مجتمع

نيويورك تايمز: كيف تحارب مصر “فيروس سي”

نيويورك تايمز: تطمح الحكومة  لعلاج 300 ألف مواطن سنوياً مع بداية 2016.. وحقوقيون ينتقدون شروط شركات الأدوية على مستخدمي السوفالدي

نيويورك تايمز – دونالد جي مكنيل – ترجمة وإعداد: محمد الصباغ

يدرك عبد الجواد اللباد كيف أصيب بالتهاب الكبد الوبائي (فيروس سي). حدث ذلك عندما كان صبياً في مدرسة بقرية تزرع الأرز في دلتا النيل. كان فصله المدرسي يسير إلى عيادة محلية بصورة شهرية ليتم تطعيمهم ضد مرض البلهارسيا. كانت الممرضة تغلي الإبر الطبية –السرنجات- وتملأها بخمس جرعات ثم تستخدمها لخمس طلاب.

قال اللباد، 52 عاماً: ”لم أرد أن تمسني الإبرة الساخنة، لذلك اعتقدت أنني ذكي حين تركت زملائي يسبقونني“.

أصيب 6 ملايين مصري بالتهاب الكبد الوبائي بسبب الإبر غير المعقمة خلال عقود من محاربة الدولة لمرض البلهارسيا. وانتشر الفيروس بشكل كبير، وعلى الأقل هناك 10% من المصريين مصابين بشكل مزمن أي حوالي 9 ملايين شخص. وهذا هو المعدل الأعلى في العالم.

لكن هناك تجربة جديدة قد تغير كل ذلك. بعد تشويه صورة كبرى شركات الأدوية واتهامها بحجب العقار الذي ينقذ مرضى الإيدز عن الدول الفقيرة في إفريقيا، بدأت تلك الشركات في تجربة استراتيجية جديدة: اتفاق معقد لبيع عقار علاج التهاب الكبد الوبائي بأقل من تكلفته الأصلية مع رقابة صارمة لحماية الأسواق المربحة في الغرب.

شهدت تلك الاستراتيجية هجوماً من بعض المناصرين للصحة العامة في بعض الأوساط. لو نجحت الخطة في مصر، فلن يكون فقط بداية لعلاج التهاب الكبد الوبائي في العالم أجمع بل أيضاً لتزويد المواطنين في البلدان الفقيرة بالأدوية الحديثة بأسعار منخفضة، بعدما كانوا غير قادرين على تحملها.

عبدالجواد اللباد

التجربة مستمرة منذ قرابة العام، ورغم هشاشتها إلى الآن، إلا أنها تبدو في طريقها للنجاح.

شُفي اللباد، الذي يعمل فني إصلاح تكييفات، تماماً من إلتهاب الكبد في الربيع الماضي. واستمر في العلاج لمدة ثلاثة أشهر، وشمل عقار سوفوسبوفير –سوفالدي- وهو الأول من الجيل الجديد الذي تناول العلاج المعجزة. تصل تكلفة الحبوب إلى أكثر من 84 ألف دولار في الولايات المتحدة.

حصل على العلاج من الحكومة المصرية، التي دفعت حوالي 900 دولار. وقال اللباد واصفاً حالته: ”كنت أشعر من قبل بأنني أموت. والآن، أشعر بما لم أحس به من قبل. كأن عمري 35“.

مشكلة عالمية

أزمة الإصابة بالتهاب الكبد الوبائي عالمية، وهناك حوالي 150 مليون شخص حول العالم مصابين بشكل مزمن، أي أكثر بأربعة أضعاف من المصابين بالإيدز، ويموت حوالي 500 ألف سنوياً بسبب مضاعفات المرض وخصوصاً تليف وسرطان الكبد.

المرض ينتشر في مصر أكثر من أي مكان آخر بالعالم، ويصاب قرابة 150 ألف سنوياً ويعود ذلك إلى إستخدام الإبر الطبية أكثر من مرة، أو المعدات الطبية الملوثة، أو التعرض للإبر بطريق الخطأ، وأيضاً بسبب مشاركة أفراد الأسرة الواحدة لفرش الأسنان والمعدات الشخصية الأخرى.

تقول الطبيبة منال حمدي السيد، التي تدير الحملة القومية للتوعية ضد الإصابة بفيروس سي، إن كل مصري مصاب بالمرض ينقله على الأقل لثلاثة أشخاص في المتوسط. يدير المعهد القومي المصري للكبد 50 مركزاً للعلاج ويستهلك ثلث ميزانية الدولة الموجهة للصحة.

يضرب المرض بقوة أكبر في قرى الدلتا حيث نصف من هم فوق سن الخمسين مصابين.

قال محمد خفاجي، مرشد سياحي 39 عاماً، إن كل عائلة يعرفها فقدت أحد أفرادها بسبب الإصابة بفيروس سي. وأكد أن تليف الكبد قتل والده واثنين من أعمامه وأحد أبنائهم.

محمد خفاجي

خفاجي مصاب بالمرض ويعلم أن الشفاء في دولة أغنى سيكون أسرع. ويعلم أيضا أن تلك الأدوية تأتي من الغرب، لكن أقرب عيادة له –في كفر الشيخ- تقوم بصرف الدواء لديها قائمة من الأسماء لمن سيحصلون على العلاج في الثلاثة أشهر القادمة. وتعجب قائلاً بصوت مرتفع: ”هل أنتظر كل هذا الوقت؟“

عقار يغير اللعبة

بالنسبة لدولة فقيرة، فإن مصر تمتلك نظاما صحيا فعالا نسبياً، مع جحافل من المتخصصين في علاج أمراض الكبد. ومع التزامهم بإصلاح ما أفسدته حملة البلهارسيا، قررت وزارة الصحة عام 2007 عمل خطة علاج طموحة لمرضى التهاب الكبد مستخدمة عقارين قديمين هما الانترفيرون والريبافيرين.

للعقارين آثار جانبية لا يمكن علاجها. وفي العام الماضي، قدمت شركة “جيليد” للأدوية ومقرها كاليفورنيا، بديلا جديدا.

صنعت الشركة عقار “سوفوسبوفير”، الذي كان يباع بالولايات المتحدة منذ عام 2003 باسم سوفالدي بقيمة ألف دولار للحبة الواحدة اليومية. ويتناول المريض معه الريبافيرين وأحياناً الانترفيرون، ويكون العلاج من التهاب الكبد الوبائي خلال 12 أسبوعاً.

كان لعقار سوفوسبوفير صدى هائلاً وحصدت شركة “جيليد” من ورائه مكاسب في السنة الأولى لطرحه بالأسواق تقدر بـ10 مليارات دولار.

اشترت الحكومة المصرية العقار مقابل 10 دولارات للحبة الواحدة. وتقوم الحكومة بتوزيع العلاج على الصيدليات في الدولة حيث توزع مجاناً على المواطنين.

سمحت شركة “جيليد” أيضاً لـ11 شركة هندية وشركتين مصريتين بصناعة السوفوسبوفير بترخيص، ويقومون ببيعه بأي سعر يريدونه مقابل 7% من حقوق البيع.

في مقابل ضمان بيع سوفوسبوفير بسعر زهيد، طالبت شركة “جيليد” مصر بفرض قيود صارمة على كل عبوة من أجل منع إعادة بيعها في السوق السوداء وإلحاق الضرر بأعمالها في مناطق أخرى. يجب أن يصرف العقار من الصيدليات الحكومية فقط، ويجب أن يعيد المريض العبوة القديمة ليحصل على الجديدة. كما يجب أن يقوم من يحصل على عبوة جديدة بفتح الغطاء فوراً وأخذ الحبة الأولى أمام الصيدلي، مما يجعل من المستحيل تقريباً إعادة بيع العبوة مرة أخرى.

من جانب آخر، قالت هبة ونيس الصيدلانية التي تعمل الآن بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، إنها وجدت ما يطلب من المريض بتناول الدواء أمام الصيدلي ”أمرا مذلا“ وشعرت بأن ذلك ”يطرح الكثير من القضايا الأخلاقية“.

فيما ترى الطبيبة جينيفر كون، المسؤولة عن حملة الحق في الحصول على الدواء في منظمة أطباء بلا حدود، إن تلك المتطلبات تقحم ”عنصرا ثالثا (طرفا اخر) في العلاقة بين الطبيب والمريض“، وقالت إن تحكّم شركات الأدوية في من يتناول العقار هو ”سابقة شديدة الخطورة“.

أما عامل صيانة أجهزة التكييف، اللباد، فقال: ”أتفق مع ذلك تماماً. أنا رجل فقير. لو لم يكن علي رد العبوة القديمة في كل مرة، ربما كنت بعتها من أجل شراء منزل لابني“.

فيما يرى المسؤولون المصريون أن الأمر عادل.

يقول جمال عصمت، المتخصص بأمراض الكبد بكلية الطب جامعة القاهرة والمشارك في خطة العلاج القومية من التهاب الكبد ”ليس لدينا أي مشاكل مع القواعد. هي لمنع السوق السوداء من نقل الأدوية إلى دولة أخرى“.

تسعى الحكومة المصرية لعلاج 300 ألف مريض سنوياً بداية من عام 2016، وللوصول بمعدل الإصابة إلى أقل من 2% بحلول عام 2025. وكانت المرحلة الأولى ناجحة بعلاج 125 ألف مريض حتى الآن بعقار السوفالدي.

كما تم محاكاة ما فعلته شركة جيليد مع الحكومة المصرية من قبل شركات أدوية أخرى. في أغسطس أعلنت الحكومة المصرية أنها قد تستورد عقارا مركبا من شركة “آبفي” (AbbVie). ومثل جيليد، عرضت الشركة العقار بسعر يعادل 1% من السعر الذي يباع به في الولايات المتحدة، أي 13 دولار للجرعة اليومية. وفي إجراء لمنع إعادة بيعه أطلقت على العقار في السوق المصري اسم (Qurevo).

وفي أكتوبر بدأت الحكومة استيراد داكلينزا (Daklinza)، وهو عقار لعلاج التهاب الكبد الوبائي، تنتجه شركة بريستول مايرز سكويب.

هاني توفيق

في الواقع بدا بعض المصريين مندهشين من ثروتهم الثمينة. فهاني توفيق، 66 سنة، الذي كان في عام 2014 أول مصري يتلقى علاج سوفوسبوفير، تسائل ”هل أنتم أيها الأمريكيون تحبون المصريين أكثر من أنفسكم؟ لماذا لا تضغطون على شركة جيليد لبيع تلك الأدوية لكم بأسعار معقولة أيضاً؟“.

في مصر آلاف الصيدليات الصغيرة التي نادراً ما يتم تنظيم عملها. يتم بيع المواد المخدرة دون إذن. رسمياً، تحدد الحكومة أسعار القطاع الخاص، لكن في الواقع، تقوم الصيدليات بفعل ما تريد.

ربما تضع الحكومة في اعتبارها قيود شركة جيليد، لكن سيتم تجاهل تلك التقييدات من جانب الصيدليات الخاصة الصغيرة.

تقول شيرين حلمي، المدير التنفيذي لشركة فاركو البارزة في صناعة الادوية بمصر: ”لا أعتقد أن المرضى سيقبلون ذلك. لو كنت مريضاً، وذهبت زوجتك لشراء الدواء، هل يجب أن تتناول هي الحبة الأولى؟“.

وماذا سيحدث لو قرر الأجانب من الدول المتقدمة والمصابون بالتهاب الكبد الوبائي بالنظر إلى مصر كمكان للحصول على علاج سريع ورخيص؟

ويضيف حلمي، لو جاء مريض أمريكي لا يدخل بمظلة التأمين الصحي ”ولدية إذن بدواء من طبيب مصري، هل يجب أن أمنعه؟“

”لا يمكنك منع المرضى من الحصول على الدواء، وأضاف  ”هذا حق من حقوق الإنسان.“

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى