كل شيء عن

٤٩ عاما على مجزرة بحر البقر.. يوم انتهى الدرس.. بالدم

شهادات من ذاكرة حية

زحمة

“الدرس انتهى.. لموا الكراريس بالدم اللي على ورقهم سال”.. ودع الشاعر صلاح جاهين التلاميذ الضحايا في المجزرة الشهيرة التي شهدتها محافظة الشرقية قبل 49 عاما بهذه الكلمات.

وشدت الفنانة الراحلة شادية بصوتها الترنيمة التي تحمل كلمات باكية وألحان مؤثرة تحمل بصمة سيد مكاوي، لتصرخ في وجه العالم  بعدما انطفأت حياة 30 أسرة فقدوا 30 تلميذًا بمدرسة بحر البقر بعد العدوان الغاشم في التاسعة والثلث من صباح الأربعاء 8 أبريل 1970، عندما كانت طائرات “إف 4 فانتوم” التابعة لسلاح الجو بالجيش الإسرائيلي تنفذ واحدة من “أبشع” الجرائم في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.

في هذه الساعة تحديدا قصفت مدرسة “بحر البقر” الابتدائية بـ 5 قنابل من نوع “نابالم”  ليقُتل في الحال قرابة 30 طفلا ويصاب 50 آخرين إصابات بالغة، معظمهم أصيبوا بعاهات مستديمة، ولم يكن الضحايا من التلاميذ فقط إذ قتل عدد آخر من المدرسين وأهالي القرية، وكذلك تدمير مبنى المدرسة تماما.

المدرسة كانت تقع في قرية “بحر البقر” بمحافظة الشرقية، وكانت مدرسة بسيطة التصميم، عبارة عن طابق واحد فقط يضم ثلاثة فصول تحوي 150 طفلا.

الآن وقد أصبحت المدرسة طابقا وحيدا وثلاثة فصول، مضاف لها نُصب تِذكاري، ومتحف رغم زجاج معروضاته تتفجر الذكريات مع مقتنياته التي ضمت أقلامًا وكُتبًا ودفاتر مدرسية وألعابًا اختلطت رائحة دماء أصحابها الزكية بمكوناتها، راسمة مشهدًا يختطفك إلى ما عاشته مصر قبل 49 عامًا.

شهادات من ذاكرة حية:

يقول الحاج السيد عبدالرحمن حسن، 58 عامًا، أحد مصابي المجزرة وشاهد عيان على ما حدث لـ”مصراوي”: “يومها كنت في تانية ابتدائي وكنا بناخد حصة الحساب وفاتحين الكتاب على الدرس، فجأة ما لقيناش مدرس ولا سبورة ولا سقف ولا عمدان وبقينا تحت الأنقاض، وقتها البلد اتقلبت وحاولوا يطلعوا اللي لسة فيه نفس وشوفت منظر لا يمكن يتمحي من ذاكرتي أبدًا.. زمايلي اللي كنا لسة داخلين الفصول مع بعض متقطعين وغرقانين في دمهم”.

“خدونا وروحنا على مستشفى الحسينية، وشوية مننا راحوا على مستشفى الزقازيق، وأنا فضلت وقتها 50 يوم في المستشفى لغاية ما خرجت”، يضيف حسن لـ “مصراوي”: “بعد خروجي من المستشفى جاتلي عقدة من المدرسة وما روحتهاش تاني.. أنا وكل زمايلي وقتها طلعنا ومكملناش تعليم”.

حسن استكمل حديثه موضحًا أن وزارة التضامن الاجتماعي وقتها وعدت أهالي المصابين بوظائف وشقق سكنية ومعاش، إلا أن أيٍ من ذلك لم يحدث حتى الآن، مناشدًا الرئيس عبدالفتاح السيسي، بالتدخل لعمل معاش شهري له؛ خاصةً وأنه أصيب في المجزرة بكسر في الجمجمة، ويعيش حاليًا بمفرده بعد زواج أبنائه الثلاثة ووفاة زوجته.

“فاكر اللي حصل وقتها زي ما يكون إمبارح”.. قالها محمد السيد، أحد شهود العيان على المجزرة لـ”مصراوي”، قبل أن يتابع: “كنا يوم الأربعاء وكان عندي 22 سنة وقاعد في البلد مع صحابي، لكن فجأة سمعنا صوت الانفجار جاي من ناحية المدرسة، وجرينا على هناك”.

تبدلت ملامح الرجل وهو يتذكر دماء التلاميذ والمشهد الذي كان ينتظره وأهل القرية في المدرسة: “لقيناها كوم تراب والمنظر كان بشع لا يمكن حد يتحمله.. أشلاء وجثث في كل مكان ونقلنا المصابين بالجرارات الزراعية للمستشفى، ومعرفناش اللي حصل بعدها إيه غير من الراديو”.

أحد تلاميذ المدرسة وقت المجزرة، ويُدعى سامي عبدالمجيد، 56 عامًا، استرجع تفاصيل الواقعة في حديثه لـ”مصراوي”، موضحًا أنه “كنت أنا وابن خالتي مع بعض في المدرسة وكنا في حصة العربي.. وقتها فجأة لقينا صوت صواريخ وإحنا تحت المدرسة، ولما أهل البلد طلعونا جالنا ذهول من المشهد اللي شوفناه.. مين كان يصدق زمايلنا اللي معانا في الفصل نلاقي أطرافهم طايرة غير اللي مبقاش منه إلا أشلاء”.

يقول الحاج السيد محمد شرف، 57 عامًا، أحد المصابين في مجزرة بحر البقر في ذكراها الـ49، لـ”الشروق”، مسترجعًا تفاصيل الواقعة «وقتها كنت في تانية ابتدائي وكان عندنا حصة حساب فجاة سمعنا صوت غارة كبيرة وماحستش بالي حصل غير بعدها بـ3 شهور لما فقت».

وأضاف: «أصيبت بشظية في عيني اليسرى، وقطع في رأسي، وفتح في الصدر، وكسر في القدم».

وتابع شرف، أن الشظية الذي أصيب بها مازالت في عينه حتى الآن، وأنه عرض نفسه على طبيب عيون، «قالي لو طلعت الشظية هتأثر على عرق النور ومش هتعرف تشوف»، منوهًا بأنه يعمل باليومية في فصل الشتاء فقط، حيث لا يقوى على العمل بالصيف.

وناشد شرف، الحكومة بصرف معاش يكفل له حياة كريمة.

كان محمد محجوب، 71 عامًا، أحد شهود العيان على المجزرة، يقول لـ”الشروق”: «كان يوم أسود لا يمكن محوه من الذاكرة»، حيث لا يزال صوت تحليق طائرات الفانتوم الأمريكية يدوي في أذنيه كلما تذكر ما حدث، وتلخص المشهد وقتها في «دم الأطفال وأشلاءهم التي جمعها مع الأهالي».

المحجوب، كان شابًا في الثانية والعشرين من عمره وقت المجزرة، تذكر تفاصيل الواقعة، قائلًا: «كنت قاعد مع أهل البلد وفجأة سمعنا صوت انفجار جاي من ناحية البر التاني بعيد عننا بحوالي كيلو.. جرينا على المدرسة لكن لقيناها كوم تراب وجنب منها اللي اتبقى من 3 صواريخ اتضربت بيها المدرسة».

وأشار الحاج محمد، إلى أنه قام بنفسه بنقل التلاميذ المصابين بواسطة أحد الجرارات الزراعية من المدرسة إلى مستشفى «الحسينية العام»، موضحًا أن المشهد كان ولا يزال أقسى مشهد مر عليه طوال سنوات عمره.

من جانبها، تقول الحاجة نبيلة علي محمد حسن، 77 عامًا، والدة أحد التلامذ الشهداء لـ”الشروق”، إنها كانت في منزلها يوم المجزرة، حيث كانت تخبز في وسط المنزل الذي يبعد عدة أمتار قليلة عن المدرسة، إلا أنها فجأة سمعت صوت غارة قوية كسرت زجاج النوافذ من شدتها، قبل أن تهرول إلى المدرسة من أجل الاطمئنان على نجلها «ممدوح».

«لقيته غارق في دمه وقاطع النفس» تقول نبيلة بأسى قبل يساعدها أحد الأهالي لنقله إلى مستشفى الحسينية إلا أن فلذة كبدها كان قد فارق الحياة.

والدة ممدوح ناشدت الرئيس عبدالفتاح السيسي بالتدخل من أجل صرف التعويضات في القضايا التي رفعها أهل الشهداء على العدوان الإسرائيلي، قبل أن تطالب بأمنية هي الأخيرة لها، قائلةً: «نفسي أعمل عمرة قبل ما أموت».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى