سياسة

فورين افيرز: ما سر استقرار نظام السيسي؟

اريك تراجر: مصر الآن أشد استقرارا رغم التحديات الأمنية

اريك تراجر – فورين افيرز – يولية 2015

الترجمة العربية من معهد واشنطن

تميّز العامان الماضيان بكونهما أشد الأعوام عنفاً وقمعاً في تاريخ مصر المعاصر. فمنذ أن رد الجيش المصري على الاحتجاجات الحاشدة عبر الإطاحة بمحمد مرسي – أول رئيس منتخب من «الإخوان المسلمين»، في تموز/يوليو 2013، لقي ما لا يقل عن 1800 مدنياً و700 من أفراد الأمن حتفهم، وتم سجن عشرات الآلاف من المواطنين، وفُرضت قيود شديدة على وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني والنشاطات الاحتجاجية. ومن المؤسف أن هذا الوضع سيأخذ في التدهور. فبعد اغتيال النائب العام المصري [هشام بركات] في 29 حزيران/يونيو، حمّل الرئيس عبد الفتاح السيسى جماعة «الإخوان» مسؤولية قتله وتعهد بشن حملة ضد «الجماعة» تكون أكثر قسوة من أي وقت مضى، وتشمل تمرير قوانين أكثر صرامة لضمان تنفيذ أحكام الإعدام بعناصر «الإخوان» الذين حُكم عليهم بالإعدام بشكل عاجل. ورداً على ذلك، أيدت «الجماعة» التصاعد المفاجئ في الهجمات على البنية التحتية بما فيها أبراج الكهرباء. ومن جهتهم، أطلق الجهاديون التابعون لـ تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية») جولة جديدة من الهجمات، بما فيها تفجيرات 1 تموز/يوليو في شمال سيناء التي قُتل فيها العشرات من الجنود، والهجوم الأخير على القنصلية الإيطالية في القاهرة.

لكن على الرغم من هذه النظرة القاتمة من الناحية الأمنية، تُعتبر مصر مستقرة من الناحية السياسية أكثر مما كانت عليه منذ سنوات. فعلى عكس الأنظمة المنقسمة التي انهارت حيال الاحتجاجات الواسعة في كانون الثاني/يناير 2011 وحزيران/يونيو 2013، فإن نظام السيسي متماسك داخلياً. ومن المرجح أن تبقى مختلف مؤسسات الدولة والجماعات المدنية التي تشكل النظام، متراصة بإحكام لسبب أساسي واحد وهو: أنها تنظر إلى جماعة «الإخوان» كونها تشكل تهديداً كبيراً على مصالحها الخاصة، وبالتالي ترى أن حملة النظام ضد «الإخوان» ضرورية من أجل بقائها. بالإضافة إلى ذلك، إن الوحدة الداخلية لنظام السيسي، كما يراها الكثير من المصريين وربما معظمهم، هي الأمر الوحيد الذي يمنع البلاد من الانزلاق نحو دوامة الفوضى التي قد تنتج عن انعدام الولاية – تلك التي اجتاحت بلدان “الربيع العربي” الأخرى، وحتى هم يفضلون بشدة نظاماً قمعياً وغير كفؤ بدرجة ما على ما يعتبرونه بديلاً أسوأ منه بكثير. وحتى في الوقت الذي يصبح فيه الأمن الداخلي في مصر أكثر ضعفاً، إلا أنه يمكن الحفاظ على الوضع القائم، لأن تغييراً للنظام يبدو بعيداً جداً على المدى القريب.

ويقيناً، إن طول بقاء نظام السيسي بالكاد يعني أن السيسي نفسه باق. فهو يواجه، على أقل تقدير، خطراً كبيراً لتعرضه للاغتيال. فالمصريون يتحدثون عن الموضوع بكل صراحة لدرجة أنه توجب على السيسي التطرق إلى المسألة خلال مقابلة أجراها قبل انتخابه في العام الماضي، حيث اعترف باكتشاف محاولتين لاغتياله في الأشهر التي تلت الإطاحة بمرسي. وهذا التهديد لم يتبدد: فـ «الإخوان المسلمون» يدعون صراحة إلى موت السيسي، كما وأن الجماعة الجهادية «أجناد مصر» زرعت قنابل خارج القصر الرئاسي في حزيران/يونيو الماضي، بعد أسابيع فقط من تولي السيسي السلطة. وبالتالي، يقيم الرئيس المصري في مكان سري، وهو تحوُّل حاد من النهج الذي اتُبع في البروتوكول الذي سار عليه إولئك الذين سبقوه في الرئاسة، والذين كانت أماكن إقامتهم محمية بشكل جيد إلا أنها لم تكن من أسرار الدولة.

لكن بقاء النظام لا يعتمد على طول أمد حكم السيسي. فعلى الرغم من أن النظام غالباً ما يقدم السيسي باعتباره رجلاً “قوياً” يشبه الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر، إلا أن التفكير به بصورة أكثر دقة هي أنه مدير تنفيذي لتحالف غير مترابط من المؤسسات وأصحاب المصالح الذين دعموا الإطاحة بمرسي عام 2013، وأيدوا ترشيح السيسي للانتخابات الرئاسية عام 2014، ويشكلون الآن نظامه. ويضم هذا التحالف عدداً من مؤسسات الدولة مثل الجيش والاستخبارات والشرطة والقضاء، وكذلك كيانات غير حكومية تشكل ملحقات الدولة في الريف، مثل العشائر القوية في دلتا النيل والقبائل في صعيد مصر. كما يلقى النظام دعماً حاسماً من قطاع رجال الأعمال ووسائل الإعلام الخاصة، والذين أدوا دوراً بارزاً في حشد الجماهير ضد مرسي قبل عامين. وعلى الرغم من حالة عدم اليقين السياسي والعنف الشديد الذي أعقب الإطاحة بمرسي، فإن مراكز القوة موضع البحث ظلت موحدة لأكثر من عامين وحتى يومنا هذا لسبب رئيسي واحد: أنها تشترك في مصلحة تدمير «الإخوان المسلمين» الذين كانوا يهددون مصالحها بشكل كبير، أثناء حكم مرسي الذي دام 369 يوماً. `

كيفية ربح الأعداء وتنفير الناس

غالباً ما يرى المدافعون عن «الإخوان المسلمين»، أن «الجماعة» [تؤمن] بـ “التدرج” في تحقيق أهدافها، أي تسعى إلى تطبيق أجندتها الإسلامية من خلال السياسة الرسمية، على عكس الجماعات الإرهابية مثل تنظيمي «داعش» و«القاعدة». إلا أنه لم يظهر “تدرج” في محاولة «الإخوان» محاربة مراكز القوة موضع البحث، باستثناء العمل معها أو التعاون معها بعد فوز مرسي في الانتخابات الرئاسية عام 2012. فقد سعى مرسي إلى تقويض السلطة القضائية من خلال المرسوم الذي أصدره في تشرين الثاني/نوفمبر 2012 والذي وضع المراسيم التي تصدر من قبله فوق التدقيق القضائي، كما أن مجلس الشعب الذي هيمن عليه «الإخوان» حاول إحالة أكثر من 3000 قاضٍ للتقاعد من خلال تشريع جديد. بالإضافة إلى ذلك، استخدمت «الجماعة» نفوذها في عملية صياغة الدستور في أواخر عام 2012 لمنع جميع أعضاء البرلمان الذين ينتمون إلى حزب الرئيس السابق حسني مبارك من المشاركة في الانتخابات لمدة عشرة أعوام، الأمر الذي استبعد فعلياً العشائر والقبائل الريفية التي تشكل مراكز السلطة الرئيسية في الريف، والتي غالباً ما أصبح قادتها أعضاء في البرلمان في عهد مبارك. وبشكل مماثل، حاول «الإخوان» تهميش قطاع رجال الأعمال من خلال إنشاء منظمة أعمال [لمؤسساتهم] الخاصة، التي كان قادتها يرافقون مرسي في رحلاته الخارجية.

وفي الوقت نفسه، ومع زيادة النقد لِحُكم مرسي الاستبدادي وغير الكفء من قبل وسائل الإعلام في أوائل عام 2013، حمل «الإخوان» في تجمعاتهم ملصقات لمذيعي التلفزيون – والمشانق تلف رؤوسهم – متعهدين بـ “تطهير” وسائل الإعلام. وعلى نفس المنوال، فإن دعوة قادة «الإخوان» إلى “إعادة هيكلة وإصلاح” وزارة الداخلية قد أثارت قلق الشرطة المصرية ودفعت بالعديد من الضباط إلى المشاركة في الانتفاضة ضد مرسي وهم يرتدون زيهم الرسمي. وعلى الرغم من أن مرسي حاول التقرب من الجيش من خلال االحفاظ على استقلاليته في مسائل الأمن القومي والشؤون الداخلية الخاصة به، إلا أنه قوّض هذا الترتيب من خلال تصريحاته العدائية المتعلقة بالسياسة الخارجية خلال الشهر الأخير من فترة حكمه. وفي الواقع، من وجهة نظر كبار قادة الجيش، استولى مرسي على مسؤوليات الجيش في مجال الأمن القومي عندما أعلن أن “جميع الخيارات مفتوحة” ضد بناء إثيوبيا لسد [النهضة على نهر] النيل ثم أيّد الجهاد السوري في اجتماع حاشد في استاد القاهرة إلى جانب مجموعة من رجال الدين السلفيين المتطرفين في منتصف حزيران/يونيو عام 2013.

وبطبيعة الحال، إن تقارب هذه المؤسسات وأصحاب المصالح ليس بالجديد، بل يعود إلى عهد مبارك. ولكنهم لم يكنوا يوماً بهذا القرب. ففي عهد مبارك، على سبيل المثال، نظر الجيش إلى وزارة الداخلية كونها منافساً له، وهو السبب الذي دعا كبار الضباط إلى الوقوف جانباً عندما انهارت قوات الشرطة خلال الأيام الأولى من الانتفاضة عام 2011. وبالمثل، فإن بعض وسائل الإعلام الخاصة الأكثر شعبية نشرت الانتهاكات التي مارستها الشرطة في عهد مبارك وكانت من أشد منتقدي النظام العسكري الذي حكم مصر لمدة 16 شهراً بعد الإطاحة بمبارك. كما وبرزت أيضاً انقسامات داخل مراكز القوة موضع البحث، مثل الخلاف بين القيادة العسكرية المتقادمة في السن والضباط الأصغر سناً، ذلك الخلاف الذي قام مرسي بإصلاحه في آب/أغسطس 2012، عندما طرد كبار قادة الجيش وعيّن السيسي وزيراً للدفاع.

لكن التوترات في صفوف النظام لم تتلاشى تماماً – بطبيعة الحال، كما أشار مايكل حنا من “مؤسسة القرن الجديد” (“سينتشري فاونديشن” (Century Foundation في تقرير صدر مؤخراً. وقد ظهر ذلك من خلال التسريبات الهاتفية الأخيرة للمكالمات التي أجراها كبار المسؤولين العسكريين، والانتقادات الناشئة لوسائل الإعلام ضد وزارة الداخلية، والكراهية المطلقة للمؤسسة الأمنية تجاه قائد القوات الجوية السابق والمرشح الرئاسي أحمد شفيق، وكلها إشارات تُظهر انقساماً داخل النخبة الحاكمة. ولكن في كل حالة من الحالات حتى الآن، تبددت التوترات بسرعة، ذلك لأن مكونات النظام المختلفة أصبحت في النهاية أكثر توحداً في هدفها تدمير «الإخوان المسلمين»، من انقسامها بسبب أي عامل آخر.

أما إذا لم تُدمَّر «الجماعة»، فهم يخشون أن يعاود «الإخوان» الظهور ويحاولون الانتقام لمئات من «الإخوان المسلمين» الذين قتلوا خلال العامين الماضيين، وهو ما تعهدت أن تفعله «الجماعة» في الحقيقة. وفي الواقع، وكما أخبرني العديد من قادة «الإخوان»، تسعى «الجماعة» إلى التحري [عما قام به] أولئك الذين شاركوا في حملة القمع الحالية التي شنها النظام ضد [عناصر من] «الإخوان» ومحاكمتهم وربما إعدامهم. لذا فبالنسبة لمكونات النظام ومراكز القوة، فإن نجاح حملة القمع ضد «الإخوان» هو مسألة حياة أو موت.

متحدون في الخوف والبغض

نتيجة لتركيز النظام القائم على أحادية التفكير تجاه «الإخوان المسلمين»، يتمتع الرئيس السيسي بمساحة أوسع بكثير لإصدار المراسيم وتعزيز صلاحياته القانونية من تلك التي تمتع بها مرسي في أي وقت مضى. فالقانون الجديد الذي يمنح السيسي الحق في عزل مسؤولي وكالات الرقابة المصرية المستقلة الأربع في مصر يشكل مثالاً على ذلك. إذ أن سيطرة مرسي على العديد من السلطات أثارت الاحتجاجات التي أدت إلى إنهاء حكمه، بيد أن مناورة السيسي مرت في ظل شبه انعدام لأي معارضة.

وهناك أسباباً كثيرة تدعو إلى الشك في قدرة النظام على النجاح في إدارة الحكم – ذلك النظام الذي يضع نصب عينيه تدمير «الإخوان المسلمين». ففي النهاية، لا يمكن أبداً لنظام ينفق الكثير من رأسماله السياسي على منع منظمة واحدة، أن يكون شاملاً على الصعيد السياسي. كما أن إصرار النظام على أن جماعة «الإخوان» تقف وراء كل حادث إرهابي، بما في ذلك أشد الهجمات حدة والتي تبنّت الجماعات التي تدور في فلك تنظيم «الدولة الإسلامية» مسؤوليتها عنها، يعني أنه مستمراً في عدم التعامل مع التهديدات التي يواجهها بطريقة واقعية. بالإضافة إلى ذلك أن القمع الواسع الذي يقوم به النظام باسم مكافحة الإرهاب، والذي اجتاح الناشطين والصحفيين الذين دعموا بقوة الإطاحة بمرسي، يخلق أعداء جدد، وربما يزرع البذور لقيام المزيد من الاضطرابات الثورية العنيفة في المستقبل.

لكن في أغلب الأحوال لا يزال عزم النظام على مكافحة «الإخوان» عاملاً سياسياً رابحاً، ومن المرجح أن يبقى كذلك لبعض الوقت. فعلى الصعيد الداخلي، لا يزال العديد من المصريين، وربما معظمهم، ينظرون إلى «الجماعة» باعتبارها قوة مزعزعة للاستقرار، نظراً إلى عدم اليقين السياسي الكبير من العام المضطرب الذي أمضاه مرسي في السلطة وتبنّي «الإخوان المسلمين» للهجمات التي وقعت على البنية التحتية. وقد لا يكون هؤلاء المصريون متحمسين للسيسي، لكنهم يرون تماسك نظامه الداخلي باعتباره العامل الوحيد الذي يمنع البلاد من الانزلاق إلى فوضى انعدام الولاية التي تعيشها العراق وليبيا وسوريا. فالمناضلون الثوريون يشعرون بشدة بهذا الميل الذي يضع الاستقرار أولاً ويقولون إنهم توقفوا عن الاحتجاج لأنهم يخشون من ردة الفعل الشعبية، بقدر ما يخشون تقريباً من إلقاء القبض عليهم. وقد قال لي ناشط في بورسعيد خلال رحلة قمت بها مؤخراً: “إذا سار خمسة أشخاص في مسيرة وهتفوا حول قضية سياسية، سيطلق الناس النار عليهم”. إلى جانب ذلك، فإن موقف نظام السيسي المضاد لـ «الإخوان» قد قرّب مصر من دول الخليج العربي الغنية، التي ساعدت مصر على الوقوف على قدميها من خلال التبرع بأكثر من 20 مليار دولار منذ الإطاحة بمرسي.

ومع ذلك، يجدر بالذكر أن سياسة النخبة التي يقوم عليها استقرار النظام غالباً ما تكون مبهمة. فعدد قليل من المراقبين الخارجيين، إن وُجدوا، كانوا على علم بالانقسامات داخل الجيش المصري التي بلغت ذروتها من خلال تعيين السيسي وزيراً للدفاع في آب/أغسطس 2012، ولا أحد يستطيع أن يعرف على وجه التأكيد عما إذا كانت تظهر الآن انقسامات مشابهة تحت السطح والتي قد تغيّر قواعد اللعبة. بيد، لا أحد يفهم هذه المخاطر أفضل من المؤسسات والمصالح المكونة للنظام. وبما أنهم جميعاً يخشون من أن قيام جولة أخرى تسفر عن تغيير النظام قد تعني موتهم، فإنهم على الأرجح سيستمرون في التركيز على حملة مكافحة «الإخوان» التي توحدهم، بدلاً من السماح للخلافات الداخلية بالتصاعد إلى حد كبير. وبعبارة أخرى، يمكن الحفاظ على الوضع القائم في مصر. ولكن إذا ما انهار فجأة، فعليكم أن تنتبهوا لذلك: سيكون عبارة عن حمام من الدم.

إريك تراجر هو زميل “استير كي. واغنر” في معهد واشنطن. وقد نُشرت هذه المقالة في الأصل من على موقع “فورين آفيرز”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى