ثقافة و فنمجتمع

نيويورك تايمز: إسكندرية أمي التي كانت

نيويورك تايمز: إسكندرية أمي التي كانت

زواج أجداد والدتي في الأربعينيات بالإسكندرية
زواج أجدادي من جهة الأم في  أربعينيات القرن الماضي  بالإسكندرية

نيويورك تايمز – *DIAA HADID

ترجمة: محمد الصباغ

 كانت أمي تتحدث  الفرنسية مع جيرانها اليونانيين في الإسكندرية، حين كانت المدينة الأكثر  كوزموبوليتانية “عالمية” في مصر. كانت أمي  تتغيب عن المدرسة الكاثوليكية لتخرج في جولة بسيارة مكشوفة في الشوارع مع صديقتها الألمانية، ولطالما تزلجت على المياه بملابس السباحة، مستمتعة بحرية هذه المدينة في ستينيات القرن العشرين، حين كانت لا تزال منارة لثقافة البحر المتوسط.

هذا الخريف، عدتُ  إلى الإسكندرية وقد صارت مدينة مختلفة تمامًا، منعزلة بقدر ما كانت والدتي منفتحة، صارت مليئة باليأس على نفس القدر من الأمل والتطلع الذي كان يملأ والدتي.

يفصل طريق سريع ساحلي مزدحم المدينة عن شاطئ بحرها، حيث تحترق عيناي بفعل العوادم. يتحرش الشباب الصغار بالنساء أثناء مرورهن في الطرقات. تتراكم القمامة في الشوارع المتهالكة التي كانت في السابق تُنظف بفخر. المباني ذات  الطراز الكلاسيكي الحديث، التي كانت عظيمة، صارت متداعية، والمباني الصغيرة المكسوة بالغبار حلت محل الفيلات  ذات الأبواب الفرنسية والأقواس العربية.

مع دخول البلاد في دوامة الاقتصاد المتأزم، تراجعت الإسكندرية أكثر،  المدينة التي كانت في يوم من الأيام بوابة مصر إلى أوروبا، أهملت منذ عقود،  الجنرالات القوميون الذين حكموا مصر بعد الملك فاروق عام 1952 نظروا للمدينة بارتياب، اعتبروا الإسكندرية شديدة الولاء للملكية، وأوروبية بدرجة كبيرة. فقط خلال السنوات التي شهدت تراجع حكم الرئيس حسني مبارك، بدأت المدينة في البزوغ، وتم بناء المكتبة. ومُهد ممشى بجوار البحر.

لكنها لم تكن تغييرات كافية،  تعمق سكان الإسكندرية في الإيمان. في مدينة اشتهرت بنمطها الأوروبي الليبرالي، أصبح للإخوان المسلمين قوة كبيرة،  وأسست الحركة السلفية المتشددة قاعدتها. وفي ليلة رأس السنة عام 2011، كانت المدينة مسرحًا لبعض من أسوأ أحداث العنف الطائفي في مصر بين المسلمين والمسيحيين في العصر الحديث. ونُثرت بذور الثورة المصرية هنا، في يونيو 2010، حينما اعتدت الشرطة على الشاب صاحب 28 عامًا آنذاك، خالد سعيد، حتى الموت.

لكن الإسكندرية المهترئة، مثل بقية أنحاء مصر، لم تتحسن بعد الثورة،   تعاني البلاد  من أحدث الرؤساء القمعيين والاقتصاد المحمل بالأعباء، فقدت العملة أكثر من نصف قيمتها، ولم تبدالإسكندرية بهذه الكآبة من قبل.

يقول محمود غمراوي، 68 عامًا ومتقاعد، إنه يفتقد “الإسكندرية القديمة”. قال العبارة وهو جالس على الشاطئ يتابع البحر بجوار حفيدته الصغيرة التي لم تتجاوز العامين. وأضاف: “يشعر الناس بأنهم غرباء على المدينة.”

عائلتي من الإسكندرية، مسلمة من أصول مغربية. جدي الأكبر عبد الرازق مصطفى كان مسئولا كبيرا بالجمارك في المدينة التي بنيت على شاطئ تجاري. تقول العائلة أنه امتلك 3 سيارات بسائقيهم في وقت لم يضع فيه أغلب سكان المدينة قدمًا في سيارة. درس في فرنسا وامتلك أرضًا في الحي التجاري القديم، بيت للصيد وفيلا تطل على البحر.

وتظهر هذه الصورة عائلتي السكندرية في عام 1984 بسطح الفيلا المطلة على البحر بشاطئ العجمي، المنطقة التي كانت في السابق راقية على أطراف المدينة. خالتي لولا في أعلى اليسار. ويدها على كتفي كما يظهر أسفلها. وبجوارها جدتي فايزة.

صورة لعائلتي عام 1984
صورة لعائلتي عام 1984

غازل الأدب الغربي جمال الإسكندرية، والذي بدأ في القرن التاسع عشر، عندما أعطى مزيج من الأوروبيين وخصوصا الإيطاليين واليونانيين للمدينة طابعا عالميًا.

الروائي والشاعر البريطاني، لورانس داريل، الذي كتب “رباعية الإسكندرية”، صوّر كيف بدأت الحرب العالمية الثانية في وضع نهاية لهذا العصر. في ذلك الوقت، كان زمن الأجانب في الإسكندرية ينتهي. كان القوميين المصريين في تزايد، وكان هناك شكوك حول ولاء اليهود للدولة العدو، إسرائيل. ونُظر للأوروبيين على أنهم جزء من التواجد الأجنبي الذي أبقى على تراجع المصريين، وغادر الكثير من أهل الإسكندرية ذوي الأصول الأوروبية واليهود بنهاية حقبة الستينيات.

تلاشت ثرواتنا مع المدينة. غادرت والدتي وكل شقيقاتها، عدا لولا، إلى القاهرة أو الخارج. ولدت في الإسكندرية لأن والدتي أرادت أن تلد طفلتها في بلادها، وبعد سنوات هاجرت إلى أستراليا. بعد أسابيع من ولادتي، غادرنا. عدنا في زيارات لمرتين تقريبًا خلال فترة طفولتي، ومع بداية عام 1998، زرت المدينة تقريبًا كل عام.

بعدما كنت أشعر بالترحاب الدائم في المدينة، بدأت أشعر بأنني غريبة في هذه الرحلة. في إحدى المرات صرخ سائق حافلة في وجهي وزملائي عندما سمعنا نتحدث بالعربية لكن لا ننطقها باللكنة المحلية. قال: “لستم من هنا. عودوا إلى القاهرة.”

خلال الزيارة، شاهدت الأحباء يسيرون سويًا على الكورنيش الموازي للبحر.

جلس بسام عبده، صياد عمره 38 عامًا، يجلس بجوار ابنه، 4 أعوام. وقال مشيرًا إلى أكياس تتهادي في مياه البحر، إن القمامة ومياه المجاري والصيد الجائر يقضون على رزقه ببطئ.

وبعيدًا، رأيت حمارًا ميتًا يطفو على مياه شاطئ ستانلي الخاص.

شاطئ ستانلي
شاطئ ستانلي

منذ جيلين مضوا، والدتي وشقيقاتها كانوا يتزلجون على الماء هنا ويستمتعون بحمام الشمس.

باع أقاربي آخر فيلا يمتلكونها بالقرب من البحر في التسعينيات، كان في منطقة العجمي، التي كانت ذات مرة مكانًا يقضي فيه الأغنياء الصيف. الآن هي مترامية الأطراف بأزقة ضيقة تفوح منها رائحة الصرف الصحي الكريهة.

خالتي لولا في عمر العشر سنوات، عام 1958، على شاطئ ستانلي
خالتي لولا في عمر العشر سنوات، عام 1958، على شاطئ ستانلي

صار أغلب سكان المدينة، من بينهم خالتي لولا وامتداد عائلتي، من المسلمين المتحفظين.

التباكي على الإسكندرية الضائعة هواية السكان المفضلة، وخالتي لولا، 67 عاما حاليًا، حزينة مثل الآخرين. شقتها مزينة بورق حائط مطلي بالذهب ومطرزات باهتة من نزهاتها مع السيدات الأوروبيات، وعندما تخطو إلى الخارج تتنهد وتقول إنها لم تعد تتعرف على ملامح المدينة. (طلبت خالتي أن اكتب فقط هذا الاسم لتحمي خصوصية أبنائها الصغار.)

إلى الآن، لازالت المدينة تحتفظ بملذاتها مثل احتساء الشاي بمقهى بأسقف مرتفعة يجاور البحر، أو التجول حول قلعة العصور الوسطى. في أمسية قريبة، نساء بالنقاب امتطين خيول وسرن ببطء في الشارع، رافعات مجموعة من البالونات، وهن في وضع استعداد لالتقاط صورة.

وتظل المأكولات البحرية في الإسكندرية منبع سعادة، مزيج من الثقافات كان هنا. وفي مقهى مجاور لا يحمل اسما، تشوي سيدة سمكة على طبلة من الحديد حولتها إلى شواية. يأكل ثنائي ثري وجبة خفيفة من الجندوفلي والرخويات في نادي اليخت اليوناني، حيث يتنافس الأثرياء على طاولة تقترب أكثر من المرفأ المبهر.

هناك، الإسكندرية القديمة باقية. أثناء تناول الغداء، لاحظت طاولة عليها متحدثتين بالفرنسية وأعمارهن بين 70 أو 80 عاما وسألتهن من أين أنتم. فقالت سيدة: “أنت جاهلة جدًا. نحن من الإسكندرية.”

ثم وقفت الأخرى في تعاطف، وعرّفت نفسها. وقالت إنها من أصل سوري يوناني، وهي “إسكندرانية” من الجيل الرابع لهم.

وأضافت: “أنا عضوة في سبورتنج منذ 52 عامًا،” مشيرة إلى النادي الرياضي حيث كان يلتقي الأثرياء القدامي- من بينهم عائلتي- لتناول الشاي ويرسلون أطفالهم لتعلم الفروسية. واختتمت حديثها قائلة: “نحب الإسكندرية. أكثر من أي شئ آخر في العالم.”

………..

*ضياء حديد، مراسلة للنيويورك تايمز، أسترالية من أصول مصرية  مغربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى