ترجماتثقافة و فن

محمد أبو سالم: قصة موسيقى الآندرجراوند (6) لغة “الغريبين”

محمد أبو سالم: قصة موسيقى الآندرجراوند (الحلقة السادسة) لغة “الغريبين”

 

haddad22

محمد أبو سالم

سعيدة، أحب هذه التحية المصرية التي شارفت على الانقراض، والتي توارب بابًا للمتلقي ليضع قبلها أو بعدها ما يتمناه، صباحية .. وجهة .. نزهة، وردها العبقري المزايد، سعيدة مبارك، والذي يردها بزيادة مع الإبقاء على مواربة الباب للغرض نفسه، جميلة هي اللغة المصرية، عندما هممت بكتابة هذه الحلقات أردت أن أكتبها بها، ولكن ما أثناني عن هذا وألجأني للغة العربية … مهلاً، أوليست المصرية لهجة من لهجات اللغة العربية المتعددة؟ هممممم … لا، إن كنت قوميًا أو معاديًا للقومية، محبًا للعرب أو كارهًا لهم، ركز معي أرجوك، فالآتي سوف يهمك.

فؤاد حداد

إذا أردت الحكم على أية لغة وهل هي ثورة أم انقلاب .. عفوًا أعني لغة مستقلة أم لهجة من لغة أخرى فلا تقع في فخ المفردات، اللغة الإنجليزية ابنة للغة الألمانية، والاثنتان من اللغات الجرمانية، رغم أن نصف مفردات الإنجليزية تقريبًا أخذت عن اللغة الفرنسية المنحدرة من جذر آخر وهو اللاتيني، اللغة المصرية بها من المفردات العربية أقل مما تحتويه الإنجليزية من مفردات فرنسية، تمايز اللغات يعرف عن طريق رصد البناء والصرف والقواعد، سأعطيك بعض الأمثلة السريعة لتوضيح الأمر، في اللغة العربية لا أهمية لموضع الفاعل في الجملة، وإنما العبرة بحركة نهايته، (قتل محمدٌ عليًا) لا تختلف في المعنى عن (قتل عليًا محمدُ) ، على العكس من المصرية التي لا تعرف هذه الحركات وتشترك مع لغات جيرانها اللاتينيين في أن الموقع في الجملة هو المحدد، (محمد قتل علي) تعني أن محمدًا هو القاتل، وإذا أبدلنا الاسمين لصار علي هو القاتل، أداة التنكير في العربية هي نون ساكنة في آخر الكلمة، والتي ندعوها بالتنوين، أداة التنكير في المصرية هي غياب أداة التعريف، النفي في العربية أدواته، ليس وما ولم ولا ولن وغيرهم، النفي في المصرية مختلف تمامًا، وأشهر أدواته (مش) التي تسبق الصفة فتنفيها مثل (مش عارف) أو يتوسطها الفعل فتنفيه مثل (معرفتش)، أمثلة أكثر من أن تحصى، لا تنزعج فسندخل في الموضوع حالاً.

ما أردته مما سبق أن مدرسة الإحياء والبعث لا أحيت ولا بعثت، فاللغة التي لا تتطور تموت، والتطور يحدث بين الناس وليس في المجامع العلمية، لذا أرجو ألا تأسف إذا أخبرتك أن اللغة العربية ماتت، ومئات السنين من الانحطاط الشعري لم تنتهي بظهور البارودي وشوقي، فعموم الناس لم تعرف الريم الذي على القاع ولا ما تفعله بنائي الطلح، ولكنهم استوعبوا جيدًا أن (لوندون والا باريز .. دي بلاد تمدين ونضافة وذوق ولطافة وحاجة تغيظ) ، كما اتفقوا جميعًا على أن (الرجل تدب مطرح ما تحب) وكما اتفقنا سابقًا أن الفهم هو الخطوة الأصعب في طريق التطور.

من المدهش أن أول أهم شاعرين يكتبون باللغة المصرية كانا من جنسيات أخرى، فبيرم التونسي المولود في نهاية القرن التاسع عشر بالإسكندرية تونسي، واضح طبعًا، ولم يحمل الجنسية المصرية إلا بعد أكثر من ستين عامًا على مولده، وفؤاد حداد المولود بالظاهر في عشرينيات القرن العشرين من أب لبناني وأم سورية، الأول نال قسطًا بسيطًا من التعليم الديني، والثاني تعلم في مدارس فرنسية، قد يسألني (الشريك المخالف) لماذا تخطيت شاعرًا بحجم أحمد رامي؟ نحن هنا لا نتحدث عن الإجادة فقط، بل عن هؤلاء الذين أضاءوا لنا موضع الخطوة القادمة.

أول قصيدة نشرت لبيرم التونسي كانت بالعربية، وكانت تنتقد تعسف المجلس البلدي في جمع الغرامات من التجار والذين انتمى لهم في بداية شبابه، ربما كتبت قصيدة المجلس البلدي بالعربية، ولكنها حملت منطق اللغة المصرية بامتياز، وهي التجربة التي كررها الشاعر عصام عبدالله في كلا الاتجاهين بعد حوالي ثمانين عامًا في قصيدتيه (في قلب الليل) و (من بعيد).

بيرم التونسي

أهم ملمح أسهم به بيرم في تطوير الأغنية المصرية في رأيي هو جرأته الكبيرة على طرح الجديد سواءًا من ناحية الشكل أو المضمون، فقصيدة الأولة في الغرام مثلاً تقدم شكلاً فريدًا من نوعه، فهو يبدأها بثلاثة أسطر شعرية يتكون كل واحد منهم من كلمة واحدة.

الأوله …
والتانيه …
والتالته …

ثم يكررهم مع إضافة كلمة أو أكثر:

الأوله في الغرام والحب شبكوني
والتانيه بالامتثال والصبر أمروني
والتالته من غير ميعاد راحوا وفاتوني

ثم يعاود الكرة مع تكرار ما سبق حتى يكتب السطر الشعري على صفحتين متقابلتين جراء طوله، شكل عجيب وقدرة مذهلة كررها أكثر من مرة، وكمثال آخر، عدم إكماله الجملة سوى في البيت التالي كما فعل في مقدمة (أنا في انتظارك) ، أما جرأته على التجديد في المضمون فسأذكر لك مثالاً نعرفه جميعًا ولكنه يمر دون أن نلحظه، هل سمعت أغنية من قبل المتكلم فيها هو الله ذاته!! لقد فعلها بيرم في (القلب يعشق كل جميل) والتي تصور رحلة حجه:

طاوعني يا عبدي … طاوعني أنا وحدي
مالك حبيب غيري … قبلي ولا بعدي
أنا اللي أعطيتك من غير ما تتكلم
وانا اللي علمتك من غير ما تتعلم
واللي هديته إليك … لو تحسبه بإيديك
تشوف جمايلي عليك … من كل شيء أعظم
سلم لنا تسلم

هذا بخلاف نقده الاجتماعي الخلاق الذي لم يخلط أبدًا بين مقاومته للاحتلال الانجليزي ولفساد القصر، وبين إيمانه بالقيم الحداثية الغربية وترويجه لها طوال الوقت.

بيرم كان نجم النجوم، عمل مع الست وعبدالوهاب، كان بإمكانه أن يحافظ على مكانته ومكاسبه ككل من فعل بحجة شروط ومحددات السوق أو المجتمع، لكنه آثر انتهاج خط صديقه المقرب سيد درويش رغم أن هذا الأمر كلفه أن نفي لمرتين، وهذا هو الدرس الثاني والقاعدة الذهبية التي ضرب عليها مثالاًحيًا، ماذا يفيد الإنسان إن ربحت العالم كله وخسر نفسك في النهاية.

ماذا؟ لم أكتب عن عصام عبدالله؟ لا لقد كتبت عنه قبل عدة فقرات، ما لم أكتب عنه هو لماذا كتبت هذه المقالات بالعربية ولم أكتبها بالمصرية، سأحكي لك في الحلقة القادمة، وسأكمل الحديث عن فؤاد حداد، وسأذكر لك عصام عبدالله مرة أخرى، لا تقلق

الحلقات السابقة:

محمد أبو سالم: قصة موسيقى الآندرجراوند (5) غنام وربيع وعزيز

محمد أبو سالم: قصة موسيقى الأندرجرواند (4) تأثير حميد

محمد أبو سالم: قصة موسيقى الآندرجراوند (3) مرحلة أنجليكا

محمد أبو سالم: قصة موسيقى الآندرجراوند (2) طنبورة وجريتلي

محمد أبو سالم: قصة موسيقى الآندرجراوند..(1) البدايات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى