ترجماتثقافة و فن

فاريتي: فيلم “كفر ناحوم”.. حين يحاكم الطفل والديه

فيلم نادين لبكي “كان لابد أن يحصد جائزة في كان” 

اختارت “فاريتي” هذه الصورة من الفيلم، والتي توحي للمشاهد بمزيج من الخوف من الطفل والرثاء له

نشرت مجلة “فاريتي” الفنية الشهيرة مراجعة للفيلم اللبناني “كفر ناحوم” للمخرجة نادين لبكي، المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان “كان” السينمائي الدولي في دورته الحادية والسبعين لهذا العام، والذي فاز بجائزة لجنة التحكيم قبل يومين.

الفيلم استلهم اسمه من مدينة “كفر ناحوم” شمال فلسطين، والتي توصف بالمدينة المقدسة ومدينة المسيح لما تضمه من معالم بارزة تتعلق بالمسيحية، منها دير ألقى فيه النبي عيسى “عظة الجبل” التي تشكل ثلاث فصول كاملة من إنجيل متى؛ وكأنما يشهِد الفيلم المسيح على ما آلت إليه حال المناطق الفقيرة بمختلف الدول العربية.

إليكم نص المقال.

كتب – جاي ويسبرج

لا شيء في أول فيلمين روائيين لنادين لبكي “كراميل” و”هلأ لوين”، واللذان لم يتسما بالتناغم بما يكفي، يقارب القوة والمهارة في فيلم “كفر ناحوم” الذي مثّل طفرة رئيسية على جميع الأصعدة. هنا تثبت نادين نفسها كمخرجة تحقق إنجازات مذهلة بممثلين غير محترفين وقصّاص متزن، لافتةً الانتباه إلى المأزق الذي يعيشه الأطفال في الأحياء الفقرية ببيروت، والمأزق الدرامي الكافكاوي لمن لا يحملون بطاقات هوية. هو فيلم يناقش مشكلة بلا جدال؛ لكنه يعالج هذه المشكلة بعقل مدرك وقلب مرهف.

فوز الفيلم بجوائز كان أمرًا محتوم على الأرجح، ليس فقط لأن لجنة التحكيم قد تكون أكثر ميلًا إلى منح جوائز للمخرجات في تلك المرحلة من تاريخ المهرجان. ولا عجب في أن شركة “سوني بيكتشرز كلاسيكس” قد اشترت الفيلم في سوق مهرجان “كان” لتوزيعه في الولايات المتحدة الأمريكية، فهو فيلم لبناني سيشكّل بلا شك صفقة هامة في دور عرض الأفلام ذات القيمة الفنية في أنحاء البلاد.

تلجأ نادين إلى حيلة المحاكمة في بناء فيلمها، رغم أنه ليس فيلمًا قضائيًا يدور في ساحات المحاكم، وتُبقي هذه المشاهد في حدها الأدنى. لا يمكن إنكار أن القضية ربما لا يمكن طرحها إلا في السينما، حيث البطل زين (زين الرافعي) – الذي يقضي عقوبة السجن لمدة 5 سنوات نتيجة طعنه شخصًا ما – يحاكم والديه لأنهما أتيا به إلى الحياة.

يظهر البطل في عمر الثانية عشرة تقريبًا، وإن كان أهله لا يعرفون عمره بدقة ولم يمتلكوا شهادة ميلاد له يومًا. يبدو الطفل كنسخة مصغرة من الممثل الأمريكي جيمس دين، مشاعره تغلي بقوة وينتابه استياء مشروع، ويلقي أحدهم نظرة خاطفة على حياته في منزله المفعم بالمشكلات، ومن السهل أن نفهم السبب وراء هذه النظرة.

يعيش زين مع والديه سعاد (كوثر الحداد) وسليم (فادي كامل يوسف) وعدد غير محدد من الأشقاء، في شقة تتسم بقذارة فوضوية، نراها للمرة الأولى حين يطحن أفراد الأسرة موادًا أفيونية وصفها الطبيب في المياه، ويغسلون ملابس في هذا المحلول، لتمريرها إلى الأخ الأكبر لزين وهو سجين أيضًا يحقق مكاسب جيدة داخل السجن من بيع المخدرات المُعاد تشكيلها.

يُجبَر الأطفال على العمل كباعة متجولين لبعض الأشياء في الشوارع، أو – كما في حالة زين – العمل في متجر مناسب شخص غامض هو أسد (نور الحسيني) المعجب بسحر (سيدرا عزام) ذات الأعوام الإحدى عشرة.

بذلت نادين عملًا فائقًا في التقاط أوجه التنافر في الشوارع، عبر مزيج من الحركات العصبية للكاميرا والتحرير البارع للصورة وتعدد الأصوات، فيما أبقت الكاميرا بشكل عام أسفل رأس الصبي أو فوقه بقليل. لم يستطع زين أن ينقذ سحر من أن يبيعها أهلها لأسد، فظل يركض سريعًا في حديقة للهو حيث يعقد صداقة مع رحيل (يوردانو شيفيرو)، وهي عاملة نظافة إثيوبية تعيش في لبنان بشكل غير قانوني ودون أوراق رسمية.

تواجه رحيل مشكلات إن أخفت رضيعها البديع يوناس (بولوواتيف تريشور بانكول) في العمل، لذا تبدو لها رغبة زين في أداء دور جليس للطفل اكتشافًا رائعًا. لكن، حين تختفي رحيل، يصبح على زين أن يعتني بنفسه وبالرضيع.

فكرة أن يأخذ طفل أهله إلى المحكمة لأنهم أنجبوه في عالم بشع كهذا تبدو إسقاطًا متلاعبًا، لكن “كفر ناحوم” سرعان ما يتحول إلى الواقعية المجردة، وحتى في مشاهد المحاكمة المختصرة تتجنب لبكي بشكل عام المزايدات المعتادة (هنا تظهر لبكي، التي عُرفت كممثلة قبل أن تكون مخرجة، كمحامية للطفل).

واتباعًا للتقاليد الصارمة في الأعمال الدرامية العظيمة التي تتناول “غلمان الشوارع”، يقدم الفيلم قدرًا معتبرًا من التركيز على محيط الطفل، مُعليًا في المقام الأول تكافل الأطفال بعضهم مع بعض (علاقة زين بسحر بشكل خاص صُوِّرت ببراعة) بينما يكافحون للبقاء على قيد الحياة في جحيم صنعه الكبار. وخشيةً من وجود أي اقتراح أحمق بأن النص لم يمرر حكمًا معينًا، نوضح أن الأبوين ظهرا مخطئين بما لا مجال للشك فيه، واعتراضاتهم القائمة على أنهم لم يعرفوا حلًا أفضل من ذلك لأنهم تربوا بنفس الطريقة بدت خاطئة.

رغم أن بعض التهذيب للقصة كان ليفيد، لا سيما في الربع الأخير من الفيلم، فإن الإيقاع العام يدعم الزخم العاطفي. لحظات الفكاهة، مثل المشهد العظيم الذي تتلقى فيه رحيل العون في مكتب موثّق عقاري من شخصين غريبيْ الأطوار من كبار السن، تقدم التوازن المطلوب بالضبط مع الشعور العام التلقائي بالرثاء والشفقة. تُنسب كتابة النص إلى خمسة أشخاص، لكن النص ظل على تماسكه، وقدمت أجزاء معينة من الحوار – مثل النهاية – “لكمة” أصيلة زادتها نادين قوة بتجنبها اختلاق ذروة درامية زائفة.

معظم الممثلين أدّوا ادوارًا لا تبعُد كثيرًا عن طبيعة حيواتهم، واستحقت المديرة المسؤولة عن اختيار الشخصيات جنيفر حداد أن تحصد مجدًا خاصًا جزاء جمعها مجموعة استثنائية كهذه من الأشخاص سيطرت شخصياتهم القوية وهدوئهم أمام الكاميرا على انتباه المشاهد دون سقطات.

بدا الرفاعي الصغير ملهمًا في  دور زين المتبجح بذيء اللسان، جامعًا بين السمات الضرورية لشخص حساس مجروح مع مرونة رجل مخضرم لم تبدُ مبتذلة أبدًا. قدرته على حمل المسؤولية الرئيسية في الفيلم، والتي بدت أمرًا هينًا عليه، لم تنتقص من العمل النفيس الذي بذلته بقية فريق عمل الفيلم؛ لا سيما يودرانو التي قدمت أداءً طبيعيًا بشكل ملحوظ في دور صعب.

من الناحية البصرية، يُعتبر “كفر ناحوم” أكثر تعقيدًا من الأعمال السابقة لنادين بشكل ملحوظ، وبالتأكيد أكثر شجاعة. التتابعات التي تقترب فيها الكاميرا من طول زين تسمح بلمحة من الذاتية، دون اعتماد متساهل على اللقطات الشخصانية (التي تلتقط فيها الكاميرا المشهد من وجهة نظر البطل). المصور الصاعد كريستوفر عون أثبت همته بمجموعة من المشاهد القوية، مثل تصويره لتلك اللحظة التي يحاول فيها زين منع أبويه من بيع سحر مقابل بضع دجاجات.

إدارة الصورة كانت بارعة أيضًا، والتون المنخفض الذي اعتمد عليه خالد مزنر في الموسيقى تناغم بشكل مثالي مع المغزى العاطفي للفيلم، ليتضافرا مع الحركة الخالية من التلاعب في معظم مشاهد الفيلم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى