اقتصادترجمات

“نيويوركر”: لا أحد يعرف سياسة ترامب التجارية!

الولايات المتحدة تحاول مكافحة الصين فتكافح حلفاءها التاريخيين

صورة أرشيفية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالمنتدى الاقتصادي العالمي

تقف الولايات المتحدة تحت حكم دونالد ترامب في منطقة ضبابية تمامًا بالنسبة إلى معظم المحللين، سواءً المحليين الأمريكيين منهم أو الدوليين، لا سيما في ما يتعلق بسياساتها الاقتصادية والتجارية التي لا تبدو لها أي ملامح محددة. وبينما يتنامى النفوذ التجاري والصناعي للصين، وتكافحها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حتى لا تقفز إلى الصدارة، يصرّ ترامب على اتباع سياساته الخاصة بعيدًا عن الحلفاء، ويستمرّ في التردد والرجوع عن تهديداته ووعوده كما يفعل في كل القضايا.

يحاول جون كاسيدي، في مقاله بمجلة “نيويوركر” الأمريكية، استعراض جوانب هذه الصورة الضبابية وفكّ رموزها استنادًا إلى ترتيب الأحداث وآراء الخبراء.

إليكم نص المقال:

هل يريد الرئيس الأمريكي حربًا تجارية أم أن تصريحاته الحمائية مجرد تهديد فارغ؟ لا إجابة واضحة لهذا السؤال لدى الكثير من الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، لا سيما الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي؛ لكن اليوم توجد بعض الأدلة على نظرية “التهديد الفارغ” التي يتبعها الرئيس الأمريكي.

البيت الأبيض أعلن مساء الإثنين الماضي، قبل أربع ساعات من الموعد النهائي الذي حدَّده لنفسه، أنه سيؤجل فرض الضريبة الجمركية على الصلب والألومنيوم المُستوردين من كندا والمكسيك والاتحاد الأوربي لمدة 30 يوميًا إضافية.

من الجليّ أن هذا يعدّ تنازلًا لحمائم التجارة داخل الإدارة الأمريكية (المعتدلين)، بمن فيهم ستيفن مونشين وزير الخزانة الأمريكي ولاري كودلو الرئيس الجديد للمجلس الاقتصادي القومي، والذين يريدون مزيدًا من الوقت للتفاوض مع دول أخرى لإنهاء هذا القرار من الأصل. لكن لا توجد ضمانة لأن يثمر ذلك الوقت الإضافي عن أي جديد، لا سيما أن سياسة الإدارة الأمريكية كانت مفككة ولم تعُد أكثر وضوحًا الآن.

ظاهريًا، يدور الجدال حول إغراق الصين للأسواق العالمية بإنتاجها الكثيف من الصلب، وإحباطها لأسعار السوق المعروفة، بما يؤدي إلى مشكلات لمنتجي وعمال الصلب الأمريكان. خلال العقدين الماضيين، أسست الصين صناعة صلب هائلة، وتنتج الآن نحو 10 أضعاف الإنتاج الأمريكي. لكن، بدلًا من التركيز على منتجي الصلب الصينيين وحدهم، أعلن البيت الأبيض في الأول من مارس الماضي تطبيق الرسوم الجديد على الاستيراد -وهي 25% على الصلب و10% على الألومنيوم- على جميع الشركاء التجاريين للولايات المتحدة بمن فيهم كل الحلفاء المقربين مثل كندا والاتحاد الأوروبي.

في المقابل تمسك صقور التجارة الأمريكية (المتشددون)، بمن فيهم روبرت ليثيزر الممثل التجاري الأمريكي وويلبور روس وزير التجارة، بحُجة أن هذا النهج المشوَّش كان ضروريًا لمنع الصين من شحن الصلب والألومنيوم إلى الولايات المتحدة عبر طرف ثالث. لكن، بالنسبة إلى الأوروبيين على وجه الخصوص، بدا هذا التحرك من جانب البيت الأبيض كأنه استهلال لحملة أكبر للقضاء على العجز التجاري في الولايات المتحدة، باستهداف نطاق أوسع من وارداتها وتعزيز صادراتها، فقد كان هذا على أي حال هدف ترامب الذي استعرضه في خطاباته وتغريداته عبر “تويتر” منذ بداية حملته الانتخابية.

استمرت الإدارة الأمريكية في إرسال إشارات متضاربة حول هذا الموضوع. ففي الجمعة الماضية، بعد اللقاء الرئاسي مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، طرح ترامب مسألة صناعة الصلب الأمريكية قائلًا إن نجاحها أمر حيوي للصناعة القومية ككل، لكنه تحدث أيضًا عن العجز الأمريكي في تجارة البضائع مع الاتحاد الأوروبي، والذي بلغ 151.4 مليارات دولار العام الماضي، قائلا إنه ملتزم “بعلاج هذه التوازنات التجارية”. ويُذكر هنا أنه إذا تم تضمين الخدمات في ميزان العجز التجاري فإن مقدار العجز يقل ليصبح أقل من 100 مليار دولار.

اختار ترامب التركيز على صناعة السيارات، وبدا متغافلًا عن حقيقة أن شركتي “جنرال موتورز” و”فورد” حافظتا على إجراء عمليات التصنيع واسعة النطاق في أوروبا، ومنذ حقبة التسعينيات تمتلك شركتا BMW و”مرسيدس بينز” الأوروبيتان مصانع في الولايات المتحدة.

تحدث كلٌ من ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي عبر الهاتف، لتصدر ميركل بعدها بيانًا يقول إن أوروبا “عازمة على الدفاع عن مصالحها”، وكانت تلك إشارة إلى أن دول القارة الأوروبية لن تسمح بأن يدفعها ترامب كما يرى. في ما بعد أصدر الاتحاد الأوروبي قائمة بتعريفات جمركية “انتقامية” تستهدف بضائع أمريكية مميزة، مثل الدرجات البخارية من طرازي “بوربون” و”هارلي ديفيدسون”، وسيتم تطبيقها إذا شرع البيت الأبيض في تنفيذ خطته الجمركية الخاصة بالصلب والألومنيوم.

يُقال إن إدارة ترامب تريد من الأوروبيين أن يوافقوا على فرض سقف عددي على صادراتهم من الصلب، كما وافقت كوريا الجنوبية، إلى جانب الموافقة على إجراءات أخرى وُضعت لتعزيز القدرة على وصول الشركات الأمريكية إلى السوق الأوروبية. المفوضية الأوروبية أصدرت بيانًا الثلاثاء الماضي يقول: “باعتبارنا شريكًا وصديقًا طويل الأمد للولايات المتحدة، فإننا لن نتفاوض تحت الضغط، وأي برنامج عمل عابر للمحيط الأطلسي يجب أن يكون متوازنًا ونافعًا للطرفين”.

المفارقة هنا أن الكثير من أصحاب الأعمال والسياسيين المؤثرين في الاتحاد الأوروبي يشاركون إدارة ترامب نفس تخوفاتها بشأن النزعة التجارية للصين، وكونها تدعم صناعاتها المحلية بالتميز ضد الدول الأجنبية وتستغل التكنولوجيا التي يتم تطويرها خارجها. في العام الماضي، أصدرت الغرفة التجارية للاتحاد الأوروبي ينتقد الخطة الصينية “صُنع في الصين 2025” والتي تستهدف الصناعات الأساسية في المستقبل كالطاقة النظيفة والذكاء الاصطناعي والروبوتات.

وانضم الاتحاد الأوروبي إلى الاتحاد الأوروبي في نزاع أمام منظمة التجارة العالمية حول ما إذا كان يجب تصنيف الصين تحت بند “اقتصاد السوق” (أي هل يجب اعتبار اقتصادها حرًا بالمفهوم الليبرالي أم لا).

كان أي رئيس أمريكي آخر ليسعى إلى خلق جهد موحد عبر الأطلسي لبذل مزيد من الضغط على الحكومة الصينية في بكين؛ لكنّ ترامب بالطبع يعترف بكونه أحادي الفكر، كما أن مستشاريه التجاريين -مثله تمامًا- قليلو الإيمان بالمؤسسات المتعددة الأطراف مثل منظمة التجارة العالمية والاتحاد الأوروبي. إذن ستواجه الولايات المتحدة الصين وحدها.

في مارس الماضي، أصدر الممثل التجاري الأمريكي تقريرًا يتهم الصين بتوظيف ممارسات تجارية غير عادلة تتعلق بالملكية الفكرية ونقل التقنيات إلى المستخدمين، وبعد بضعة أسابيع قال البيت الأبيض إنه ينوي فرض تعريفة جمركية بنسبة 25% على أكثر من 1000 سلعة صينية، بما يؤثر على نحو 46.2 مليار دولار من الواردات الأمريكية.

بعد وقت قصير من ذلك، أعلنت الصين أنها ستفرض تعريفات جمركية “انتقامية” على نطاق مماثل من السلع الأمريكية المُصدَّرة إليها، بما فيها فول الصويا والطائرات والسيارات، واستحثّ هذا التحرك الصيني تصعيدًا آخر من جانب ترامب، الذي هدد بفرض رسوم إضافية على السلع الصينية تبلغ قيمتها 100 مليار دولار.

وعلى عكس التعريفات الجمركية على الصلب الصيني، والتي يتم تطبيقها بالفعل، فإن أيًا من هذه الإجراءات لم يُنفذ. الوفد التجاري الأمريكي، الذي يتضمن مونشين وكودلو وليثيزر، وبيتر نافاردو أحد “صقور التجارة” البارزين أيضًا، سيسافرون هذا الأسبوع إلى بكين لمحادثات مع نظرائهم الصينيين. لكن، وفقًا لتقارير ترِد من بكين، لا يُرجح أن يجدوا مزيدًا من التنازلات من الطرف الآخر، حيث صرح مسؤول صيني لصحيفة “تايمز” البريطانية بأن “بكين لا تنوي التفاوض مع الولايات المتحدة حول أي قيود تتعلق بخطة (صُنع في الصين). بكين تدرك مطالب الولايات المتحدة على أنها محاولة لوقف التطور الاقتصادي والتقدم التقني للصين”.

السؤال الذي يقفز فورًا إلى الأذهان هو كيف سيكون رد فعل ترامب إذا لم تقبل الصين بمطالب بلاده؟ الآراء في منطقة “وول ستريت” التجارية أجمعت على أنه سيتعامى عن ذلك من جديد كما فعل من خلال قراره الإثنين الماضي. الانتخابات النصفية على الأبواب، وفرض التعريفات الجمركية واسعة النطاق سيؤلم الناخبين الجمهوريين في الكثير من الولايات الريفية.

الخبراء في مؤسسة “جولدمان ساكس” المالية تنبؤوا مؤخرًا بتأجيل البيت الأبيض للقرار النهائي الخاص بالتعريفات الجمركية لعدة أشهر، ويعتقد الكثيرون بأن ترامب يمارس خداعًا بالأساس؛ لكن لا يمكننا أن نتيقن من شيء على الإطلاق. وكما قال تشاد بون، الزميل البارز بمعهد “بيترسون” للاقتصاد الدولي، فإن ما فعله ويفعله ترامب “هو أن يجعل كل شيء في السياسة التجارية غير مفهوم، ولا نعلم بشكل يومي كيف ستكون هذه السياسة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى