سياسة

نيويوركر: مصر.. حكايات ديمقراطية غرف المعيشة

تحقيق نيويوركر: مصر..حكايات ديمقراطية غرف المعيشة

Yusuf, a candidate for parliament in Upper Egypt, greets a supporter.

نيويوركر

BY

ترجمة: أحمد جمال سعد الدين

في الخريف الماضي، بمركز البلينا النائية في صعيد مصر، تنافس حوالي 19 مرشحاً على مقعدين بالبرلمان الوطني الجديد، وبدا أن (يوسف حسن يوسف)، هو أكثر من يستمتع بوقته بينهم. (يوسف) رجل ضخم الجثة في منتصف أربعينياته، له بشرة مصقولة غامقة، تُظهرها جلّابيته البيضاء، عنده تسعة أطفال، ويمتلك محل مجوهرات، بالإضافة إلى حقل يزرع فيه القمح، والذرة، وقصب السكر. قام بحملته الإنتخابية بالكامل من بيت إلى بيت، في رأيه، فإن فعاليات السياسة العامة ليس لها أي جدوى، يقول لي:” هذه الصوانات مزيّفة”. ليس لـ(يوسف) برنامج إنتخابي، وهو لا يتطرق في حديثه إلى مواضيع أو سياسات أو تشريعات محتملة، ولم يقدّم وعداً إنتخابياً واحداً، وقد نجح في بناء مسيرة سياسية ناجحة بالرغم من أنه لم يحظ بأي دعم من أي حزب أو مؤسسة، عندما سألت مرشحاً منافساً له عن الطريقة التي استطاع بها (يوسف) فعل هذا، أجابني على مضض:”يوسف محظوظ، إنه رجل طيب وبسيط، لكنه محظوظ”.

حظي (يوسف) بأول مقعد برلماني في تاريخه، في ديسمبر 2010. ترشّح كمستقل، وهزم مرشّح الحزب الوطني الديموقراطي، الحزب الأوحد واقعياً في مصر لمدة تزيد عن ثلاثين عاماً. اندلعت الثورة في ميدان التحري،  بعد هذا بأقل من شهرين، واستقال الرئيس (حسني مبارك) من منصبه، ثم حُلّ البرلمان، وحُظِر الحزب الوطني الديموقراطي. وسُمح للإسلاميين،  للمرة الأولى، بتأسيس الأحزاب السياسية، وفازوا بأكثر من 70 بالمائة من مقاعد البرلمان التالي، شتاء عامي 2011-2012. على العكس من ذلك، في البلينا، حصل (يوسف) على عدد أصوات يزيد عن المرشح الإسلامي المحلي المنتمي إلى تنظيم الإخوان المسلمين السياسي، حزب الحرية والعدالة، ومرة أخرى، سافر (يوسف) إلى القاهرة ليبدأ مهام عمله، ومرة أخرى تم حلّ البرلمان، هذه المرة بحكم محكمة، في صيف عام 2013، بعد احتجاجات واسعة في البلاد، وتدخل الجيش لعزل (محمد مرسي)، أول رئيس منتخب ديمقراطياً، وأحد قيادات الإخوان المسلمين، وسريعاً ما تم اعلان الإخوان المسلمين جماعة إرهابية.

عندما سألت (يوسف) عمّا تعلّمه من هذه الأحداث، وجد صعوبة في الإجابة، لاحظت أن هذا السؤال يفترض منطقاً لا ينطبق على مصر. من وجهة نظر (يوسف)، فإن خاسري الإنتخابات رأوا أحزابهم تُمنع أو تُحل، بينما انضم الفائزون إلى صانعي القرار القانوني، وهؤلاء بدورهم رأوا أحزابهم تُمنع أو تُحل. “لم أعرف بالضبط ما الذي حدث، هل كان قراراً قانونياً بحكم محكمة، أم شيئاً آخر” متحدثاً عن قرار حل المجلس للمرة الثانية.

منذ هذا الوقت، أجّلت الحكومة الإنتخابات بشكل متكرر، ولم تحظ مصر ببرلمان لمدة ثلاث سنوات، على الناحية الأخرى، استمر (يوسف) في فعل ما يستطيع فعله أفضل من أي شيء آخر. “أنا دائماً أروّج لنفسي، هذا لا يتوقف أبداً”، قال لي في يونيو الماضي. قبل شهور من تحديد جدول للإنتخابات الجديدة. قدّم اثنان من البرلمانيين المحليين على طلب إجازة من أعمالهم منذ 2012، وذلك ليتفرغا للترويج لنفسيهما بحرية أكبر.

تقع البلينا على ضفة النيل الغربية، حوالي 300 ميل من القاهرة، حيث يحاط الوادي الضيّق بمساحات جرداء ، بعيد هذه المساحات، تقبع الصحراء غير المأهولة بالسكان في شمال أفريقيا. صعيد مصر منطقة ذات كثافة سكانية عالية، حوالي 40 بالمائة من المصريين يعيشون في الجنوب، الجزء المُهمل والأكثر فقراً من البلاد. استجاب سكان الصعيد للفشل الحكومي على مر السنين، عن طريق بناء نظامهم الإنتخابي الناجح، وطوّروا نماذجهم الخاصة من الأحزاب، وابتكروا تقاليداً انتخابية خاصة بهم، حتى تحت حكم الحزب الوطني الديموقراطي.  نجا هذا النظام غير الرسمي من الربيع العربي وتبعاته، وبمعنى من المعاني، فإن هذا النظام راسخ كأي مؤسسة سياسية مصرية. تعكس هذه الحملات الإنتخابية الجنوبية، كيف أنه في دولة قمعية لكنها ضعيفة، لا تنحصر المشكلة فقط في الطرق التي تمنع بها الحكومة الحريّة السياسية في البلاد، لكن المشكلة كذلك في المنظمات المعيبة التي يصممها الناس عندما يُتركون بالكامل لأنفسهم وما بحوزتهم.

منافس (يوسف) الرئيسي في البلينا، هو (رأفت محمد محمود)، الذي واجهه في كل منافسة تقريباً. انتمى (رأفت) للحزب الوطني الديموقراطي سابقاً، لكنه أصبح مستقلاً بعد الثورة، واستطاع في 2012 هزيمة مرشّح الإخوان المسلمين، وحل في المرتبة الثانية بعد (يوسف).

غيّر (رأفت) انتمائه من أجل هذه الإنتخابات مرة أخرى، انضم لحزب المصريين الأحرار، الذي تأسس على يد (نجيب ساويرس)، رجل الأعمال المسيحي الأرثوذوكسي، و يعتبر واحداً من أغنى الرجال في البلاد. ينتمي (رأفت) نفسه إلى أسرة غنية صاحبة نفوذ، وهي عائلة (أبو الخير). منذ الليلة الأولى لاحظت طريقته في الدعاية الإنتخابية، متجوّلاً بين البيوت، مع حاشيته المكوّنة من عدد كبير من الأقارب، في عربة مرسيدس سيدان، وسيارة رياضية متعددة الأغراض، وعربتان من نوع آخر.

واحد من الحاشية، هو المسئول عن انهاء الزيارات المنزلية، إسمه (أبو ستيت)، رجل قصير ممتليء بشارب يشبه فرشاة الأسنان، يحمل عكازاً خشبياً، ويرتدي عمامة. عند كل توقّف يتم استقبال المجموعة في الدوّار”، مساحة استقبال تقليدية في مناطق مصر الريفية، حيث ينتظر كبار رجال العائلة. عند المدخل يصطف شباب العائلة لتحيّة الزوّار، حيث يقدّم كل واحد منهم سيجارة لكل ضيف، أحياناً ما كانت تتم تحيتي بعشرين سيجارة في تتابع سريع. خلال مدة الزيارة، يجلب الشباب صواني من المشروبات للكبار، لكن (أبو ستيت) يصرخ فيهم: “حلاوة”. في صعيد مصر، تمارس العادات الإجتماعية  في وقت متأخر، وبحلول منتصف الليل، فقدت القدرة على عد عبوات الشوكولاتة التي التهمها (أبو ستيت). وكلما ارتفع منسوب السكر في دمّه، ازداد انبهاري: كان هنالك شيء ساحر بخصوص هذا الرجل الصغير ذي الشارب الهتلري، والذي ألقى غلافاً ورقياً لأحد الحلويات، ودق بعصاه على الأرض صارخاً: “الفاتحة ! الفاتحة !”، الفاتحة هي أولى سور القرآن، وتُتلى لجلب البركة لمغادرة (رأفت)، قد تستمر بعض الزيارات المنزلية لمدة نصف ساعة، فيما ينتهي بعضها الآخر في دقيقة، وحده (أبو ستيت) من يعرف التوقيت المناسب على ما يبدو.

بعض الزيارات كانت تتميّز بفواصل صمت طويلة. لم يكن هناك أي خطابات انتخابية، أو تقديم رسمي، ونادراً ما كان (رأفت) نفسه يتحدث. كان رجلاً طويلاً يرتدي جلابية غالية مخططة، وعادة ما كان يجلس في المكان الشرفي المخصص له، محدقاً في الفراغ، حتى ينادي (أبو ستيت) أخيراً من أجل قراءة الفاتحة.

لا يذكر أحد ماضي (رأفت) في الحزب الوطني الديموقراطي، أو انتماءاته السياسية الحالية، والتي عادة ما تكون أهدافها مادية. في البلينا ، قد يدفع حزب قاهري التأسيس مثل حزب المصريين الأحرار، تكاليف اللافتات والدعاية الإنتخابية، لكن هذا الحزب لا يمتلك مقراً رسمياً، أو شبكة علاقات. كما لا توجد صحافة محلية فعّالة، تسمح للحزب بالترويج لسياسات أو مواضيع بعينها. كان هذا أحد الأسباب التي تجعل المرشّحين يروّجون لأنفسهم بالكامل من بيت إلى بيت. تتكون البلينا من مدينتين صغيرتين، و33 قرية، بتعداد سكان يقارب ال600 ألف، لكن المرشين عادة ما يكونون قادرين على تغطية هذه المساحة العريضة، لأنهم بدأوا مبكراً قبل موعد الإنتخابات الرسمي. في اليوم الخامس من الدعاية الإنتخابية، قابلت شخصاً استقبل 10 مرشّحين في بيته بالفعل.

بدلاً من الأحزاب، تدور الإنتخابات عادة حول قبيلتين محليتين: الهوّارة، التي ينتمي إليها (يوسف)، والعرب، التي ينتمي إليها (رأفت). عند أول زيارة لي للـبلينا، في أوائل 2013، أثارت هاتين المجموعتين انتباهي من حيث فرط تعذر تمييزهما: يتحدثان نفس اللهجة من العربية، ويتشابه أسلوب المعيشة وطريقة ارتداء الملابس، وينتميان من الناحية الشكلية إلى نفس المجموعة العرقية. كلهم مسلمون، وأغلبهم يعملون بالزراعة. لم أكن أتخيّل أن في مصر مجتمعات قبلية، على عكس مناطق أخرى من الشرق الأوسط، كانت مصر دائماً بلداً زراعياً.

لكن أغلب الناس في البلينا كانوا مصرّين على أنهم ينحدرون من قبائل بدوية مترحّلة.

أحد الأعضاء البارزين في حاشية (رأفت)، هو ابن عمه، (سليمان أبو الخير)، وهو ممثل اعتاد لعب دور الرجل الصعيدي في التلفزيون. في وقت متأخر من الليل، زار أعضاء الحملة الإنتخابية مالك أرض ثري، وكبير عائلته، يُدعى (ضابط جابر)، طلب من (سليمان) أن يبحث عن كاتب سيناريو جيّد للكتابة عن قبيلتهم. “نريد مسلسلاً محترماً يمثّل العرب”، هكذا قال (ضابط)، وأكمل” نريد الرجل الذي كتب مسلسل (شيخ العرب همام)، لكن هناك مشكلة، أنه وصف أحد شخصيات المسلسل المنتمين لقبيلة الهوارة، كما لو أنه ينتمي للعرب”، واستمر (ضابط) في تحليل طويل لعدد من المسلسلات التي، في رأيه، خلطت بين القبيلتين. وقال أن على العرب أن يبذلوا مزيداً من الجهد، من أجل تأسيس هويّة واضحة لهم في صناعة الترفي. “ستستمر في رفع رؤوسنا وسط المصريين، إن شاء الله” وجه الجملة الأخيرة للممثل.

“هل شاهدت مسلسل خلف الله؟” سأل (سليمان)

“شاهدت حلقتين لا أكثر”

“لابد أن تشاهده، ألعب دوراً جيداً”

“الفيسبوك  دمّر نظرنا، وأضعف عيني يا رجل”

في الحقيقة، فإن تاريخ بعض القبائل في صعيد مصر، جرى انتاجه بالكامل منذ وقت قريب. خلال العصور الوسطى، هاجرت بعض القبائل البدوية الرحّل، بما فيها الهوّارة، من شمال غرب إفريقيا. ثم تزاوجوا مع السكان الأصليين، وتبنّوا الثقافة المحلية، وهنالك الكثير من الغرباء الذين استقروا في هذه المنطقة، بداية من التجار اليونانيين، إلى الموظفين الأتراك. لم يكن هناك أبداً قبيلة تسمى الـ”عرب”، لكن الإسم شاع في منتصف الخمسينيات، كجزء من حركة (جمال عبد الناصر) العروبية، في صعيد مصر، حلّ هذا الوصف محل كلمة “فلاحين” الذي يحمل تضمينات سلبية.

ولكن خلال الثلاثين سنة الماضية، تم اعادة تصوّر مفهوم العرب، بالتزامن مع عدد من المجموعات الأخرى في المنطقة.

درس (هانز كريستيان كورشولم  نيلسين)، وهو باحث أنثروبولوجي هولندي، سياسات صعيد مصر، وهو يعتقد أن القبلية لم تكن أمراً مهماً خلال سنوات 1960، وبدايات 1970، لكن الحاجة ظهرت إلى نظام انتخابي يعتمد على بعض المجموعات الثابتة، وكانت القبائل في متناول اليد، أعتبر مبارك الإنتخابات البرلمانية وسيلة للإدعاء بأن مصر ديموقراطية،  يقول (نيسلين) أنه بالرغم من أن الأصوات كانت مزوّرة في المدن الكبرى، إلا أن الإنتخابات في الصعيد المُهمل كانت عادة ما تجري بحرية أكبر، ثم يأتي الحزب الوطني الديموقراطي ليضم إليه الفائز أياً كان. في هذه البيئة غير المنظمة، والتنافسية في نفس الوقت، حيث لا توجد مؤسسات، يميل الناس عادة إلى المؤسسات التي يعرفونها جيّداً: الأسرة، وبهذا تم توسيع مفهوم الهويّة القبلية، وفي بعض الأحيان خلق خلفية واسعة وزائفة حول هذه المجموعات.  يعرف نيسلين مرشحاً بالقرب من مدينة أسوان، قام بوضع مؤلف في التاريخ لتوعية المصوّتين بماضيهم القبلي المزعوم.

يمكن للسياسي الفائز في شمال البلاد، أن يوجه بعض الإعتمادات ناحية مشاريع تنفع مؤيديه، لكن سقف التوقعات في مكان مثل البلينا أكثر انخفاضاً. خلال الزيارات المنزلية، يطلب أحد المصوّتين من المرشح واسطة بإسم المرشح عند أحد المكاتب الحكومية التي تقدم تسهيلات أو خدمات بعينها. هذا أحد الأسباب التي تجعل الحملات الإنتخابة شخصية جداً: بسبب حقيقة أن المرشحين لا يحظون بأي دعم مؤسسي، يطلب المصوّتون خدمات صغيرة. وبالرغم من هذا يبدو سكان صعيد مصر أكثر اهتماماً بالإنتخابات من القاهريين. الفخر القبلي عصر آخر، وتعمل الإنتخابات على تعزيز البنية القبلية. العائلات المصرية تميل لكونها ذات ترتيب هرمي، خصوصاً في الجنوب، حيث يبدو الإستمتاع على كبار العائلة، وهم يصدرون الأوامر لصفوف من الشباب. من المتوقع كذلك من كبار رجال العائلة أن يحددوا مصير أصوات عائلاتهم. أخبرني (ضابط)، كبير العائلة الذي استفسر عن مسلسلات التلفزيون، أنه يوّجه 600 صوت انتخابي في عائلته الممتدة. “عندما أعطي الأمر يوم الإنتخابات، عندها يتوجب على الناس الذهاب للمقار الإنتخابية، والتصويت، ليس من شأنهم إذا كان هذا صواباً أو خطأ”. يخبرني ضابط أنه لا يهتم فعلاً بمن يربح الإنتخابات، بالنسبة له، تبدو القيمة الأساسية في فرصة السيطرة على عشيرته. وهو يقوم بهذا علناً- في اليوم التالي لزيارتنا، أعلن (ضابط) على الفيسبوك، أن عائلته ستصوّت لـ(رأفت).

غالبية أعمار السكان، في مصر، أقل من الخامسة والعشرين. التصرفات السلطوية التي يقوم بها كبار رجال العائلة – طلب المشروبات، إملاء الأصوات، السيطرة فعلياً على كل شيء- أمر مدهش في ضوء ندرتهم. تبلغ نسبة الرجال البالغين من العمر 55 عاماً، أو أكبر، حوالي 5.7 % من اجمالي عدد السكان.

نسبة كبيرة من شباب المصريين يعانون من البطالة، أو يعملون في غير مجالاتهم، وهؤلاء من مثلوا النسبة الأكبر في احتجاجات ميدان التحرير 2011. واحدة من مطالب الثورة كانت اعطاء دور أكبر للشباب في الحياة السياسية. وفي أول انتخابات برلمانية تالية، جرى حجز ثلثي المقاعد لمشرحي القوائم: وهم مرشّحون يتشاركون الإنتماء الحزبي أو غيره، وكان من الملزم لهذه القوائم أن تتضمّن شباباً تحت سن الخامسة والثلاثين، وكذلك النساء والأقباط، وعدد من المجموعات غير المُمثلة عادة.

أصغر مصري يفوز بمقعد برلماني تابع لقائمة، كان من مركز البلينا،  يبلغ من العمر 26 عاماً، ويدعى (محمود حمدي أحمد)، وهو أحد أبناء عمومة (رأفت)، وينتمي لعائلة (أبو الخير).

وعلى عكس (رأفت)، الذي أسس حياته السياسية كعضو في الحزب الوطني الديموقراطي، فإن (محمود) ظهر مع ازدهار أحزاب ما بعد الثورة، انضم إلى حزب النور الذي يمثّل الحركة السلفية، الإتجاه المحافظ من الإسلام، الذي نشأ في منطقة الخليج الفارسي (العربي). حظي حزب النور بربع مقاعد البرلمان، و بالتعاون مع الإخوان المسلمين، فقد بدا أن هذه هي طليعة الإسلام السياسي في مصر.

لكن ممثلي حزب النور عادة ما اشتبكوا مع أعضاء الإخوان المسلمين في البرلمان، وأيّد حزب النور خلع الرئيس (مرسي) في يوليو 2013. في وقت لاحق من هذا الصيف، ارتكبت قواة الأمن مجزرة قتلت فيها ما يزيد عن 800 مؤيد (لمرسي) في القاهرة، حسبما أورد  مرصد حقوق الإنسان، وتسبب هذا العنف في انسحاب العديد من القواعد الشعبية لحزب النور. وعندما وضعت اللجنة العليا للإنتخابات قواعد الإنتخابات البرلمانية الجديدة، في 2015،  قلّصت جذرياً عدد مقاعد القوائم.

استمر ضعف حزب النور بمرور الوقت، وتخلى (محمود) عن عضويته، وأصبح مستقلاً. لكنه احتفظ باللحية. كان (محمود) هو المرشح الوحيد الذي تظهر صوره باللحية السلفية على ملصقات الدعاية في البلينا، تتميّز هذه اللحية بحلق شعر الشارب فقط، وهي شعار قوي، لكن التأويلات المحلّية تتباين بشكل واسع: بعض الناس يرى أنه أصولي حقيقي، في حين يعتقد آخرون أنه انتهازي استغلّ الحركة السلفية قبل أن يتخلى عنها.

لم تكن عائلة (أبو الخير) ذات نفوذ سياسي في الماضي، حتى سافر بعض أفرادها إلى الكويت للعمل هناك في أوائل الثمانينات، وأصبحوا أثرياء كفاية للبدء في حملات انتخابية كبيرة. أبعد (محمود) نفسه عن (رأفت)، وماضي الأخير في الحزب الوطني الديموقراطي، عن طريق تبّني الهوية السلفية. يعتقد مروّجو نظريات المؤامرة في القرية، أن ولدي العمّ يستخدمان قشرة السياسة الوطنية، للتمويه على الحقيقة الواضحة: عائلة (أبو الخير) تكتسب سطوة مادية ومكانة اجتماعية غير مسبوقة.

عندما زرت دوّار (محمود) للمرة الأولى، وجدت شاباً طويلاً نحيفاً، تعكس عيناه النباهة والريبة على حد سواء. درس الصيدلة، مجال عمل يجذب العديد من الطلاب النابهين في مصر، تحاورت معه عبر مترجم، لكنه بدا غير قادر، أوغير راغب، على الإجابة عن أسئلة بعينها تتعلق بالسياسة، او بالتشريعات المحتملة. كان هذا معتاداً في البلينا، حيث نادراً ما يكون للمرشّحين أي خبرة في التعامل مع الصحافة. لكنني عندما سألت (محمود) عن السبب الذي دعاه لترك حزب النور، كانت اجابته قاطعة: “الشارع يريد مرشحين مستقلين”. وأضاف:”النظام هنا قَبَلي، يوجد هوارة وعرب ولا شيء آخر، لا إسلاميين ولا غيرهم”.

يتجول (محمود) في حملته الإنتخابية بواسطة سيارة مرسيدس 200 سيدان، تزيّن نافذتها الخلفية رمزه الإنتخابي الرسمي: المدفع الحربي، بالإضافة إلى شعار: “إيدي في إيدك، نبني مستقبل ولادك وولادي”. وضعت الحملة  كذلك عدداً من المدافع الخشبية في المناطق المزدحمة من البلينا، ومدافع بلاستيكية بيضاء ، تتوّجه ماسورتها إلى الأعلى على أسطح عربات التوك-توك ثلاثية العجلات، والتي تتجوّل في أنحاء المدينة كسلاح فرسان مصغّر.

الشعارات الإنتخابية إلزامية، لأن أكثر من ربع المصريين لا يعرفون القراءة والكتابة، وتزيد النسبة في الجنوب. أخبرني القضاة في بعض المراكز الإنتخابية بالبلينا، أن غالبية المصوّتين لا يستطيعون القراءة. اختيار الشعارات الإنتخابية في كل مركز، يتحول إلى مشروع خيالي، يختار المرشّحون من بين 160 رمزًا انتخابيًا معتمدًا حكومياً، بعضها له دلالات مريبة: سكين، سيارة إسعاف، عقرب، أحد الشعارات هي الريشة، مثل دان كويل، في الكارتون القديم “دوونزبيري”. اختار اثنان من المرشّحين القاهريين رمزيّ البندقية والبوق هذا العام. الرمز الإنتخابي الأول في البلينا كان الثريا، المعادل السياسي لفريق النيكس، حاملاً (رينالدو بالكمان) (لاعب كرة سلة أميركي)

أخبرني (محمود) أنه اختار المدفع لأنه لم يجد غيره، لكن هذا غير منطقي لأنه كان الرابع في ترتيب الإختيار. في كل الأحوال، لم أستطع منع نفسي من الإعجاب بهذا الإسلامي التائب، الذي ظهر في أول انتخابات برلمانية بعد انقلاب عسكري، جامعاً بين رمز المدفع، ولحية سلفية. بالنظر إلى الحالة الأمنية، يبدو هذا بنفس شجاعة المرشح القاهري الذي تبنّى جملة” لا للإرهاب” شعاراً لحملته الإنتخابية.

حظي (مرسي) بأغلبية واسعة في البلينا، في أول انتخابات رئاسية بعد الثورة ، وحل مرشح حزب الإخوان المسلمين، الحرية والعدالة، في المرتبة الثانية بعد (رأفت) على المقعد البرلماني المستقل. كانت جماعة الإخوان المسلمين محظورة في الغالب على مدار تاريخها، وتميّزت بسمعة خاصة فيما يتعلق بالأعمال الخيرية، والتنظيم القاعدي، وكان أداؤها مرضياً في الإنتخابات بصعيد مصر، والذي يوصف عادة بأنه معقل الإخوان المسلمين.

كان للإخوان المسلمين مقرّ صغير في البلينا، ولم أجد أي دلائل على أعمال خيرية ذات قيمة. انطبق هذا على أغلب المناطق التي زرتها في الجنوب خلال فترة حكم (مرسي). وأصبحت أكثر قناعة بأن الإخوان المسلمين ضعفاء بشكل ملحوظ، وأنهم كسبوا الإنتخابات فقط لأنه لم توجد منافسة منظمة. في إبريل 2013، قابلت (أيمن عبد الحميد)، وهو طبيب من البلينا، وأحد قيادات الإخوان المسلمين الذي كان من المقرر له خوض الإنتخابات البرلمانية القادمة. أخبرني أن هناك 150 عضواً في الجماعة فقط في المركز.

زرت (أيمن) مرة أخرى في الصيف الماضي بعيادته الخاصة الصغيرة. من المستحيل عملياً مقابلة واحد من أعضاء الجماعة في القاهرة، لكن (أيمن) أخبرني أن الحملة الأمنية المحلّية أخف، جزئياً بسبب النظام العائلي الذي يعمل كعازل للأحداث العامة. قال لي أن عضوين من الجماعة فقط بالبلينا تم سجنهما، وتُرك الباقي لأنهم لم يعودوا أعضاء فاعلين بعد الآن. وأكد أن الفقر هو أحد الأسباب التي تجعل قوات الأمن أكثر هدوءاً  في التعامل. “الحياة صعبة بالفعل، لا يريدون جعلها أصعب”.

ذكّرته أنه أخبرني في 2013، عن كون عدد الأعضاء 150 فرد، فقال: “هذا عدد الحشد حول الإخوان، وليس الأعضاء الحقيقيين، كنا نحاول المبالغة في الأرقام لإخافة الأحزاب الأخرى، مجرد تكتيك إنتخابي”. سألته عن العدد الحقيقي، فقال: “10 أشخاص” وابتسم بحزن ثم أكمل “اخطأنا في أمرين، بالغنا في أعداد الأعضاء لإخافة الآخرين، وسمحنا لآخرين بالتصرّف وكأنهم مننا، لكن الحقيقة أنهم لم يكونوا كذلك”

يبدو هذا مثيراً للتأمل، في مركز يبلغ عدد سكانه 600 ألف شخص، استطاع تنظيم يبلغ عدد أعضاءه 10 أشخاص السيطرة على الإنتخابات الرئاسية، وفازوا بمقعد برلماني قريباً. كان للإخوان المسلمين شعبية خاصة، مع حزب النور، بين الشباب في صعيد مصر. شعرت أن هذا لا يرتبط بإيمان عميق بالإسلام السياسي، على العكس، كان الشباب يتعلّق بأي بديل للتقاليد المحلية التي تجبرهم على أشياء مثل تقديم قطع الشوكولاتة للرجال المسنين. والآن وقد هُزم الإسلاميون تماماً، استعاد النظام التقليدي سطوته. في الجولة الأولى من التصويت في البلينا، في منتصف أكتوبر، انحصرت المنافسة بين أربع مرشحين: (يوسف)، و(رأفت)، و(محمود)، ولواء شرطة سابق إسمه (نور أبو ستيت). بالمصطلحات القَبَلية، كانت القِسمة ممتازة: اثنان من العرب، واثنان من الهوّارة.

واحد من المرشحين الذين تم اقصاؤهم هو (محمود أبو محسّب)، محام أعرفه منذ سنتين. في 2010، كان أداؤه جيداً في انتخابات محلّية سابقة، لكن هذه المرة، حل في المركز السابع عشر من أصل تسع عشر مرشحاً، بعدها توقف عن الرد على مكالماتي، وعندما طرقت باب شقته، سمعت صوت ابنه المكتوم يقول: “أبي لن يأتي”

لم يره أقاربه في قريته كذلك، “الناس تسخر منا”، يقول ابن عمه، (خالد أبو محسّب)، ويضيف: “هذه النتائج مخزية، ولاتليق بإسم العائلة”.

ساعد (خالد) ابن عمه في حملته الإنتخابية، لكنه الآن يقول أن الترشّح فشل بسبب نقص المجهود والكسل. يبدو هذا غير عادل، لأنني رأيته قبل شهور حتى من موعد التصويت، وهو يقوم بالعديد من الزيارات المنزلية. لكنني عندما سألت (خالد) عمّا إذا كان يشعر بالأسف على ابنه عمّه، هز رأسه نافياً: “أشعر بالأسف أكثر على نفسي وعلى عائلتي”.

يبدو أنه من الصعب الخسارة بهدوء في البلينا. أحد المرشّحين الممرورين أخبرني أن عائلة المنافس تشارك في أعمال تزوير، مرشح آخر أعلن عن انتقاله للقاهرة هرباً من “مستنقع السياسة”.أخبرني (محمد أبو هليلي)، احد المرشحين البارزين الذين خسروا الإنتخابات، من قبيلة العرب، أن (رأفت) و(محمود) –اللذان ينتميان إلى نفس القبيلة- دفعا أموالاً للمصوّتين. (هليلي) نشر بياناً عاماً على اليوتيوب، يناشد فيه العرب بأن يساندوا مرشحو الهوّارة.

في أحد الأمسيات، ناقش أهالي القرية على أحد المقاهي، أفعال (هليلي). بعضهم يعتقد أن هذه الأفعال سببها انتهاء مستقبله السياسي، لكن (أحمد دياب)، اخصائي نفسي في أحد المدارس الإبتدائية، تنبأ أن النتيجة النهائية ستكون حالة تقليدية من علم النفس العكسي، وبسبب طلب الـ(هليلي) من أهل قبيلته بالتصويت للهوّارة، فإن (هليلي) ضمن بأن الأصوات التي ستذهب للعرب ستكون بأرقام أكبر حتى.

يدّعي (دياب) أن عمله كأخصائي نفسي مع الأطفال، ساعده على فهم السلوك السياسي المحلي.

يقول (دياب) “ربما يتبوّل أحد الأطفال على نفسه، كوسيلة لجذب الإنتباه” ويضيف ” قد يعاني أحدهم من مشكلة، ولا يستطيع التعبير عن نفسه، لهذا يلجأ إلى العنف. بعد سنين من المحادثات في القاهرة، وجدت تحليله مثيراً للإهتمام. تتحدث نخبة العاصمة عادة عن الـ”دولة العميقة”، المصالح المادية والعسكرية التي تتحكم، حسب قولهم، في كل شيء، البعض الآخر يتبنى نظرية المؤامرة، التي تربط بين أميركا، وقطر، وإسرائيل، والإخوان المسلمين.

بدا الأمر أبسط في منطقة معزولة، حيث يمكن للواحد أن يرى كيف تساهم التقاليد الإجتماعية في الفشل السياسي. ويبدو أن القاهرة ليست مختلفة تماماً في جوهرها، حتى هناك، تسيطر المؤسسات الضعيفة، والتراتبية العائلية على حياة الناس. يستجيب المسئولون للأحداث بطريقة شخصية أكثر منها سياسية، والأنماط العامة تشابه تلك الموجودة في البلينا، بكل نظريات المؤامرة، والإتهامات المسعورة بالأفعال المشينة. يخرج الخاسرون عن طورهم، والغضب هو العاطفة الشائعة، كما هو الفخر القَبَلي. كبار السن يتحكمون في الشباب، الرجال يتحكمون في النساء، ولا يمكن لوم جماعة الإخوان المسلمين على هذا فعلاً، أو الحزب الوطني الديموقراطي، أو حتى أي تنظيم سياسي. الدولة العميقة في مصر، هي العائلة.

أثناء فترة الحملة الإنتخابية، لم أشاهد أبداً أي مرشح يتعامل مع امرأة. وخلال عشرات من الزيارات العائلية، لم يسأل أي منهم حتى عن صحة النساء اللواتي يعشن هنا. يعزل الرجال، في القرى الجنوبية، زوجاتهم، وبناتهم، وأخواتهم الفتيات، بعض كبار العائلة أخبروني أنهم منعوا نساءهم من التصويت. وعندما يحدث أن يُسمح لهم، يستلزم هذا مجموعة من الإجراءات الخاصة. أحد مزايا الثروة، أنها تسمح للمرشحين بتأجير وسائل مواصلات لنقل مجموعات من النساء إلى المقار الإنتخابية. عندما حاورت )نورا عابد محمد(، واحدة من قليلات بقريتها التابعة للبلينا اللواتي يعملن في وظيفة حكومية، أخبرتني أن الثورة لم تفعل شيئاً لتغيير العلاقات بين الجنسين. “تحتاج النساء في البيوت إلى من يصل إليهن”. قالت لي شارحة أن الزوجات المنتميات إلى عائلات مختلفة نادراً ما يلتقين ببعضهم، بسبب عدم توافر مكان مشابه للدوّار.

يعتبر الدوّار مساحة مفتوحة مثيرة للإعجاب عند العائلات النافذة، ولم يرد ذكر أي امرأة في هذا المحيط إلا مرة واحدة. في أواخر أكتوبر، الليلة التي سبقت الجولة الثانية من الإنتخابات، زرت دوّار (نور أبو ستيت)، الذي يقع على جانب نهر النيل، وهو أحد المرشحين الأربعة الذين انحصرت بينهم المنافسة. كان شخصاً قصيراً، عنيف المظهر، استقال مؤخراً من عمله في الشرطة، وينتمي إلى الهوّارة. بدأ حديثه معي بإدعاءه أن (عائلة أبو الخير) متورّطون في التزوير. من المألوف سماع اتهامات كهذه، بالرغم من عدم تقديم أية دلائل.

سألني (نور) عن جنسيتي، وبعدها لام الولايات المتحدة على فقر البلينا، قال: “لدينا حضارة 7 آلاف سنة، وأنت تشعرون بالغيظ منا بسبب هذه الحضارة.”

كان يجلس وظهره للنيل، محاط بدرزينتين من الشيوخ. انتشرت موجة من الضحك في المجموعة. أكد لي نور، أن أميركا هي من صنعت داعش، الدولة الإسلامية. ثم قال “أدعو الله أن يرسل عليكم الزلازل والبراكين”.

ضحك الرجال مرة أخرى، ثم أخبرني (نور) بقصة عن دبلوماسية أميركية استخدمت الجنس كسلاح للتلاعب بصدام حسين. صادفت كثيراً في مصر مواقف يسخر فيها شخص ما من الأجانب لإضحاك أصدقائه ومرافقيه، كان هنالك بعض المضايقات وطرق العزل. يبدو أن هذه الخاصية تميّز العديد من اسوأ النواحي الخاصة بالسياسة المصرية- العنجهية، الشعور بالعار، رفض التفاوض، تشنجات عنيفة دورية- وكثيراً ما فكرت في إن كثيراً من الفشل يمكن أن يُعزى إلى السيطرة الذكورية الصارمة في مصر، يمكن لكثير من الوجوه المعروفة في مصر، أن تستفيد من صوت امرأة يقول من آن لآخر: ربما عليك أن تتوقف عن الكلام الآن.

“كانت امرأة ذات ساقين جميلتين”، يقول نور، الذي ما زال يحكي عن المرأة الدبلوماسية، شارحاً “عندما تحدث صدام إليها، خلعت تنورتها، وأعطته الضوء الأخضر”. ضحك الرجال، واستمر (نور) يتحدث عن الأميركان لبعض الوقت. أخيراً، عندما سألته عمّا إذا كان معارضاً لقبول مصر حوالي مليار ونصف الدولار كمساعدات سنوية من أميركا. أخبرني أن المبلغ قليل، ولا يليق بمصر. سألته عن المبلغ المناسب، فقال بفخر: “ليس أقل من 8 مليارات دولار”.

أكثر دوّار مُرحّب كان ذاك الخاص (بيوسف)، الذي بدا أنه المرشح السياسي الطبيعي الوحيد من بين كل من ألتقيتهم. كثير من المسيحيين أعطوه أصواتهم. يمثّل المسيحيون حوالي 10 % من تعداد السكان، لكن أغلب المرشحين يتجاهلونهم عادة، لأنهم خارج النظام القَبَلي. بعد أن انتهت فترة التصويت، انتظرت في دوار (يوسف)، حيث حاول كبار العائلة متابعة النتائج البرلمانية عن طريق تدوين الأرقام بسرعة على قصاصات ورق، كان من المدهش أن بضع أطفال من المتعاملين بالكومبيوتر، كانوا ليقوموا بالمهمة بشكل أفضل. انتظر الشباب خارجاً، حاملين عصياً خشبية كبيرة من تلك المستعملة في الرقصات الشعبية المسماة بالتحطيب، والتي تؤدى في حالة فوز المرشّح. بالنظر إلى طبيعة الإشتباكات الإنتخابية في صعيد مصر، بدا تجمّع عدد من الشباب الصغار حاملي العصيّ، في انتظار النتيجة، فكرة سيئة للغاية.

تواجد كل المرشحين في لجان مقرات الإنتخابات لمتابعة النتائج. عند منتصف الليل، اتصل شخص ما بي، وأنا جالس في دوّار (رأفت)، ليخبرني أن العديد من المؤيدين يحتلفون بالطلقات النارية والصراخ: الله أكبر! الله أكبر! ركض الجميع إلى الخارج، وانضم لوقفتي عند الباب، مزارع قطن في الستين، يرتدي جلابية، أخرج الرجل مسدس عيار 9 مللي حلوان، وأطلق أربع دفعات من الطلقات في السماء. بدأ الرجال في التلويح بعصيّهم، واطلاق الأعيرة النارية من المسدسات والبنادق، بعد مرور عدة دقائق، ظهرت مجموعة جديدة من الأشخاص الذين يهتفون بإسم (نور أبو ستيت). وتكرر الأمر مع مؤيدي (محمود) ، ادعى أنصار كل مرشّح من الأربعة، في مختلف أنحاء البلينا، فوزه في الإنتخابات.

أعلنت قناة الحياة القاهرية، أن (يوسف) و(نور) هما الفائزان، وازدادت حدة الإحتفالات، لكن سريعاً ما انتشرت إشاعات بأن الإعلان خاطيء، وفي الثانية صباحاً، ظهرت النتيجة الرسمية: ابني العم من عائلة (أبو الخير)، هما الفائزان بالمقعدين.

في دوار (يوسف).. خرج أحد من كبار رجال العائلة إلى الشارع، غاضباً من الاحتفالات المبكرة، وصارخاً بسخرية: “هل عرفتم النتائج الحقيقية؟”. أكثر من مئتي رجل كانوا واقفين هناك، ممسكين ببنادقهم ومسدساتهم.

كان (محمود) هو متصدّر السباق الإنتخابي. فصل بين الثلاث المرشحين الآخرين أقل من 500 صوت. زرت بيت (محمود) لاحقاً في هذا المساء، صدحت الزغاريد من الطابق العلوي، حيث تحتفل نساء غير مرئيات.

في كل المقابلات التي أجريتها مع (محمود)، كان محاطاً على الدوام بحراس شخصيين، وعادة ما كنت أفكر متعجباً في الدروس التي سيتعلمها جيله من أحداث الخمس سنوات الأخيرة. يدّعي النشطاء أن الشباب المصريين يدركون قوتهم الآن، بعد أن شهدوا بأنفسهم سقوط رئيسين مصريين بعد مظاهرات شعبية. لكن يبدو من المرجّح كذلك، أن هذا الجيل سيدرك سريعاً أن هذه الأنشطة السياسية، لا تغير شيئاً ذا أهمية في الواقع. في دوّار (محمود)، سألت سلفياً سابقاً عمّا إذا كان من الواجب اتاحة مساحة أكبر للإسلام السياسي، لكنه راوغ في الإجابة على السؤال، قائلاً: “لدينا أمور جديدة الآن”. وعندما ذكرت الإخوان المسلمين، كان رد فعله مشابهاً “لا أريد التحدث عن الأمور القديمة”. أخبرني أنه معجب بالرئيس الحالي، (عبد الفتاح السيسي)، الذي قاد الحملة ضد الإسلاميين، وقال: “إنه شخص محترم”.

كان الفائز الأكبر في جميع أنحاء البلاد، هو ائتلاف (في حب مصر)، والذي اكتسح كل مقاعد القوائم ال120. يقود هذا الإئتلاف، جينرال جيش سابق يُدعى (سامح سيف اليزل)، والذي يأمل في تكوين أغلبية البرلمان ذي الـ568 عضواً. لكن ضعف الأحزاب، يخلق درجة من الفوضى. رفض البرلمان في يناير، قانوناً للخدمة المدنية، مدعوماً من (السيسي)، أراد به أن يقلل حالة البيروقراطية. يبدو أن هذا ليس برلمان الأختام، إلا أنه من المستبعد كذلك أن ينظم أعضاؤه أنفسهم في أي شكل من المعارضة المنظمة. عندما سألت (اليزل)، في نوفمبر، عمّا إذا كان هنالك أي اختلافات مهمة في وجهات النظر بينه وبين (السيسي)، أجاب: ” لم أره يرتكب خطأ واحداً، منذ 17 شهراً ، وحتى الآن، “.

وقف الجميع في حالة صدمة أمام دوار (يوسف)، لعدة دقائق، بعد إعلان النتيجة، ثم ظهر هو بنفسه، قال لهم (يوسف): “عليكم العودة إلى بيوتكم، سيكون هذا أفضل من حدوث مشاكل”.

اقترب من (يوسف) رجل في منتصف العمر، بدا عليه الذهول. ضحك (يوسف) وقبّله على كلا الخدّين قائلاً: “يا إلهي، ما الذي حدث لك؟”، وأكمل: “اذهبوا إلى النوم، غداً نبدأ حياة جديدة”.

تحدث (يوسف) لمدة عشر دقائق، حتى بدا التوتر جلياً، جلس في مقعد في خلفية الدوار، وبمجرد بقاءه وحيداً، تحوّل وجهه، وبدا عليه حزن واضح. جلست قريباً بصحبة مترجمي، ولم يقل أحد أي شيء. غادر جميع الكبار، وكانت الغرفة هادئة، كان هذا أهدأ دوار رأيته على الإطلاق.

بعد قليل قلت شيئاً عن الحظ الأوفر في المرة القادمة.

“ليس هنالك مرات قادمة”، قال (يوسف)، “انتهى الأمر بالنسبة لي سياسياً”.

قال يوسف أنه يريد التركيز على الزراعة لبعض الوقت. وقال عن الإنتخابات: “لم يكن الأمر متعلقاً بالخدمات أو العلاقات، لو كان كذلك، لكنت قد فزت”. يعتقد (يوسف) أن عائلة أبو الخير تمتلك امكانيات مادية ساحقة.

بينما كنا نتحدث، اقترب ولد صغير وجلس بالقرب، كانت عيناه مغرورقتان بالدموع، توقف (يوسف) عن الحديث لتهدئته، وقاده إلى الخارج. سألته إن كان هذا أحد ابناءه.

“لا” قال يوسف ضاحكاً من آخر فعل سياسي له. ثم أكمل: “لم أر هذا الطفل من قبل في حياتي”.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى