سياسة

نيويورك تايمز: كيف قتلت السعودية نفسها؟

المملكة وجهت سلاحها الأعظم تجاه نفسها

نيويورك تايمز – أندرو سكوت كوبر – ترجمة: محمد الصباغ

على مدار نصف قرن، كان الاقتصاد العالمي أسيراً لدولة واحدة هي المملكة العربية السعودية. فالموارد البترولية الشاسعة والانتاج الذي لا يستخدم، سمح للمملكة بلعب دور كبير كمورد بديل، تمد وتستنزف النظام العالمي وفق رغبتها.

وكانت المقاطعة خلال عامي 1973 و 1974 أول إشارة إلى أن آل سعود سيستخدمون أسواق النفط كسلاح. في أكتوبر عام 1973، بشكل مفاجئ قرر تحالف عربي تقوده السعودية حظر تصدير النفط انتقاماً من الدعم الأمريكي لإسرائيل خلال حرب يوم الغفران (أكتوبر 73). تضاعف سعر برميل النفط سريعاً ليصل إلى أربعة أضعاف سعره السابق، وتسبب ذلك في صدمة الدول الغربية التي يعتمد اقتصادها على النفط، وأدى الأمر إلى ارتفاع حاد في تكاليف المعيشة، وزيادة معدل البطالة وتزايد حالة السخط في المجتمع.

وقال وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، هنري كيسنجر، لنائبه بيرنت سكوكروفت: ”لو كنت رئيساً، لأجبرت العرب على  أن يعيدوا ضخ بترولهم.“ لكن الرئيس نيكسون لم يكن في موقف يجعله يملي أوامره على السعوديين.

في الغرب، نسينا بشدة درس 1974، ويعود ذلك بشكل ما إلى تغيّر اقتصادنا وكونه أصبح أقل اعتمادية على مورد ما، لكن السبب الأساسي هو أننا لسنا الهدف الرئيسي للسعوديين. التوقعات بأن الانتاج العالمي للنفط سيصل بنهاية المطاف إلى ذروته، وضمان أن الأسعار ستبقى مرتفعة بشكل دائم، لم تتحقق أبداً. أسعار النفط اليوم يتم تحديدها من جانب السياسات الإقليمية بشكل أكبر من علاقتها بتحرك أسعار النفط الخام. حروب النفط في القرن الواحد والعشرين جارية حالياً.

في السنوات الأخيرة، أعلنها السعوديون واضحة أنهم يعتبرون أسواق النفط جبهة أولى حاسمة في معركة المملكة ذات الأغلبية السنية ضد منافستهم ذات الهيمنة الشيعية، إيران. أسلوبهم المفضل ب”الإغراق“، وضخ فائض النفط الخام في السوق المنخفضة الأسعار، يعد بمثابة حرب بوسائل اقتصادية: فتجارة النفط تكافئ إسقاط قنبلة على الخصم.

في عام 2006، حذّر المستشار الأمني السعودي،نواف عبيد، من أن الرياض تعمل للإجبار على تخفيض الأسعار من أجل ”عرقلة“ الاقتصاد الإيراني. وبعد عامين، فعل السعوديون ذلك، بهدف إعاقة قدرة طهران على دعم المليشيات الشيعية في العراق ولبنان والأماكن الأخرى.

ثم في عام 2011، ذكر الأمير السعودي تركي الفيصل، رئيس المخابرات السعودية السابق، لمسؤولين بالناتو، أن الرياض تستعد لإغراق السوق من أجل إثارة الاضطرابات داخل إيران. وبعد ثلاث سنوات، ضرب السعوديون من جديد، وتحولوا إلى مضخة للنفط.

لكن هذه المرة، بالغوا في ذلك.

عندما قاموا بذلك في خريف 2014، ليستفيدوا من سوق متخم بالفعل، بلا شك أملوا في أن الأسعار المنخفضة قد تقوّض صناعة الصخر الزيتي الأمريكية، والتي كانت تتحدى هيمنة المملكة على الأسواق. لكن هدفهم الرئيسي كان جعل حياة إيران أصعب”: ”ستواجه إيران ضغوطاً اقتصادية ومادية غير مسبوقة مع محاولتهم لإحياء اقتصادهم الذي يعاني بالفعل من العقوبات الدولية.“ هكذا قال ”عبيد“.

الدول المنتجة للنفط، وخصوصاً مثل روسيا، التي لا تعتمد على تنوع اقتصادي، تعتمد على أن أسعار النفط لن تنخفض تحت مستوى معين. ولو انخفضت لأقل من هذا المستوى، يلوح الانهيار المالي في الأفق. توقع السعوديون انخفاضا حادا في أسعار النفط، ليس فقط للإضرار بصناعة التكسير الأمريكية، لكن أيضاً لضرب الاقتصاد الإيراني والروسي بقوة. وبدوره ذلك سيضعف قدرتهم على دعم حلفائهم ووكلائهم، وخصوصاً في سوريا والعراق.

كان هذا الأسلوب مؤثار بدرجة كبيرة في الماضي. كان السيناريو الأسود الذي واجه شاه إيران عام 1977، عندما أغرقت السعودية أسواق النفط من أجل احتواء النفوذ الإيراني. ولم يكن الإغراق السعودي عام 1977 هو السبب الوحيد للثورة الإيرانية، لكنه بالفعل كان أحد العوامل: حكم الشاه كان غير مستقر مع هجمات آية الله الخميني من أجل استبدال الملكية الموالية للغرب بدولة دينية. في هذا المشهد، غذت أسواق النفط صعود الإسلام السياسي.

كما ساعدت أسعار النفط في إنهاء الحرب الباردة. آنذاك، ما يطلق عليه روسيا اليوم، كانت القوة العظمى الشيوعية منتجاً عالمياً للطاقة، ويعتمد بشدة على عائدات النفط والغاز. وفي الفترة بين 1985 و 1986، كان القرار السعودي بإغراق الأسواق –والذي يعتقد أنه كان بتشجيع من إدارة الرئيس ريجان- أدى إلى انهيار الأسعار وبدوره إلى انهيار الاقتصاد السوفيتي.

وكتب الاقتصادي الروسي، ييجر جايدار: ” الخط الزمني لانهيار الاتحاد السوفيتي يمكن إرجاعه إلى 13 سبتمبر 1985،“ وأضاف: ”في هذا التاريخ، أعلن الشيخ أحمد زكي اليماني، وزير النفط السعودي، أن المملكة قررت تغيير سياستها النفطية بشكل جذري.“

اليوم، في روسيا، نصف عائدات الحكومة بالكامل تأتي من عائدات النفط والغاز. حتى لو عادت مرة أخرى أسعار النفط إلى 40 دولار للبرميل – هبط مرتين إلى 30 دولار للبرميل خلال هذا العام- فما زال هذا السعر المنخفض يخلق ”سيناريو خطير“، وفقاً لميخائيل ديميتروف، نائب وزير الاقتصاد الروسي السابق. وصل معدل التضخم في روسيا إلى الضعف خلال العام الماضي، صندوق الثروة السيادي- من ينقذ الشركات الروسية المكافحة- يُستنزف، وإغلاق المصانع يغذي الاضرابات العمالية.

الأمر ليس سعيداً للرئيس فلاديمير بوتين، فتتزامن أزمة روسيا المالية مع التدخلات العسكرية في أوكرانيا بشرق أوروبا وفي سوريا. ولو ساء وضع الاقتصاد الروسي بدرجة أكبر وشعر بوتين بالقلق، ربما يبحث عن طرق لتشتيت انتباه الشعب الروسي باستفزازات تتعلق بالدولة، بالإضافة إلى إثارة الذعر في أسواق النفط حول الإمدادات والتهديدات حول دعم الأسعار.

أما المستقبل الصادم فقد وصل بالفعل إلى دول من منتجي النفط مثل فنزويلا، التي عانى اقتصادها بفعل خسائر عائدات النفط، التي تمثل 95% من عوائد صادراتها. ومع توقع صندوق النقد الدولي أن يصل معدل التضخم إلى 720% هذا العام، أصبحت فنزويلا دولة ”زومبي“ اقتصادياً – تذكير قاسي بما حدث لدول تعتمد بشدة على سعر غير ثابت لسلعة أساسية. الرئيس نيكولاس مادورو تحت رحمة أسعار الأسواق التي –يومياً- تدفع نظامه المترنح خطوة أخرى نحو الهاوية.

أما نيجيريا الدولة المنتجة للنفط أيضاً، فأموالها تنفد، ويعيق ذلك حملة الرئيس محمد بخاري ضد متمردي بوكو حرام في الشمال. وهز الانخفاض الهائل في أسعار النفط وسط آسيا أيضاً، حيث طالبت دول أذربيجان وكازاخستان بقروض عاجلة من صندوق النقد الدولي والمقرضين الآخرين.

في الشرق الأوسط، حدّت عائدات النفط المنخفضة من قدرة العراق على شن حرب ضد الدولة الإسلامية. وتقدر خسائر منتجي النفط من عائدات التصدير بالخليج الفارسي، كقطر والإمارات العربية المتحدة، بحوالي 360 مليار دولار خلال العام الماضي. ومثل هذه الخسائر المهولة في الميزانيات تمثل مشكلة في استقرار النظام الداخلي مع وجود حروب دائرة في اليمن وسوريا، و مع دعمم لدول تعاني نقصاً مادياً كبيراً كمصر.

وهناك السعودية نفسها.

تشير كل الدلائل إلى أن المسؤولين السعوديين لم يتوقعوا أبداً أن تنخفض الأسعار إلى أقل من 60 دولار للبرميل. ولم يتوقعوا أبداً خسارة موقعهم كمورد بديل في مؤسسة أوبك. جهود المملكة في الشهر الماضي كانت لعقد اتفاق مع روسيا، وفنزويلا وقطر سعياً لتقليل الضخ ورفع الأسعار من الانهيار.

وحذّر صندوق النقد الدولي من أنه لو لم يتم تقليل معدل الإنفاق الحكومي، سيفلس السعوديون بحلول عام 2020. فجأة، بنك الاحتياطي العالمي من الذهب الأسود يبحث عن قروض بمليارات الدولارات من المقرضين الأجانب. وكان رد الملك سلمان هو وعد بالتقشف، وارتفاع الضرائب وتقليل الدعم عن شعب ترعرع معتاداً على سخاء وصدقات الدولة. ويثير ذلك عديد الأسئلة حول تماسك الدولة داخلياً- حتى مع قرار الملك تحمل عبء الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط، وشن حروب على جبهتين. هل  وجدت أبدا دولة نفطية مدينة بشكل كبير داخلياً وتنفق ببذخ كبير خارجياً؟

ومع الانتهاء من الاتفاق النووي التاريخي، تخلصت إيران من أعباء العقوبات الاقتصادية. وليس بخفي على الرياض أن ذلك سيضيف منتجا آخر للنفط في السوق العالمية، الذي لا يمكن التحكم بها بعد الآن.

تبدو معاناة الدول النفطية الصغيرة مثل نيجيريا وأذربيجان، في طريقها للاستمرار مع البؤس الاقتصادي والاضطرابات. لكن هذه أضرار جانبية. القصة الحقيقية هي كيف قام السعوديون بإلحاق الضرر بأنفسهم  وبالسلاح  الذي يملكونه .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى