ترجماتثقافة و فن

محمد أبو سالم: قصة موسيقى الآندرجراوند (15): مغادرة سيد درويش

 

محمد أبو سالم: قصة موسيقى الآندرجراوند (الحلقة 15): مغادرة من سيد درويش

 

http://www.bizover.qadita.net/wp-content/uploads/2011/06/Wust+El+Balad+49.jpg

 

محمد أبو سالم

في الحلقة الأولى عندما شرعت في تعريف موسيقى الآندرجراوند آثرت الابتعاد عن مفهوم المحتوى، وأن أقصر التعريف على الاستقلالية عن شركات الإنتاج الربحية، وهذا في الحقيقة يجعل حلقاتنا عن فرق الموسيقى المستقلة وليس عن موسيقى الآندرجراوند بحسب التعريف الأمريكي، صحيح تمامًا طالما نصر على ألا نخرج من تحت مظلة (المركزية الأوروبية) والتي ورثتها الحضارة الأمريكية، على سبيل المثال، ظل الأوروبيون يدّعون أن المسرح فن أوروبي خالص لم يعرفه أي شعب آخر خارج القارة العجوز، وذلك لاعتمادهم تعريف أرسطو لفن المسرح، ولم يتزحزح هذا المفهوم إلا بعد تقديم المسرحي الألماني (برتولد بريخت) لنظرية جديدة في الثلاثينيات، وأعقبتها تجارب البرازيلي (أوجستو بوال) في الستينيات والصربية (ماريا إبراهيموفيتش) في السبعينيات وما صاحب هذه التجارب من حركة نقدية عظيمة غيرت تعريفات ومفاهيم كسرت هذه المركزية فأدت إلى القبول بأن كل شعب على وجه الأرض – حتى البدائي منها – له فنونه المسرحية منذ نشأته واستقراره.

darwish55

 

لماذا هذه البداية (ثقيلة الظل) ؟ لأنني أردت الكتابة اليوم عن دور ما تقدمه فرقة وسط البلد من محتوى في نجاحها، وليتم لنا ذلك ينبغي أن نتعرف على التجربة المصرية العريقة في كسر النمط السائد في الكلام أو الألحان والتي بدأت ب (سيد درويش اللي حيلتنا) على حد تعبير الشاعر أحمد فؤاد نجم ولم تنقطع أبدًا رغم الحرب الواعية أو غير الواعية عليها، والتي تجعل من مجرد الاستقلالية عن النمط الإنتاجي السائد يعني أن ما تقدمه هو ما يشبه موسيقى الآندرجراوند بالمفهوم الغربي، وهو ما قدمناه في حلقات سابقة، ولكن اليوم سنتحدث فقط عن التقاطعات مع ما قدمته وسط البلد والتي تعتبر هذه الإسهامات مرجعيتها الأولى.

 

بلغت شهرة سيد درويش الآفاق وهو في العشرينات من عمره، ولحن لأهم مطربين جيله، ولكن ما بقي في ذاكرتنا الجمعية هو ما غناه بنفسه أو ما غناه له من المطربين أصحاب الهم السياسي والاجتماعي كمنيرة المهدية، وفي هذه الأغاني القليلة قدم محتوى لم نعهده من قبل، من ناحية الموسيقى هو أول من قدم أساليب غربية ككتابة أكثر من خط في نفس الوقت، وقدم أغنيات من الفولكلور المصري والشامي بطريقته الخاصة، ولحن على السلم الخماسي النوبي الشهير، كل هذه الأشياء أولات تنسب له إذا جاز التعبير، ومن ناحية الموضوع فمشروعه في مقاومة الاحتلال البريطاني – والذي يتكهن البعض أنه قتل بسببه – لا يخفى على أحد، وغنى للفلاحين والعمال والمهمشين، ودافع عن حق تناول المخدرات وأنه لا يعني أن فاعله منعدم الفضائل، وكان أول من رفض التجنيد الإجباري في العالم على حد علمي في أغنيته (يا عزيز عيني)، بل وصل به الأمر لتخليد ذكرى العاهرات المصريات واللاتي كان لهن موقف وطني عندما قاطعوا الجنود البريطانيين في أغنيته الشهيرة (سالمة يا سلامة)، يمكنك ببساطة أن تعتبر سيد درويش المعلم الأول للكثير من الفرق المستقلة ومنها وسط البلد بالطبع.

 

أرجو ألا تتناول المقطع التالي على طريقة مشجعين كرة القدم، وأن تعتبره مجرد رأي، وهو كذلك بالفعل، بعد وفاة سيد درويش انقسم من تلاه من موسيقيين إلى فريقين، فريق يحمل شخصية محافظة بطبعه فلم يغير إلا في داخل القوالب المعهودة، مثل القصبجي ورياض السنباطي، وفريق انتهازي لم يكن ليغير بشكل يمكن أن يصطدم بالاحتلال أو السلطة أو الثوابت المجتمعية، وخير من يمثل هذا الفريق هما محمد عبدالوهاب موسيقار كل الأجيال وكل الأنظمة بالطبع، والسيدة أم كلثوم. الفريقان قدما الكثير من الخطوات في رحلة التطور في الحقيقة، ولكن بقيت إسهاماتهما داخل إطار (ما) بعكس سيد درويش، فلم يجروء أحدهما على تسمية النظام الحاكم ب (السلطة)، أو على الدفاع عن التعددية الثقافية في فترة المد القومي، أو حتى الإعلاء من شأن حضارتنا المصرية الشرق أوسطية في الفترة الناصرية، ولكن على مستوى الموسيقى فلا يمكن إغفال ما قدموه، القصبجي الذي قدم الفالس بصورة بديعة في رائعته (أنا قلبي دليلي)، تقديم السنباطي لأغنية شرقية في قالب سيمفوني بنفس حركاتها الأربع في تحفته الخالدة (الأطلال)، إدخال محمد عبدالوهاب للكثير من الآلات الغربية في الموسيقى الشرقية كالبانجو والماندولين والجيتار والبركشن ويقول البعض أنه من أدخل الكمان كذلك، كما أنه أكثر من قدم إيقاعات غير شرقية في ألحانه كالسامبا والرومبا والفوكس والتانجو، ومحمد فوزي الذي قدم أغنية ال (آكابيللا) في رائعته (طمني)، وهو شكل موسيقي كنسي إيطالي يعتمد على توزيع أدوار الآلات على مجموعة أصوات بشرية متباينة، كما قدم لأول مرة في الموسيقى الشرقية أغاني للأطفال، كذلك أول من تغنى بأسماء أشخاص بدون أي سياق درامي في رائعته (مصطفي)، حتى جاء بليغ حمدي وقدم تغييرًا في غاية الأهمية، بليغ بعبقريته الكبيرة اكتشف أن تغيير سرعة الإيقاع أو تغييره بالكامل يمكن توظيفه لإحداث نفس أثر تغيير المقام الموسيقي وربما أكثر، وكانت هذه لعبته المفضلة، ولكنه لعب ألعابًا أخرى كثيرة، فاستلهم روح أستاذ الجميع سيد درويش واقتفى أثر التراث الموسيقي المصري وأعاد تقديمه في الكثير من أعماله، كما أنه أول من أعطى دور البطولة للكورال في أغنية (خلاص مسافر) التي استغرق عامًا كاملاً للبحث عن هذه الأصوات وتدريبها ولم يستطع تقديم الأغنية سوى مرة واحدة لصعوبة إيجاد مثل هذه الخامات مرة ثانية، وأعاد التجربة مع اكتشافه الرائع المطرب علي الحجار في أول أعماله (على قد ما حبينا) ولكن هذه المرة أخذ الكورال دور البطولة في الكلمات فقط وليس في الموسيقى، إسهامات عبقرية وعظيمة داخل الإطار، وهو ما يجعلني لا أبالغ إن قلت أننا سنعرف قيمة إسهامات فرق الموسيقى المستقلة – حتى فرق المهرجانات – في تقديم شئ خارج كل ما هو متعارف عليه، ومع ذلك كان دومًا في اتجاه الجماهير، الجماهير الصامتة التي ليس لها صوت نقدي يحلل ويحترم اختياراتها، ولا يرضى عنها الإعلام المعتاد على ما هو نمطي و الذي يديره المعتادون النمطيون كاختيار سياسي لإبقاء الوضع على ما هو عليه.

 

وسط البلد هي أول فريق من فرق الموسيقى المستقلة يقدم كل ما سبق، فقبلها كانت الفرق إما تقدم فولكلور مصري أو شرقي بشكل ما كفرق الورشة والطنبورة وأنجليكا وأوتار وناس جديدة، أو تقدم موسيقى غربية كفرق اسود وابيض ورحالة وأوجريس وأحمد ربيع، أو تمزج بينهما كفرقة فتحي سلامة ويحيى خليل، ولكن وجود ثلاثة ملحنين أساسيين مختلفين الأذواق كهاني وعمران واسماعيل في وسط البلد، أدى لتنوع ما تقدمه الفرقة بشكل كبير، وحتى على مستوى الكلمات فشعراء وسط البلد لا يشتركون سوى في الجرأة الشديدة، لكن أساليبهم وموضوعاتهم شديدة الاختلاف.

 

قدمت الفرقة الفالس لأول مرة في الألفينيات في أغنية (تسمحيلي) للشاعر وليد عبدالمنعم، ولك أن تتصور أن ما قدمته الموسيقى الشرقية على هذا الإيقاع في القرن الماضي لا يتعدى العشرين أغنية أغلبها لأساطين التلحين كالقصبجي وعبدالوهاب والموجي، كما قدمت الجاز والبلوز والفلامنكو والفوكس في ألحان كلماتها مغرقة في المحلية على عكس ما قدمه العظيمان يحيى خليل وفتحي سلامة، غنوا لأشخاص كما فعل فوزي خارج الدراما  في أغنيات (فينوس) للشاعر حازم ويفي، و(عم مينا) للشاعر محمود رضوان، و(ماريا) للشاعر منتصر حجازي و(علي) للشاعر وليد عبدالمنعم، تنوعت اللهجات التي قدموها كما علمنا عصام عبدالله فقدموا اللهجة البدوية في (علي) والصعيدية في (لافت على غيري) لمنتصر حجازي، والعربية في (قل للمليحة) ، والمزج بين اللهجات كما في رائعة الشاعر ميدو زهير (عانقيني)، دافعوا عن الحريات في الكثير من الأغنيات مثل (مجنون) للشاعر إياد أبوبكر و(كل يوم) للشاعر وليد عبدالمنعم، في الواقع أن قدر التنوع الذي قدمته الفرقة كبير للغاية، سنكمل حديثنا عنه ونختم حديثنا عنها في الحلقة القادمة

الحلقات السابقة

الحلقة الأولى: البدايات

الحلقة الثانية: طنبورة وجريتلي

الحلقة الثالثة: مرحلة أنجليكا

الحلقة الرابعة: تأثير حميد

الحلقة الخامسة: غنام وربيع وعزيز

الحلقة السادسة: لغة الغريبين

الحلقة السابعة: بيانولا

الحلقة الثامنة: إنه ..عصام عبد الله

الحلقة التاسعة: يتبعهم الغاوون

الحلقة العاشرة: محمد نبيل ورفاقه

الحلقة 11: حواديت وسط البلد

الحلقة 12: “سعيد” وسط البلد

الحلقة 13: تالت حواديت وسط البلد

الحلقة 14: الأماكن كلها

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى