مجتمع

آخر يهود القاهرة: سبع نساء  

تايم: من تبقى من بين 80 ألف يهودي مصري؟

تايم – جيرد مالسين  ترجمة: محمد الصباغ

يجلس آخر يهود القاهرة على مقاعد خشبية تحت قبة كنيس عدلي أو (شعار هاشامايم) أي (أبواب السماء) بوسط البلد في القاهرة، تجمعت 7 نساء أغلبهن من كبار السن في يوم 13 سبتمبر من أجل الاحتفال بالسنة اليهودية الجديدة. وشاركت أحداهن وهي جالسة على كرسي متحرك.

في ذلك المساء بالقاهرة، كانت الرطوبة عالية لدرجة أن الملابس تلتصق بالجسد. استخدمت النساء المراوح الورقية للتهوية، ومن خلال النوافذ وصل صوت الآذان مصحوباً بأصوات الزحام. وفي السقف كانت هناك نجفة ضخمة على هيئة نجمة داوود.

كان برفقة النساء بعض من اليهود المغتربين، والدبلوماسيين الأجانب وأصدقاء من غير اليهود. النساء السبعة هن آخر من تبقى من اليهود، واخر الرجال في الجالية اليهودية بالقاهرة توفوا أو غادروا البلاد قبل التسعينيات. افتقدت الجالية لحاخام لعقود، لذا تطوع اثنان من الشباب الأمريكيين، وأقاموا الشعائر بمزيج من اللغات العربية والانجليزية والعبرية.

قالت ماجدة هارون، رئيسة الطائفة اليهودية في القاهرة، إنها قد تكون المرة الأخيرة التي ينظم فيها يهود القاهرة احتفالاً بالعام اليهودي الجديد. وأضافت: ”لا أعرف إذا كان سيبقى أعضاء من الجالية اليهودية، أعني أن الاحتفال لا معنى له لو كان بدون مشاركين“. وبجانب هارون، 63 عاماً، كان كل اليهود الباقين بالقاهرة نساء فوق سن الـ80. وتوفي أربعة من الجالية منذ عام 2013، وقالت هارون إن ثلاثة منهن مازلن في الإسكندرية.

ومن وجهة نظر ماجدة هارون، فإن النساء الكبيرات في السن هن التذكير الوحيد بتاريخ يعود إلى عصر الكتاب المقدس. لقرون، لعبت مصر والقاهرة تحديدا دوراً في التاريخ اليهودي، وينتشر ما يذّكر مادياً بهذا التاريخ، ومازال كنيس الحاخام والمفكر اليهودي موسى بن ميمون الذي يعود إلى القرن الـ12 موجوداً بالقاهرة. وتم ترميم المبنى في عام 2010، رغم أنه لا يستخدم بشكل منتظم. وفي أماكن اخرى نجد مقابر يهودية تعود إلى القرن التاسع حيث المدافن مازالت موجودة، على الرغم من حالتها السيئة في العقود الأخيرة.

رغم اختفائهم حالياً، إلا ان المجتمع اليهودي في مصر نابضا بالحياة ومتنوعا في منتصف الأربعينيات، ووصل ذروته عندما بلغ عدد المنتمين إليه 80 ألف شخص. كان من بين اليهود المصريين كتاباً، ومخرجين، ورجال أعمال ونشطاء سياسيين.

كانت هناك أيقونات أيضاً خلال عصر تعدد الجنسيات في الثقافة المصرية والذي رحل منذ زمن طويل. فالمطربة والممثلة اليهودية المولد ليلى مراد كانت شخصية بارزة في الموسيقى والسينما المصرية في منتصف القرن. وكان أحد المتعاونين مع ليلى مراد هو توجو مزراحي، اليهودي الإسكندراني ذو الأصول الإيطالية الذي يعتبر أحد الآباء المؤسسين للسينما المصرية. أخرج مزراحي أفلام مثل الكوكايين في فترة الثلاثينيات وكان عبارة عن قصة بها قتل وتعاطي مخدرات.

سريعاً انتهت تلك الفترة المزدهرة عقب حرب عام 1948، والتي شهدت ميلاد دولة إسرائيل. ومع تصاعد القومية المصرية في الخمسينيات، عقب الإطاحة بالملكية المدعومة من بريطانيا، بدأ الرئيس المصري جمال عبدالناصر في عملية ترحيل كبيرة لليهود المصريين، وأرسل الكثير منهم إلى أوروبا، وإسرائيل، واستقر الأمريكيون في أماكن كباريس وقبرص، وخليج سان فرانسيسكو.

استمر الترحيل لسنوات، مما قضى على الجالية. وفي الخمسينيات، أُصدر لبعض اليهود وثائق سفر بلا عودة، وتم تجريد آخرين من ممتلكاتهم. ومع نهاية الحروب المتتابعة مع إسرائيل في أعوام 1967 و 1973، بقت فقط مئات قليلة من اليهود المصريين في البلاد، كانوا يفعلون ما بوسعهم من أجل الحياة بشكل طبيعي في مجتمع حجمه ضئيل بالمقارنة بحجمه الأصلي.

من بين من اختاروا البقاء كانت عائلة ماجدة هارون. وعمل والدها الشيوعي في شركة للملكية الفكرية كمساعد في تطبيق البراءات والعلامات التجارية. بعد انهائها الدراسة بجامعة القاهرة، أصبحت مسؤولة عن أعمال العائلة. ومؤخراً، سافرت إحدى شقيقاتها إلى أوروبا لكن ماجدة هارون قررت البقاء.

عقب الاحتفال بالعام اليهودي الجديد، انتقلوا إلى مبنى آخر مجاور. وبالإضافة إلى التفاح والعسل، وهو تقليد متعارف عليه، انتشر النبيذ الأحمر في أكواب بلاستيكية صغيرة، وبذور الرمان والتمر، ”كرمز لمصر“ كما تقول ماجدة هارون.

مصر هي بلد ماجدة هارون. بعد الشعائر جلست للتدخين على حجر يبعد خطوات عن ساحة الكنيس. دائماً ما توجد حراسة من الشرطة وتتمركز نقطة تفتيش أمام المكان. وضحكت ماجدة قائلة ”وجدت أول حب لي هنا. كان أول حبيب وأول خدعة. هنا موطني، لماذا أغادر؟ شعر والدي بنفس الشعور“.

وأثناء حديثها وصل اثنان من الشباب القاهريين، وتمنا لها التوفيق في إجازتها.

ترى ماجدة أن المجتمع اليهودي المصري هو ضحية للسياسات الإقليمية. وتقول: ”أنا شخصياً مستاءة من دولة إسرائيل. لأن ما وصلنا إليه اليوم، هو جزء من تأسيس دولة إسرائيل، وجزء من سياسات الدول العربية والتي تسهم في فكرة إسرائيل“.

ترى ماجدة أيضاً أن تأسيس إسرائيل قلب السياسيات الإقليمية، وأد إلى رد فعل كبير في الدول العربية، تحول إلى طرد مباشر أو ضغط على الإقليات اليهودية. ترك الصراع الإسرائيلي المتأجج مع الأنظمة العربية القومية بعض يهود الشرق الأوسط أمام خيار مستحيل: إما انتمائهم الديني أو وطنهم.

رفض الكثير من اليهود الذين بقوا في مصر هذا الخيار، وأصروا على مكانة مصر التاريخية والثقافية، حتى مع تقبل فكرة ما يعنيه أن تكن مصرياً مثل التضييق والطرد. لا تملك ماجدة هارون إلا الجنسية المصرية، ومثل كل المصريين، ديانتها مكتوبة على بطاقتها الشخصية، حقيقة تشير إلى الكفر في بعض الأحيان، فالكثير من المصريين بساطة لا يصدقون بأن هناك يهوداً مصريين. تقول ماجدة: ”أحياناً في البنك، يقولون، يجب أن نحصل على إذن من السفارة. فأقول: أي سفارة؟ لا أعرف أن هناك سفارة مصرية في مصر“.

ليس اليهود فقط هم الإقلية التي تواجه تمييزاً في مصر. يقول الأقباط المسيحيون أنهم يعتبرون مواطنين من الدرجة الثانية، بالفعل لا يصلون إلى المواقع القيادية في الجيش، ويتم التحرش بهم من قبل قوات الأمن ويهددون في بعض أنحاء البلاد من الجهاديين. كما عانى طويلاً أيضاً البهائيون والشيعة المصريون من أجل حقوقهم في دولة ترفض الاعتراف بهم.

تقول ماجدة إن الحكومة المصرية لم تعد تهدد اليهود المصريين القليلين الباقين بالطرد أو أي إجراءات عقابية أخرى، لكن يمكن فعل القليل لإيقاف الانقراض الوشيك لهذا المجتمع. يمتد ذلك إلى عائلتها. كان أول زوج لماجدة مسلماً، ونفس الأمر بالنسبة لابنتها أيضاً. وزوجها الحالي إيطالي كاثوليكي. وتقول: ”نحن المنزل الوحيد في مصر الذي يعيش تحت سقفه ثلاثة أديان مختلفة“.

تشعر ماجدة بأنها مثقلة بمهمة ترأس الأيام الأخيرة لجاليتها. وتقول: ”أنا متعبة من ذلك“، وتضيف ”أستيقظ أحياناً في الصباح باكية. لأنني لا أعرف ما سوف يحدث. عندما يرن الهاتف، لا أعرف من مات، من مريض. من الصعب شرح الأمر. إنه أمر كبير جداً. وحزين جداً وأيضاً مخيف للغاية“.

مازالت حتى الآن عازمة على الإعلان عن إرث يهود مصر حتى في أوقات موتهم. عندما توفيت رئيسة الجالية السابقة، كارمن وينشتاين، عام 2013، عملت ماجدة جاهدة كي يحضر الجنازة مسؤولون محليون وأجانب بجوار حاخام جاء من باريس. توفيت شقيقة ماجدة والنائبة السابقة لرئيسة الجالية في عام 2014، وساعدت أيضاً ماجدة في تنظيم جنازة تحت حراسة الشرطة. وتقول: ”أرى أننا راحلون.. لكن يجب أن نرحل في بهاء“. وأضافت: ”للأسف هي جنازة. لن نقيم حفلات زفاف، لكن سوف يُعترف بنا، وسأحارب حتى النهاية من أجل أن يكون وجودنا معترف به تاريخيا”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى