سياسة

ناشيونال جيوجرافيك: كيف يسرق غزاة القبور تاريخنا؟.. ترجمة كاملة

ناشيونال جيوجرافيك: كيف يسرق غزاة القبور تاريخنا؟ ترجمة كاملة

Nationalgeografic- توم ميولر

ترجمة دعاء جمال- فاطمة لطفي

egyptian-coffin.adapt.1190.1

السيدة ذات الشعر المستعار المحيط بعينين محدقتين تقبع على الطاولة المضاءة. همهمت البروفيسورة “لا تزال في حالة رائعة.. محفوظة جيدا للغاية”. بينما تنساب نظراتها لأسفل جسد الضحية، أشارت للرسوم على غطاء تابوتها، حيث هناك قطعا حديثا عبر أعلى الفخذين، ورموزا للإله آمون، طائر أبو منجل، وتعويذة سحرية من كتاب الموتى. “وهنا اسمها ولقبها: شيسيب آمون تايس هير، سيدة المنزل. بقراءة اسمها بصوت عال، تحقق أمنيتها بأن تذكر في الحياة الآخرة.”

السيدة المصرية النبيلة ماتت منذ حوالي 2600 عام، سارة بارام، عالمة مصريات بجامعة ألاباما في بريمينجهام، تتحقق من تابوتها الداخلي، واحد من ثلاث حقائب خشبية متداخلة مثل العرائس الروسية، بمجرد هزها لجسدها المحنط، تجد أن التابوت لا يزال محتفظا بروائحه. قطّع الناهبون هذا التابوت لأربع قطع كبيرة وشحنوها ببريد الطيران للولايات المتحدة، حيث وضعها مرمم الآثار معا مجددا. بعد أشهر لاحقة، اكتشف موظفو الجمارك النعش في منزل تاجر الأنتيكات المقيم في مدينة نيويوك، حيث تحفظت الشرطة على قطع آثرية من حول العالم: حجر ضخم لبوذا من الهند، تمثال التراكوتا من الصين، نقوش من العراق، سوريا واليمن. كلها قطع أتت إلى هنا كنتيجة لتجارة الآثار غير القانونية.

 satellite-2011.adapt.536.1 satellite-2014.adapt.536.1

صور القمر الصناعي ماري “بلاد ما بين النهرين القديمة شرق سوريا، تظهر زيادة في حفر النهب بين أغسطس 2011 (اليسار) ونوفمبر 2014. البنية في الوسط هي السقف فوق أطلال ما كان يوما قصرا كبيرا.

 boatmen.adapt.590.1

مجدفون للحياة الآخرة، بحارة النيل الذين صاحبوا ذات مرة مصريا في رحلة الموت الطويلة. نهبت القطع الآثرية من القبر في 2009 تقريباً وبدأت رحلة سرية من مصر لدبي، ثم لنيويورك وفيرجينيا، حيث حصل عليها عملاء فيدراليون وأعادوها في النهاية لمصر.

من لصوص المعابد  لناهبي الكنائس في بوليفيا لعصابات من مئات الرجال في مقاطعة لياونينغ الصينية، الناهبون ينقبون ويسرقون ماضينا. مثل أغلب النشاطات غير القانونية، من الصعب تحديد كم الناهبين. إلا أن صور الأقمار الصناعية، مصادر الشرطة، وتقارير الشهود تشير جميعها إلى أن الاتجار في الكنوز المسروقة يزدهر حول العالم.

في مصر، تعد باراك رائدة في استخدام صور الأقمار الصناعية لقياس النهب وضرر انتهاك المواقع الأثرية. بحثها يخبرنا حكاية قاتمة: ربع المناطق الآثرية الـ1,100 أصيبت بضرر كبير. تقول “بالمعدل الحالي من الدمار، كل المواقع المعروفة في مصر ستكون مهددة بشكل خطير بحلول عام 2040. إنه أمر مفجع.”

على مدار العقدين الماضيين كشفت سلسلة من القضايا رفيعة المستوى عن الجانب المظلم لتجارة الآثار، مسلطة الضوء على شبكة من المنقبين والمهربين ممن يبيعون القطع الآثرية لمعارض شارع ماديسون والمتاحف المشهورة. عام 2002، حكم على فريدريك شولتز، تاجر مشهورمن منهاتن في الفن القديم بـ33 شهراً في السجن الفيدرالي للتآمر واستقبال آثار مصرية مسروقة. عام 2006 وافق متحف المتروبوليتان للفنون تحت ضغط من الحكومة الإيطالية على إعادة إيوفرونيوس كريتر، وعاء لمزج النبيذ، منهوب من قبر إتروسكاني (من الحضارة الإتروسكانية) بالقرب من روما. وفي السنوات الأخيرة دقت طبول الحرب والاضطرابات في الكثير من البلاد الغنية بالآثار، وبلغت ذروتها في بلاد الرافدين القديمة من قبل الدولة الإسلامية، حيث أثارت شكوك بأن تجارة الآثار تساعد على تمويل الإرهاب.

ومع ذلك وصل النقاش بشأن كيفية وقف النهب لطريق مسدود. يلوم علماء الآثار تجارة الآثار على النهب، مدعين أن القطع الآثرية في السوق مسروقة. يعتبر الجامعون، التجار، والعديد من أمناء المتاحف أن أغلب بيع الآثار كان قانونيا. ويجادل البعض أن الهدف النهائي من حماية التراث الفني للبشرية، يحتم عليهم “إنقاذ” الآثار من الدول غير المستقرة.

تعطي قصة شيسيب آمون تايس هير، للسؤال المجرد وضوح قاس. بجمع الأدلة معاً من علماء المصريات، أمناء المتاحف، العملاء الفيدراليين، سأقتفي أثر رحلتها من قبر في مكان ما في مصر، عبر شبكة معقدة من مهربي الآثار، المتعاملون والتجار، وصولا إلى المستودع ذي الإجراءات الأمنية المشددة في مدينة نيويورك.

أول خطوة لتحديد موقع شيسيب آمون تايس هير، على الأرجح مكان دفنها.

بناءً على هيروغليفية نعشها والأسلوب الفني، استنتج علماء المصريات بجامعة بينسلفانيا، أنها عاشت حوالي في فترة 600 ما قبل الميلاد. بكشف بحث لكتب توابيت مصرية ومواقع الأثريات لتابوت حجري مماثل، لامرأة بالاسم نفسه وهو اسم غير معتاد، أبلغ عن إيجادها بمنطقة أبو صير، وهو موقع على بعد 60 ميلا جنوب القاهرة.

كانت أبو صير مدينة مزدهرة تطل على سهل فيضانات بين نهر النيل وواحة الفيوم. اشتهرت بمعابد أوزيريس، إله الخصوبة والآخرة، وبالمقابر الرائعة ذات الـ4 آلاف عاما من التاريخ. اليوم، في ضوء الشمس الخافت، يبدو أبو صير أقرب لأرض معركة قصفت مؤخراً. حفر وفوهات (آبار) أسفل الرمال المنسابة حيث نقب الناهبون في الأرض بمعاول، جرافات وديناميت. وفي العملية انتهكوا عدداً لا يحصى من المقابر، تاركين ركاما من الجماجم والعظام المحطمة حول العديد من حفر النهب.

تأخذني آمال فرج، المسؤولة الرسمية في وزارة الآثار بمنطقة أبو صير والمواقع المجاورة، في جولة للمواقع مع خمسة حراس حاملين كلاشينكوف. امرأة نحيلة ومعتدلة في الـ49 من عمرها بفم غليظ وأعين رقيقة، تلتقط شرائح من خشب الأرز، مع مسامير خشبية وآثار لصبغة حمراء، شظايا من تابوت أبانوس قديم. تقول “يحتفظ الناهبون بالقطع الجيدة فقط ويكسرون أو يلقون البقية بالأسفل. وأمام كل قطعة رائعة، يدمرون المئات.”

تقودني فرج لبئر على التلال بزاوية لأسفل داخل الحجرة المظلمة. هنا في أبريل 2012، واجهت ثلاثة ناهبين. خلال الزيارة الدورية لأبو صير مع زميلة، لاحظت سيارة تاكسي واقفة بالقرب من المقبرة. بالاقتراب، أصبحت المرأتان وجها لوجه مع 3 رجال طوال وبعضلات وجلابيات.

“أخبرت زميلتي، إذا شعرت بالخوف، ادعي فقط أنك متكبرة. التكبر نجح كخدعة: بعد التهديد بفضحهم، اتجهوا إلى التاكسي ورحلوا.

 tomb.adapt.1900.1

سرقة المقابر في مصر قديمة مثل الفراعنة. مقبرة رمسيس الخامس ورمسيس السادس في وادي الملوك بالقرب من الأقصر، نهبت منذ حوالي 3 آلاف عام، خلال فترة أزمة اقتصادية وغزو أجنبي

تقودني فرج لمقبرة بينما اعتادت عيني على الظلمة، أرى كسور في الحوائط الحجرية للغرفة والممرات المؤدية للغرف الأخرى الأعمق من التلال.

ربما شيسيب-آمون-تايس-هير، نهبت من مقبرة مثل هذه. كان موقعها سيصبح في إحدى هذه الغرف، محاطة بأشياء عزيزة عليها في الحياة: مجوهرات، عصا مشي، ورق يحتوي على تعويذات سحرية، صناديق مزينة بآلهة الموتى. وكان أجدادها وأحفادها سيشغلون الغرف المجاورة بكنوزهم الخاصة. إذا وجدت سليمة، كانت تلك العائلة لتفتح نافذة مشرقة على الماضي. حتى مع محاولات اقتحامها من قبل الناهبين كما هو الوضع، إلا أنها قيمة للغاية بسبب هيروغليفيتها ورسوماتها، خاصة إذا نقبت بشكل مناسب ستكون لا تقدر بثمن، الاختلاف بين صفحة مقطوعة من كتاب وكتاب كامل، ومجموعة كتب في مكتبة كبيرة.

تمكّنت فرج وزميلتها من سحب النعشين خارج القبر وتحميلهما في سيارتهما حتى يتمكنا من نقلهما لمكان آمن. في العودة لمقر الوزارة، تم مطاردتهما بسيارة بيجو 504. وفي النهاية، عند تقاطع، قطعت شاحنة الطريق على مطارديهما وهربا.

عند تسلقنا خارج المقبرة، كان الحراس يمسحون الحقول المجاورة والمنازل، ببنادق مستعدة للإطلاق. شرحت فرج أن سكان القرى المحلية لا يشعرون برابط مع الثقافة المصرية القديمة وينهبون ماضيهم “ليعيشوا”. السكان الفقراء في العديد من الدول الغنية بالآثار يفكرون بهذه الطريقة.”

زاد النهب بعد ثورة 2011، عندما تلاشت قوات الأمن. لكن تحليل الأقمار الصناعية لباراك يشير إلى أن ارتفاعا كبيرا قد حدث بالفعل قبل عامين، عندما ضربت الأزمة المادية العالمية الاقتصاد المصري، متسببة في زيادة أسعار الغاز والطعام والبطالة. لجأ بعض العاطلين للنهب من أجل النجاة.

صاحبنا الحراس على الطريق السريع، وصافحتني فرج طويلاً. التنقيب في الماضي للربح كان مهنة لآلاف من الأعوام. أقدم محاولة للناهبين في مصر حدثت في طيبة 113 قبل الميلاد. عصابة من الناهبين بقيادة عامل بمحجر ومغامر يدعى أمينبانيفير. أدين عامل المحجر وشركاءه وعلى الأرجح أعدموا بالتعليق على خازوق.

كما حملت الجيوش المجتاحة آثار مصرية. أرسل الغزاة الرومانيون مسلات كاملة لوطنهم بهدف بناء سفن. ومن القرن الـ16 لمنتصف القرن الـ20، عندما سيطرت على مصر قوى أجنبية، أرسلت قطعا لا تحصي من ماضيها لمراكز ثقافية بالخارج كهدايا، تجارة وإكراه. تلقى علماء الآثار الأجانب حصة من الآثار وجدت في تنقيبهم خلال التنسيق الرسمي مع السلطات المصرية المعروف بالتقاسم أو التشارك. اشترى المسافرون آثار من البائعين المرخصين بالقاهرة، الأقصر وأماكن أخرى. مثل تلك المعاملات لا توثق عادةً، لأن الآثار كانت تعتبر ممتلكات شخصية على نطاق واسع. على الرغم من أن القوانين وجدت بالفعل لحماية الآثار، إلا أن المفهوم الحديث للملكية الثقافية، والنهب، كان لا يزال يتطور.

_V6C5833_crop.adapt.1190.1

باستخدام منظفات الحمام، ينظف الرجال متوسطو العمر العملات الأثرية التي نبشت في سوريا. ناهبون من الدرجة الثانية مثل هؤلاء، يشترون آثارا من المنقبين ويبيعونها للمهربين والتجار، والذين يعيدون بيعها بمكسب كبير حقًا.

التغيير في مصر وغيرها، بدأ في الخمسينيات، حيث انحلت الإمبراطورية الاستعمارية وحصلت البلاد التي كانت واقعة تحت الاستعمار على الحكم الذاتي. مستلهمة من إحساس جديد بالهوية الوطنية، دعّمت العديد من البلاد قوانينها الموجودة أو سنّت مشاريع جديدة لحماية ماضيها، والتي تضمنت الآثار التي لا تزال مدفونة. عام 1983، أعلنت مصر أن كل الأشياء ذات القيمة الثقافية وعمرها أكثر من قرن ملك للدولة. عام 1970، اعتمدت اليونسكو اتفاقية لحظر ومنع الاستيراد غير المشروع، التوريد، ونقل الملكية للممتلكات الثقافية، والتي وقّعت عليها 131 دولة حتى الآن.

20 ميلاً شمال أبو صير، قابلت محمد يوسف، مدير مواقع المملكة الوسطى الغني في قرية دهشور. في الأشهر الفوضوية بعد ثورة ناير 2011، خربت عصابات الناهبين المواقع، مستخدمين في بعض الأحيان جرافات والحفر ليلاً تحت الأضواء الكاشفة.

أراني يوسف مقبرة، أنقذها هو ومفتشوه بعد أن تعرضت للنهب بعد الثورة. بعض نقوش الحجر الجيري أزيلت من مقبرة أخرى. كانت هناك مجموعتان مسلحتان بالأسلحة الآلية تتجادلان بشأن النقوش. “عندما اقتربنا، أطلقوا أسلحتهم في الهواء. لم يكونوا خائفين منا على الإطلاق.”

قد يكون الأمر عاديا في المناطق المضطربة، بالأخص وقت الحرب. خلال الحرب الأهلية الكمبودية، سيطر الخمير الحمر ومجموعات عسكرية أخرى على الناهبين العاملين بمنطقتهم. بالمثل في سوريا اليوم، تأخذ داعش حصة من أرباح النهب، لكن أيضاً تأخذ المجموعات التابعة لجيوش الرئيس بشار الأسد، ووحدات حماية الشعب الكردي والمعارضة نصيبها.

يقول يوسف إن السكان المحليين المهمين يلعبون دورا في اللشت ودهشور. “هناك القليل من الأشخاص المعروفين  المتورطين في النهب. هم أغنياء بارزون، لا يمكن المساس بهم.” يقول يوسف إن إحدى العائلات في قرية مجاورة تقود ميليشيات خاصة كبيرة.

artifact-bowl.adapt.590.1

مزيج من الآثار، بعضها من المحتمل أن يكون مزيفا، يعرض للبيع في منزل تاجر آثار في شمال غرب سوريا. الآثار المزيفة تجارة كبيرة في العديد من الدول، حيث يخدعون بها المشترين الغافلين، كما اعتادوا إخفاء الآثار الحقيقية خلال الشحن، وحتى تبديلها بالقطع الأصلية في المتاحف.

يشرح العميد  أحمد عبد الظاهر، قائد العمليات، القصير البشوش وهو من شرطة الآثار المصرية، أن العديد من شبكات النهب في مصر منظمة على هيئة هرم من أربع طبقات. الأساس، ربما ثلاثة أرباع من القوى العاملة، من القرويين الفقراء ممن تعد معرفتهم بالتضاريس والآثار أساسي لإيجاد الغنيمة. تتكون الطبقة الثانية من وسطاء يجمعون الأشياء من المنقبين المحليين وينظمون العمال في أطقم. تلعب الطبقة الثالثة وفقاً لعبد الله زاهر، في تهريب الآثار خارج البلاد وفي النهاية يبيعونها لمشترين أجانب في قمة هرم النهب.

في مصر، مثل بلدان المصدر، يرتفع هامش الربح بشكل ثابت. أبلغ عن بعض الناهبين من الطبقة الثانية عن إعادة بيعها لأشياء بعشرة أضعاف ما يدفعونه للحفارين. يقول “هؤلاء مجرمون محترفون.” ووصف عدة مداهمات على بائعي مخدرات حيث وجدت الشرطة آثارا بجانب المخدرات.

في المناطق المضطربة، قد تتبع المخدرات نفس شبكات التوزيع المستخدمة من مهربي السلاح. يقول ماثيو بوجدانوس، نائب عام وعقيد مشاة البحرية والذي خدم في العراق في أوائل العشرينيات، عادة ما وجدنا مخابئ للآثار مع بنادق آر بي جي (قذائف صاروخية) وأسلحة أخرى” .

بين 50 من مختلف الموانئ، المطارات والطرق البرية المستخدمة لتهريب الآثار خارج مصر، اختار زيارة دمياط. شحن تابوت شيسيب-آمون-تايس-هير للولايات المتحدة من دبي، مخبأ في حاوية محملة بالأثاث. تعد دمياط واحدة  من موانئ الحاويات الأكثر إشغالاً، كما أنها عاصمة الأثاث، حيث يذهب حديثو الزواج إليها من أجل تجهيز منازلهم. ضبط مسؤولو الميناء عدة حاويات شحن للأثاث مع آثار غير قانونية مخبأة داخلها.


 يعرض سارق قبور نسيجا مرسوما للبيع في مقبرة في هاورمي، بيرو. لكن هل هذه قطعة أثرية أصلية منهوبة من موقع حضارة إنكا أم أنها مجرد نسخة حديثة مزيفة؟ خبير فقط من يستطيع إخبارنا بهذا. 

تستغرق المسافة فقط 150 ميلا للوصول من القاهرة إلى دمياط، لكن القيادة استغرقت مني إلى هناك خمس ساعات. الليلة الماضية، قتل مسلحون شرطيين خارج الفندق الذي
كنت أقيم فيه قرب القاهرة، وجرت هجمات بأسلحة آر بي جي في هذا الطريق. مستوى الأمن عالٍ، مع حواجز مقامة كالمعتاد. تتبعت سيل الشاحنات اللانهائية التي مرت بهم، معبأة بالبصل والبطيخ والدجاج ورزم الصوف. يمكن لأي من هذه العربات إخفاء تابوت.
بمجرد وصول التابوت إلى دبي، أصبح مساره أكثر وضوحا. بناءً على رسائل البريد الإلكتروني، والبيانات الجمركية، وقوائم الشحن والمدّعين والمحققين الفيدراليين زعموا أن ثلاثة رجال متورطين في إرسالها من دبي إلى الولايات المتحدة، موسى خولي، سوري المنشأ تاجر آثار في نيويورك، وسالم الشدايفت، مواطن أردني في ولاية ميشيغان، وأيمن رمضان، أردني يعيش في دبي. (أقر الخولي مؤخرًا بالذنب واعترف بالتهريب والإدلاء بشهادة كاذبة إلى ممثل التحقيقات الفيدرالية وحُكم عليه بستة أشهر قيد الحبس المنزلي. واعترف الشدايفت بالذنب وأقر بالكذب رسميا والقيام بالجنحة وغرّمته المحكمة ألف دولار بينما رمضان ظل هاربًا).

أظهرت الوثائق التي أبرزها الادعاء أن الشدايفت أرسل لقطات عبر سناب شات للتابوت من المقرر أن الخولي ورمضان وشركاء آخرين أن يشحنوها، مع توصيف مضلل للمحتوى أو القيمة. استقبل الخولي وتاجر العملة في كونيتيكت المعلومات. استخدم بعدها الخولي نفس اللقطات ليعيد بيع التوابيت إلى جامع آثار في فيرجينيا. المحققون مع الجمارك وهيئة الهجرة الأمريكية زعموا أن أيمن رمضان سلّم الآثار التي نُهبت من سوريا والأردن وليبيا. والرسائل البريد الإلكتروني بين الشدايفت والزبائن المحتملين تشير إلى معرفة مباشرة بنهب الآثار من مصر.

برينتون إيستر، وكيل خاص في هيئة الهجرة والجمارك الأمريكية رصد أن هذه الشبكة الدولية يتكاتفون سويا بنجاح أكثر من الموظفين المفوضين بتنفيذ القانون مع بعضهم البعض. أوضح أن حاوية الشحن التي جلبت التابوت الخارجي إلى الولايات المتحدة. شحنته شركة “Amal Star Antiques”، مقرها في دبي. وأشار إيستر إلى أن الشركة يملكها نور شام، ضمن عائلة شام لتجار الآثار في مومباي في الهند. صحفي التحقيقات بيتر واتسون، في كتابه “دار مزادات سوثبى.. القصة من الداخل”، يزعم أن أعضاء عائلة شام وراء عملية النهب الكبرى التي جلبت تماثيل المعبد من الهند إلى المملكة المتحدة في تسعينيات القرن الماضي، أحيانًا عبر دبي، وأرسلوا عدة قطع بارزة إلى دار سوثبي للمزادات في لندن.

يقول إيستر: “يبدو أن الأشخاص السيئين يصلون إلى بعضهم البعض بسهولة، يبدون كأنهم على اتصال سريع ببعضهم البعض”. وأضاف أن مساعدا من الشرق الأوسط قال مؤخرًا إن المهربين وتجار الآثار في المنطقة يتتبعون عمله بحرص. يومئ قائلا: “هذا يعني أنني جذبت انتباههم، هذا جيد، أعلم الآن أنني أقوم بعملي”.

وعلى عكس المنتجات الأخرى غير المشروعة مثل المخدرات والأسلحة، بدأت عمليات نهب الآثار بقذارة وانتهت بنظافة (على الأقل ظاهريًا). أصول التجارة غير المشروعة يجري غسلها الآن لتمر عبر شبكات اتجار. ودون منشأ مُفصل، وملكية موثقة من الصعب أن نعرف إذا كان الهدف وراء هذه العمليات جيد أو مجرد احتيال. وبما أن معظم القطع التي يتم جمعها تفتقر إلى المصدر الواضح، هذا يثير المعضلة التي يواجهها الجامعون، والتجار، وأمناء المتاحف مع كل عملية شراء تتم.

باع موسى خوالي الأثر إلى رجل أعمال صيدلي وجامع آثار يسمى جوزيف لويس، يعيش في فيرجينيا. اتهم لويس مع الخولي وآخرين في مايو عام 2011 بتهم تضمنت التآمر سويا على التهريب وغسيل الأموال. وبعد ما يقرب من ثلاثة أعوام من التقاضي الحاد، أطلق سراحه وبرئ من كل التهم. نفى لويس ارتكاب كل الجرائم قائلًا إنه اشترى المقتنيات من الولايات المتحدة من تاجر استوردها له.


اللصوص في كمبوديا يقطعون رؤس التماثيل، حيث أنها أسهل في التهريب

تماثيل مقطعة أطرافها في انتظار إصلاحها في مركز للحفاظ على الآثار قرب متنزه أنكور الأثري في كمبوديا.

تمثال لـ محارب من القرن العاشر، يعرف باسم ” Duryodhana”

 

ورث لويس الرغبة في جمع الأشياء عن والدته، كانت مهتمة بجمع الزجاجات ونماذج الأفيال وكان والده مولعًا بجمع الأسلحة، حتى أن لويس نفسه كان قد بدأ بجمع النمل في زجاجات بعد أن تعلّم المشي.

وبالنظر إلى القطع المصرية التي يقتنيها، تشمل عددا من التوابيت المذهلة يوفر لها مكانًا بجودة متحف مع مراعاة الظروف المناخية.

يقول لويس: “مستقبل جمع الآثار يهدده الانتهاكات المستمرة من الولايات المتحدة والقوانين الأجنبية، لذا ساعد مؤخرًا في تشكيل رابطة لتوعية جامعي الآثار والدفاع عنهم”.

ومن خلال زيادة التعاون بين المهتمين بعملية جمع الآثار والمجتمعات العلمية، يمكن أن يكون لدينا سجل عالمي للقطع الأثرية المشروعة والذي سيكون بمثابة أداة قوية ضد نهب الآثار. يؤمن لويس أن “إذا كانت القطع الأثرية ليست على هذه القائمة، فيمكن جمعها أو بيعها”.

قد يكون صوت لويس هو الأكثر صراحة بين جامعي الآثار. جايمس كونو، الرئيس التنفيذي لمؤسسة ذا ج. بول جيتي تريوست، قال إن الكثير من عمليات الترحيل تعثرت. منذ أن أصبحت مهمة المتاحف العمومية هي جمع وحفظ ومشاركة التراث الثقافي. وفي النهاية يقول إنه لا يجب على أحد أن يقنن بيع الآثار المنهوبة إذا كان هذا سيساعد في إنقاذها من الفقدان أو التدمير.

هل ترفض أن تتفاوض مع الإرهابيين؟ حتى إذا كان هذا التفاوض سينقذ أرواح الرهائن؟ يسأل. “ببساطة عدم المشاركة في السوق لا يعني أن السوق تنتهي، الأمر ليس بهذه البساطة”.


  موظفة بالمتحف المصري بالقاهرة تنظف ويظهر أمامها تمثال مذهب لـ توت عنخ أمون يرمي بالحربون. سُرق التمثال وتضرر أثناء أيام الفوضى الأولى في ثورة 25    يناير عام 2011، ُأصلح ورمم بعدها في وقت لاحق، وقُضي أشهرا لإصلاحه وإعادة تجديده.          

بينما تجارة الآثار قد تساعد في الحفاظ على العديد من القطع النادرة من التدمير، في المناطق التي تتواجد أزمات، فهي تفتح المجال لاتهامات أنها تحث على النهب، ويبدو أنها تشجع بعض المشاركين في هذا أن يخدعوا أنفسهم حول من أين جاءت مقتنياتهم الثمينة.

هنا تكمن المشكلة، اتفاقية اليونسكو لعام 1970، وقوانين الميراث، والقضايا المعروضة على المحاكم والترحيل إلى الوطن منذ أوائل الألفية، على كل هذا أن يقدم مصدرًا تفصيليًا أكثر من المعتاد عن القطع الأثرية، ومع ذلك العديد من الجامعين والتجار وباعة المزاد، وأمناء المتاحف يبدو أنهم يشعرون لا يزالون يملكون نفس السرية التي تكتنف تجارة الآثار. كما أن المبيعات الخاصة في مزادات البيوت في تزايد مستمر.

يقول كريستوس تسيروجيناس: “منذ عام 2007 تعرّفت على عدد كبير من المقتنيات التي حفظها الناهبون تقريبًا في كل مزاد كبير”. “حقيقة أن المزادات التي تُقام في المنازل تستمر في بيع الآثار تظهر أنهم لا يهتمون بتحسين سلوكهم. إنما ما يعنيهم هو الاستمرار في البيع”.

يقول تيس دايفز، محامٍ ومدير تنفيذي لتحالف الآثار في واشنطن: “هذه القطع يجب أن ترسل إشارات تحذيرية في كل العالم، لا يمكن أن يكون شراؤها وبيعها بحسن نية”. وأضاف: “قبل أعوام قليلة، كان الجامعون يرثون غياب الفن الكمبودي في الولايات المتحدة، لكن عند اندلاع الحرب الأهلية التي أسفرت عن إبادة جماعية، غمرت
الأسواق القطع الفنية الأثرية النادرة مجهولة المصدر مع دلال سرقة عنيفة حتى أنه في بعض الأحيان تٌقطع من الكاحل”.

  . حارس في قرية أبو صير الملق يستكشف مقبرة قديمة تتناثر منها عظام بشرية وتظهر حفريات المهربين. التهريب مشكلة قديمة، لكن زادت بعد الأزمة المالية العالمية وثورة 25 يناير المصرية.  

من خلال تتبع سلسلة توريد قطع أثرية جلبتها من مصر إلى الولايات المتحدة، من الصعب بالنسبة لي أن أرى بيع قطع أثرية بدون معرفة مصدرها. وافق عالم الآثار ريكاردو ايليا: “هذا واضح تمامًا، ويستند الأمر إلى قوانين الاقتصاد، أنت تدفع من أجل نهب الآثار، فيحقق ذلك المزيد من المال”.

معركة الحفاظ على الملكيات الثقافية مستمرة، لكن هناك بوادر أمل. في عام 2010 استحدث متحف بوسطن للفنون الجميلة وظيفة جديدة، “أمين على منشأ الآثار”. وهو الموقع الوظيفي الأول والوحيد في الولايات المتحدة. في عام 2013 أعاد مسؤولون في متحف متروبوليتان طوعًا قطعتين أثريتين من كمبوديا. تبعها متحف كليفلاند للفنون في خطوة لاحقة وغيره من متاحف الولايات المتحدة. وعُقد اجتماع لاحق في معرض كبير في جنوب شرق آسيا، بالتعاون مع الحكومة الكمبودية.

يرصد باتي جيرستينبليث، أستاذ في جامعة ديبول للقانون والذي تخصص في التراث الثقافي، أن هذا النوع من الجهود التعاونية، والتي تهدف إلى اقتراض طويل الأجل بدلًا من الاستحواذ الصريح، هو خطوة قوية وإيجابية من أمناء المتاحف.

في 23 إبريل عام 2015، نُقل التابوت مرة أخرى إلى مصر، هو الآن معروض في المتحف المصري في القاهرة. وفي الوقت نفسه يطالب بعض أمناء المتاحف وجامعي الآثار مثل لويس بقاعدة بيانات للقطع الأثرية لتساعد على إحباط عمليات النهب وتقترح لقاء علماء الآثار في محاولة لإيجاد مساحات مشتركة.

تقول سارة باراك، إن إيجاد هذه القواسم المشتركة أمر ضروري. في بلد المنشأ والمستهلك على حد سواء. ومن المرجح أن تستمر عمليات النهب والحفر في مصر حيث يرى المشترون من الخارج أن القطع الأثرية ليست فقط قطع جميل اقتنائها إنما أيضًا ممر هام إلى ماضينا وتاريخنا.

وتضيف باراك: “التاريخ الإنساني هو أعظم قصة يمكن حكيها، الطريقة الوحيدة التي يمكنك بها فهم التاريخ كليا في أن نكشف عنه معًا”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى