سياسةمجتمع

فورين بوليسي: شيعي يبحث عن الله في المملكة الوهابية

فورين بوليسي: شيعي يبحث عن الله في المملكة الوهابية

فورين بوليسي – خاص

– إعداد وترجمة: محمد الصباغ

في الصورة أشهر الأماكن على وجه الأرض، دوامة من الحجاج، الآلاف والآلاف يلتفون بالأبيض، يدورون ببطئء في دوائر حول مكعب أسود مذهب. أقدس الأماكن الإسلامية، الكعبة، والمسجد المحيط بها، أسر المكان عقول المسلمين وغير المسلمين على حد سواء لأكثر من ألفية. المكان  رمز للوحدة الروحانية حول العالم، فجميع المسلمين حول العالم يتجهون في صلاتهم نحوه.

لكن الصور ربما تكون كاذبة. فالصلاة كمسلم شيعي في مركز الروحانية الإسلامي مثل حضور أحد اعضاء الكنائس المعمدانية الجنوبية لقداس كاثوليكي. أو ربما هذه الأيام، مثل حضور بروتستانتي لقداس كاثوليكي بالفاتيكان خلال معاداة الإصلاح.

أديت مناسك الحج منذ أسبوع بعدما أعدمت الحكومة السعودية الداعية والمعارض الشيعي نمر النمر. أعقب إعدامه مظاهرات عارمة في المجتمعات الشيعية حول العالم، وهوجمت السفارة السعودية في طهران، مما جعل المملكة تقطع كل العلاقات الدبلوماسية مع إيران.

كصحفي سافر بتأشيرة حج، بالطبع كان لدي بعض المخاوف قبل مغادرتي. علمت أن الكتابة عن تجربتي هنا قد يتسبب في منعي أو عائلتي من العودة إلى المكان مرة اخرى، أو أسوأ من ذلك. اعتقلت السعودية وسجنت وحتى اعدمت كتاباً انتقدوا سياساتها أو نهجها الديني بالمنطقة. علمت ذلك، كشيعي وبإسم إيراني على جواز سفري، ربما اخترت الوقت الأسوأ للذهاب.

الدين في المملكة السعودية يعتمد في تأصيله على المذهب السني الوهابي. ويؤكد على التقيد الاجتماعي والقانوني الصارم بالثوابت الدينية ويعرف بعض الانحرافات عن ثوابته بالردة، الجريمة التي قد تصل عقوبتها إلى الموت. ويسمي الدعاة الدينيين في السعودية تبجيل الشيعة لأئمتهم بالشرك، الأسوأ في الإسلام. ويتعرض السكان الشيعة في السعودية -15%- إلى مساوئ، ويمنعون من تقلد مناصب حكومية أو عسكرية عليا.

يزعم آل سعود أن المعتقدات الدينية لم تؤثر أبداً على واجبهم تجاه الحجاج في مكة. ومن المعروف أن الصراعات السنية الشيعية ليست بالشئ الجديد على منطقة الشرق الأوسط. لكن عندما تزداد الانقسامات الدينية في المنطقة، وعندما يتحول التنافس والطموح الجيوسياسي إلى صراع عسكري، يشعر بهذه التوترات المسلمون الشيعة في السعودية- من بينهم الحجاج في مكة والمدينة.

تلك التوترات أدت في أوقات كثيرة إلى العنف والتمييز ضد الحجاج. والحادث الأكثر شهرة كان في عام 1987 أثناء الحج، عندما وقعت مواجهة بين حجاج إيرانيين والشرطة السعودية وسقط 400 قتيل. ومنذ ذلك الحين شهدت المملكة حوادث أقل خطورة. في عام 2009، بمقابر البقيع في المدينة حيث يرقد أربعة من القادة الشيعة، المعروفون بالأئمة، هاجمت الشرطة السعودية مجموعة كبيرة من الحجاج الشيعة. وفي 2013، حينما كانت تؤدي مجموعة من الامريكيين الشيعية مراسم الحج، زعموا أن مجموعة من المسلمين السنة من أستراليا قد اعتدوا عليهم وأن السلطات السعودية تجاهلت شكواهم.

خلال بقائي في مكة والمدينة، لم أقابل أي إيراني آخر. ومنذ أول صباح لي في المدينة حيث المسجد النبوي، تعرض إخلاصي الديني للهزيمة. كان من المستحيل أن أصلي أمام المسلمين السنة، حيث صلاة السيعة مختلفة. يقولون ”آمين“ في أوقات مختلفة. يمس السنة سجاد الصلاة بجياههم أثناء السجود أما الشيعة فلا، جباههم تلامس حجراً صغيراً أو تربة. يدل ذلك على الخضوع، نعلم أننا جئنا من تراب وسنعود إليه، لكن الوهابيين يعتبرون ذلك نوعاً من الشرك، وتمنع السلطات السعودية الشيعة من إدخال الحجر الصغير إلى الأماكن المقدسة.

وفي المسجد النبوي، كنت وحيداً في بحر ممن يقولون ”آمين“. هذا الشعور أعرفه جيداً، شعور معروف للمسلمين من أي طائفة حين يعيشون في أوروبا أو الولايات المتحدة في أعقاب حادث إرهابي. ارتفاع درجة الإسلاموفوبيا تجبرنا على أن نوجه لأنفسنا سؤالاً، ”هل أخرج مرتدياً زياً إسلامياً؟ في الحفلات، هل أتظاهر بأنني أشرب الكحوليات مثلهم؟

لكنني لم أتخيل أبداً أن يدور هذا الحوار بداخلي وأنا في المكان الذي شهد ميلاد الإسلام. قضيت أسابيع قبل الرحلة أتسائل عما سأفكر فيه حينما أكون بهذا القرب من قبر محمد، وأصلي في المسجد الذي أسسه بالمدينة التي رحبت به بعد اضطهاده في مكة. هل سأشعر بتقرب جديد إلى الله؟ لكن الآن، وأنا محاط بالآلاف، ومع التقارير الإعلامية التي تدور مرة أخرى في رأسي، قررت وضع يداي على صدري –كما يصلي السنة- وبدلاً من الشعور بالخوف، شعرت بالخزي.

في اليوم التالي، قررنا التوجه إلى مكان عبادة قد نشعر فيه بأننا في الوطن- أقرب شئ للمساجد الشيعيى بالمدينة.

نظرت بعضبية إلى سيارة الشرطة التي تبعد 50 ياردة عن مدخل مزرعة للتمر. مجموعة منا وقفوا كصفين رجال ونساء. أحد الأشخاص في المجموعة بدأ يطرق على البوابات الخشبية الثقيلة، طالباً السماح لنا بالدخول.

لم يكن المكان مجرد مزرعة للتمر. هنا خلف بوابة طويلة، وحائط أسمنتي، وفدان من النخل، عقد الشيعة الاوائل اجتماعهم التاريخي، وقاعة الاجتماع هنا -كالعديد من الأماكن الشيعية المنتشرة بالمدينة- ليست مسجداً بالمعنى المعروف، أي لا تعترف به الحكومة السعودية.

من الصعب الوصول إلى المواقع الشيعية بسهولة، حاولنا استخدام خدمة سيارات الاجرة –أوبر- والتي استخدمناها لزيارة الأماكن المعروفة كستار بكس وماكدونالدز. لكننا لم نستطع تحديد العناوين التي نريدها على تطبيق الخرائط. فالبحث الالكتروني بالإنجليزية أو الفارسية يقدم القليل حول هذا العنوان، أو موقع معين، أو حتى الإسم الصحيح. توجب علينا إطلاق اسم مسجد القربان عليه نسبة إلى الضاحية التي يقع بها –قربان.

لحسن الحظ، كان الداعية في الفندق، مسلم فلبيني يدعى عبداللطيف، كان يعرف مكاناً شيعياً للعبادة وهو مزرعة الشيخ عمرو، وعرض علينا المساعدة. ونصحنا بإحضار جوازات سفرنا معنا، فربما ييكون هناك نقاط تفتيش في الطريق، لأنها هناك بعض ”المشاكل“.

ذهب عبداللطيف إلى الخارج ليوقف تاكسي. شاهدته يترك العديد منهم حتى أوقف سيارة. شرح الأمر قائلاً: ”أبحث عن سائق أجنبي. لأن السعوديين كما تعلم….“ وجد سائق باكستاني يعرف المكان ووافق على اصطحابنا مقابل 20 ريال.

بدا أن مرزعة الشيخ عمرو مغلقة، تقع على بعد ميل ونصف جنوب غرب المسجد النبوي، في ضاحية سكنية هادئة مليئة بالمباني السكنية المكونة من 3 طوابق. وصلنا قبل موعد الصلاة بساعة تقريباً، فقمنا بجولة حول المزرعة. عند عودتنا كان قد تجمع بعض المصلين- بجوارهم سيارة للشرطة. الآن، نحن أمام أسوار المزرعة  تحت أعين السلطات، لا نعلم ما إذا كان سيسمح لنا بالدخول، بدأت أتسائل عما إذا كان دخولنا فكرة سيئة. في النهاية فتحت البوابات ودخلنا.

بالرغم من تواجد عشرات الآلاف في الأماكن المقدسة بالمدينة، لم أر علامة على وجود تفتيش أمني خارج مطار السعودية، ليس إلا الكشف عن الحقيبة. يبدو أن الأمن العام نادراً ما يكون من الأولويات العليا للسلطات السعودية. لكن هؤلاء الأشخاص في دار العبادة الصغير، وهم بضع مئات، شعرت السلطات بشئ مختلف حيالهم. نظموا فريق البحث، وفتشوا كل قادم جديد وفحصوا الهواتف للتأكد من أنها حقيقية وليست جهازاً آخر غير مألوف.

عبرت التفتيش دون مشاكلن لكن اكتشفوا حقيبة صغيرة مع أحد الأشخاص بها أموال وجواز سفره ، ثم تردد رجل الأمن في السماح له بالدخول حتى رأى جواز سفره الإيراني. قال له :”ما شاء الله!!“. ثم أشار له بالمرور.

المبنى قائم خلف بستان من النخيل. واللافتات من القماش المطرز تمجد الأئمة الشيعة الأربعةن وتغطي الجدران من الداخل. بدا كما لو كنت قد خطوت إلى مسجد إيراني. ومع خلع حذائي وبدء الصلاة شعرت بالراحة. بدأ كل من حولي في إخراج حجارة ليضعوها على الشجاد ويصلون عليها، أما أنا فأخذت حجر صغير من الجدار. وعلى العكس من النساء السعوديات السنة اللاتي يرتدين النقاب، كشفت النساء عن وجوههن، كتقليد شيعي مطلوب، وارتدين الشادور.

تلك التغيرات البسيطة حولت القاعة من مكان ملئ بالغرباء لا أشاركهم حتى اللغة إلى مكان دافئ ومألوف. عندما بدأت الصلاة، علت متى أقف، ومتى انحني وماذا أقول. وضعت يدى بجانبي دون –ليس على صدري- دون خوف. لمست جبعتي الحجر الصغير البارد. وشكرت الله.

حاولت الحفاظ على هذا الدفئ عند سفري إلى مكة بعد عدة أيام لاستكمال مناسك الحج بالمسجد الحرام. في تلك الشعائر أيضاً، كان هناك تمييز مستمر وواضح ضد الشيعة. فأثناء الطواف حول الكعبة، يرفع السنة أيديهم لأعلى في كل مرة عند عبورهم أمام الزاوية التي بها الحجر الأسود ويهتفون ”الله أكبر“، لكن الشيعة لا يفعلون ذلك. يجب أن نبقي وجوهنا إلى الأمام دائماً، لا ننظر إلى اليمين أو إلى اليسار، ولا خلفنا. ومع دوران الحجاج حول الكعبة، يكون واضحاً من ينتمي إلى الإقلية.

في المساء، من بين عشرات الآلاف، حدقت بشدة إلى بيت الرب. البناء الأصلي ،وفقاً لما قرأت، كان في طول رجل وبلا سقف. لم يمتلك إبراهيم ذهباً ليزين الكعبة به، وبالطبع لك يكن مغطى بقماش لحمايته من جميع العوامل الجوية. البناء الأصلي للكعبة كان بسيطاً، ومتواضعاً، وسبقنا جميعاً –السنة والشيعة، والوهابيين، والأحمديين والإسماعيليين وكل الطوائف الأخرى التي ننقسم إليها اليوم.

عندما أذن الإمام للصلاة، أبقيت يداي بجانبي.

وفي الرحلة إلى الوطن، إلى الولايات المتحدة الامريكية، شعرت بأنني أكثر سلاماً. لكن السبب لم يكن لانني مررت بهذا النوع من الرحلة الروحية. فاللحظات الروحانية في السعودية كان أثرها عابراً وطغى عليها في الأغلب الاشتباه الذي قوبلت به من الآخرين، وبسبب الخوف الداخلي الذي شعرت به.

ما اعطاني سلاماً نفسياً هو إدراكي بأنني أتوجه غلى دولة حيث حرية العبادة مكفولة بالدستور، حيث الشيعة والسنة والمسيحيين واليهود والبوذيين لا يستطيعون التعبد بحرية فقط ، بل في بعض الاحيان يتعبدون سوياً وبعقل متفتح، ويتعلمون من نهج الآخرين إلى الإيمان. شعرت بالخزي من إخفاء هويتي الشيعية -لكن هذا الخزي ليس بسببي، لكن بفعل السلطات السعودية. هم من جعلوا الامر صعب جداً على الحجاج المسلمين رؤية الرب، من خلال انعدام الثقة والمحلات بلا روح التي أحاطت بالكعبة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى