسعار الأدوية في مثل هذه الأسواق قد تزيد فقط مع استمرار عبء المرض في تلك البلدان في التحول من الأمراض المعدية إلى أمراض مثل السرطان أو السكر التي لها علاجات فعالة لكنها مكلفة.

وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، فقد وضعت أكثر من 80 دولة بحلول نهاية عام 2017 خططًا وطنية للقضاء على التهاب الكبد “سي”، وهو ما يمثل زيادة بمقدار خمسة أضعاف تقريبًا مقارنة بعام 2012، لكن أقل من نصف الدول ربطتها بالتزامات مالية. ودون الموارد، سيتم تشخيص عدد قليل من المصابين بفيروس الالتهاب الكبدي الوبائي “سي” ولا يزال يعالج عدد أقل.

وعلى النقيض من جهود العقدين الماضيين لمعالجة الأمراض المعدية الأخرى مثل فيروس نقص المناعة البشرية، والسل، والملاريا، إذ قدم المانحون الدوليون مساهمات كبيرة كما أداروا الكثير من الكيفية التي تدار بها الحملات، يتعين على الدول بصورة متزايدة أن تعمل بمفردها. يقول روبرت هيشت، رئيس “Pharos Global Health Advisors”، إن هذا يمثل تحولا في الصحة العالمية، مضيفا: “أعتقد بأننا نرى نهاية الحقبة التي يقدم المانحون فيها كميات كبيرة من الأموال التي تساعد على دفع ثمن الأدوية وتقديم الرعاية”.

على العموم، يبدو من الأسهل للمجتمع العالمي تطوير عقاقير فعالة بدلًا من نشرها بفعالية. وكثير من الفوائد المحتملة للعلاجات الجديدة غالبًا ما تكون غير محققة لأن الأسعار المرتفعة تجعلها ليست في متناول المرضى أو لأن الحكومات تتخلى عن الجهد اللازم لنشرها على نطاق واسع. تعتمد التأثيرات الضخمة المحتملة على قوة الإرادة والتمويل واستراتيجية السياسة المفضلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى