ثقافة و فن

الخواجة مصري (3)..جنرال وليام لورينغ: يوميات الحرب المصرية الأثيوبية

أجانب أثروا في حياة المصريين

لورينغ في الزي العسكري المصري

سلسلة يكتبها أحمد الفران*

٥ ديسمبر ١٨٧٥ ، القوات المصرية تتجمع بميناء السويس تحت قيادة محمد راتب باشا والجنرال الأمريكي وليام لورينغ استعداداً للثأر من هزيمة الجيش في معركة جونت ومقتل قائد الحملة المصرية على الحبشة السويسري منزينجر باشا وزوجته ، وكذلك القائد الثاني للحملة الدنماركي الكولونيل سورن آرندروب، وتزعزع هيبة الدول المصرية في أعالي النيل، واقتنع الخديوي إسماعيل بقوة الحبش، فقرر أن يجمع جيشاً أقوى مكون من ٢٠٠٠٠ جندي بتسليح جيد.

كان الخديوي يعلم أن أي هزيمة أخرى للقوات المصرية بالحبشة ستقضي على أحلامه في السيطرة على منابع النيل، وربما دفعه ذلك إلى تجهيز القوات المشاركة بكل ما تحتاجه حتى أنه ألحق أبنه الأمير حسن باشا ضمن الجيش المشارك بالحملة.

في يناير ١٨٧٦ وصلت القوات المصرية إلى مصوع وبدأت في التمركز وإنشاء حصنين تمهيداً للمعركة الفاصلة. على الجانب الأثيوبي، بدأ إمبراطور الحبش يوحنا الرابع في جمع قواته وتحفيزهم بأن تلك المعركة هي المواجهة الفاصلة بين المسيحية والإسلام.

سريعاً بدأت القوات المصرية المناوشات وأرسلت قوة عسكرية مكونه من ٥٠٠٠ جندي للهجوم على القوات الإثيوبية إلا أنها اندحرت وقتل قائدها، وحاولت فلولها العودة إلى مناطق التمركز مرة أخرى إلا أن الحبش استطاعوا أسر ٦٠٠ جندي وقتلهم بدم بارد.

لم تكن الأجواء داخل المعسكر المصري على ما يرام فالخلاف مستمر بين الجنرال لورينغ وراتب باشا حول البقاء في المعسكر أو التقدم لمهاجمة الأحباش، واستمر الحبش في مهاجمة القوات المصرية مع تنويع اشكال الهجوم، ثم تظاهروا بالتقهقر في زعر، فضل راتب باشا البقاء في حصن جورا، فسخر منه لورينغ متهمًا إياه بالجبن، مما دفع الأول إلى منازلة العدو في الوادي المفتوح وأمر القوات المصرية بالهجوم، فخرج ٥٢٠٠ جندي من الحصن، لتقع الكارثة، حصدت المدفعية البريطانية –التي تساند الأحباش- المتمركزة فوق الجبال، ولم يبقى من القوات إلا ١٩٠٠ جندي حي.

استمر ١٠٠ ألف جندي من الأحباش في الزحف نحو السهل المتحصن به القوات المصرية، مدعومين بقصف المدفعية البريطانية من فوق الجبل، وتمكنوا من أسر ٦٠٠٠ جندي مصري وقتلهم ، ثم طاردوا باقي القوات وأعملوا فيها القتل والجرح والأسر، فلم يعد منهم سوى ٥٠٠ جندي .

إلا أن أولئك الخمسمائة مصري عاودوا الكرة محاولين الهجوم على موقع الحبش، وبالفعل استطاعوا تكبيدهم خسائر فادحة،  مما مكن القوات المصرية من طالب الهدنه والتي فرضت عليهم ترك الهضاب الأثيوبية والعودة إلى الساحل مرة أخرى.

بهذه الكارثة العسكرية في معركة جورا يكون قد أسدل الستار على الحملة العسكرية المصرية للحبشة، ألقى المصريون اللوم بشأنها على الأمريكيين، فبينما عادت فلول الجيش المصري إلى الوطن، صدرت الأوامر للضباط الأمريكيين بالبقاء في مصوع حتى إشعار آخر، حيث قاسوا حر الصيف، ثم قضوا العامين التاليين في القاهرة معرضين للإذلال، حتى سُرحوا سنة ١٨٧٨ بسبب أزمة الدين المصري.

تسببت هزيمة الجيش المصري في معركة جورا في فصل الجنرال لورينغ بعد خدمة استمرت تسع سنوات كاملة في جيش الخديوي، مع خمسين من قدامى المحاربين الأمريكيين الذين تم الحقهم للعمل بالجيش المصري، على الرغم من أن لورينغ قد فقد زراعه الأيمن في الحرب المكسيكية.

الدولة المصرية في عصر اسماعيل

بدأ لورينغ العمل بمصر كمفتش عام للجيش، ثم أُسندت إليه مسئولية الدفاعات الساحلية عن البلاد، حيث أشرف على إقامة عدد من التحصينات، وفي عام ١٨٧٥ أُسندت إليه مسئولية الغزو المصري للحبشة، بالمشاركة مع راتب باشا والتي انتهت بالهزيمة الكارثية، ولم يعد بإمكان الخديوي تحمل الضباط الأمريكيين، ولم تقلح محاولات زيارة الرئيس الأمريكي غرانت للخديوي في الإبقاء عليهم بالجيش المصري ليعود إلى فلوريدا عام ١٨٨٠.

عاد لورينغ ليحكي مغامراته بالشرق إلى جموع الأمريكيين في كافة المحافل، وقضى سنواته الأخيرة في كتابة أكبر توثيق للحملة العسكرية المصرية على الحبشة في كتابه “جندي كونفدرالي في مصر- A Confederate Soldier in Egypt ” وصدر عام ١٨٨٤ في ٤٥٠ صفحة.

وسط السهول الواسعة

ولد ويليام وينغ لورينغ بمدينة ويلمنجتون بولاية كارولينا الشمالية في ٤ ديسمبر ١٨١٨، والده هو روبن لورينغ أحد أغنياء الولاية، والدته هانا كينان لورينغ، انتقل مع أسرته في عام ١٨٢٣ للعيش بولاية فلوريدا، ولا نستطيع أن نعرف الكثير عن حياة ويليام المبكرة، غير أنه ولد في أسرة غنية امتلكت قصر كبير ملحق به مزارع البرتقال الواسعة.

الجندي الصبي

أظهر لورينغ اهتماماً بالغاُ بالحياة العسكرية منذ سن الرابعة عشر، وتطوع للتجنيد ضمن مليشيات فلوريدا لقتال الهنود السيمينول –السكان الأصليون لفلوريدا- أظهر خلالها مهارة فائقة في القتال حتى لقب بـ”الجندي الصبي the boy soldier”.

في سن السابعة عشر هرب من والده للقتال ضد المكسيكيين في حرب استقلال ولاية تكساس عام ١٨٣٦، وهنا حاول والده إنقاد مستقبل الصبي المغامر فسافر إلى تكساس ليبحث عنه، وبالفعل عثر عليه سريعاً، وعاد الاثنين إلى فلوريدا، ولم تتوقف مغامرات الصبي الصغير، إذ عاد لقتال الهنود السيمينول مرة أخرى والتي انتهت بانتصار مليشيات فلوريدا عام ١٨٣٧ وترقيته إلى رتبة ملازم ثاني، وأدي هدوء حرب السيمينول إلى انضمامه إلى مدرسة الإسكندرية الداخلية بولاية ڤرجينيا حتى أنهى تعليمه الثانوي، وفي ١٨٣٨ التحق بجامعة جورج تاون حتى ١٨٤٠ لدراسة القانون، وانضم إلى نقابة محاميي فلوريدا ١٨٤٢.

دخل لورينغ إلى معترك الحياة السياسية فانتخب عضوا بمجلس نواب فلوريدا بين عامي ١٨٤٣ و١٨٤٥، إلا أنه خسر انتخابات مجلس الشيوخ، وحينها قرر العودة مرة أخرى إلى الحياة العسكرية إذ كان يؤمن أن تلك الهزيمة سوف تحرره إلى ما هو أفضل.

القائد المبتور

في مايو ١٨٤٦ أنضم لورينغ إلى الجيش الأمريكي ضمن الفوج الذي تم تشكيله للمشاركة في الحرب ألأمريكية المكسيكية وتم ترقيه إلى رتبة كابتن، شارك في معظم معارك الحرب وأُصيب ثلاث مرات، أثناء قيادته لأحد الأفواج بالمكسيك من بينها رصاصة مكسيكية أصابت زراعه، وتم بتره لاحقاً، حاز على ترقيتين استثنائيتين لشجاعته، إحداها مقدم، والأخرى عقيد في الثامنة والثلاثين في ديسمبر ١٨٥٦، لصبح أصغر عقيد في الجيش الأمريكي.

إلى الشرق

قام لورينغ بزيارة أوروبا في مايو ١٨٥٩،  وهناك بدأ في دراسة التكتيكات العسكرية التي ابتكرت في حرب القرم –بين الإمبراطورية العثمانية وروسيا-وقبل أن يعود إلى وطنه، زار كل من بريطانيا، فرنسا، السويد، پروسيا، سويسرا، النمسا-المجر، إيطاليا، روسيا، تركيا، ومصر.

عندما قامت الحرب الأهلية الأمريكية استقال لورينغ من الجيش الأمريكي في مايو ١٨٦١، وانضم إلى جيش الجنوب ” الكونفدرالية” وتم ترقيته إلى رتبة جنرال، تلك الحرب التي انتهت بهزيمة القوات الكونفدرالية، تلك الهزيمة التي دفعت به إلى مصر مع خمسين ضابط أخر من الضباط الأمريكيين الذين رشحهم الجنرال وليام شرمان والجنرال “ثاديوس موت” – أول أمريكي ينضم إلى الجيش المصري- للخديوي إسماعيل الذي كان يهدف إلى تطوير الجيش لخدمة أغراضه التوسعية.

استمر لورينغ في خدمة الخديوي لمدة تسع سنوات بين عامي ١٨٦٩ – ١٨٧٨، انتهت بالاستغناء عنه على أثر هزيمة الجيش المصري بالحبشة، مع منحه الباشوية تقديراً لمجمل جهوده بالجيش المصري، ليعود إلى فلوريدا عام ١٨٨٠ ليقضي سنوات عمره الباقية في الكتابة، مع محاولة فاشلة للعودة للعمل السياسي بدخول مجلس الشيوخ الأمريكي لم يتجاوز خلالها عقبة الانتخاب.

موت أكثر صخباً

كان لورينغ لا يهدأ أبداً في حياته، كما لم يهدأ في مماته، فبعد نوبة قصيرة مع الالتهاب الرئوي توفي بفندق سانت دينيس بنيويورك في ٣٠ ديسمبر ١٨٨٦، وقد أوصى بحرقة جسمانه وتم دفنه بأحد كنائس نيويورك في ٢ يناير ١٨٨٧، ثم أعيد دفنه مرة أخرى بمقبرة وودلاند بسانت أوغسطين في ١٨ مارس من نفس العام في جنازة عسكرية مهيبة، ثم نقل رماده إلى مثواه الأخير إلى نصب تذكاري أقيم له بوسط مدينة سانت أوغسطين في عام ١٩٢٠.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أحمد الفران (باحث في السياسات الثقافية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى