سياسة

فورين أفيرز: هل أنقذ السيسي مصر؟

فورين أفيرز: هل أنقذ السيسي مصر؟

فورين أفيرز – ناثان براون – ترجمة: محمد الصباغ

منذ خمس سنوات، أذهل قادة حركة المظاهرات في مصر أنفسهم بالنجاح في إسقاط الرئيس حسني مبارك، الذي وصل إلى السلطة قبل أن يولد الكثيرون منهم. في تلك الأيام، لم يكن من المعتاد الحديث عن فجر جديد للسياسة المصرية والعالم العربي. من الصعب أن نجد أي من هؤلاء القادة سعيدا الآن. بل يظهرون احباطهم بشكل كبير في الدوائر الأكاديمية والإعلامية والسياسية حول العالم. ثار المصريين الشباب والساخطين ضد النظام الفاسد ومطالبين بحكومة ديمقراطية، مجتمع أكثر حرية، وحقوق اقتصادية أفضل. فازوا بالمعركة لكن خسروا الحرب، مع هزيمة الجيش ،مع الإخوان لفترة ثم بدونهم، للثوريين.

لكن هناك طريقة مختلفة لسرد أحداث قصة 2011. ليست قصة أمل كبير بل خيبة أمل، قصة الفوضى المهددة والنجاة منها. من منظور المؤسسات الأمنية المصرية- الجيش والشرطة والمخابرات- لم تهدد الانتفاضة بإسقاط رئيس مصر فقط بل كامل النظام السياسي والاجتماعي. كانت تجنب تلك النتيجة مهمة عسيرة، ترى القوات المسلحة المصرية حتى الآن نفسها تؤديها.

في يناير 2011، قاد المجلس العسكري الحكومة بعد الإطاحة بمبارك وحتى انتخاب مرسي، وكان لدى أعضائه مظالم يتشاركونها مع المتظاهرين مثل المعارضة الواضحة لمحاولات مبارك توريث الحكم لابنه جمال، المدني، وسخطهم لكبير من تزايد سلطات وزارة الداخلية في النظام السياسي. في الحقيقة، سريعاً بعد بداية المظاهرات، طلبوا من الرئيس المسن إبعاد ابنه وأقرب معاونيه من مواقعهم بحزبهم الحاكم. كما تم إبعاد حبيب العادل، حليف مبارك ووزير الداخلية القوي من مناصبه. وأخيراً، مع الزخم الثوري الكبير، أطاح المجلس العسكري بمبارك، الجنرال السابق بالقوات الجوية والذي حكم مصر لثلاثة عقود.

يرى الجيش المصري نفسه حارساً للأمة: أو بكلمات أخرى، يعتقد أن من حقه وواجبه أن يتخلص من الشخصيات الحكومية التي أصبحت غيرشرعية. وبالرغم من الروابط طويلة الأمد المؤسسية والشخصية مع الرئيس ونظامه الدستوري، وجد المجلس العسكري توجها أهم وهو حماية المصالح القومية الجوهرية، مثل إيقاف الإضرابات العمالية التي وصلت إلى مؤسسات تديرها القوات المسلحة وهددت بشل الاقتصاد، وأيضاً استعادة القانون والنظام بعد انتشار الجرائم، والحفاظ على الموارد المالية مع انهيار السياحة وعائدات الاستثمارات الأجنبية، والحيلولة دون وقوع حرب أهلية كالتي حدثت لاحقاً في ليبيا وسوريا. أدرك الجنرالات أن مصر بها 90 مليون مواطن تقريباً ونصفهم تقريباً تحت خط الفقر. والأكثر إزعاجاً، وفق اعتقادهم، أن الاضطرابات الإقليمية تحمل آثار مؤامرة أجنبية لزعزعة استقرار مصر والشرق الأوسط، وهم يشكلون خط الدفاع الاخير.

مما جعل المجلس العسكري يتجه نحو التدخل هو حقيقة أنه منذ الإطاحة بالملكية عام 1952، لعب الجيش المصري دائماً دوراً بارزاً في بناء وترتيب النظام السياسي. في فترات الخمسينيات والستينيات، تشارك في مسؤولية الحكم مع الرئاسة ومجلس الوزراء. وأجبرت الهزيمة في عام 67 الجنرالات على الابتعاد يوماً بعد يوم عن الأمور. لكن ذلك أراحهم أيضاً من المسؤولية عن أغلب مشاكل مصر وسمح لهم بالحفاظ على استقلاليتهم بعيداً عن المدنيين. كانت تسوية سعيدة ليس فقط  لحكام مصر، الذين أصبحوا لا يحملون عبء المخاوف من الاتقلابات، لكن أيضاً للجيش. يستطيع الجنرالات التركيز على الدفاع والتسلح وأيضاً شرايين الحياة الاقتصادية، تاركين الرئيس –الذي دائماً ما يكون من صفوفهم- للحكم والسياسة. وفي عام 2011،ومع ذلك عندما أثبت مبارك نفسه أنه ركناً غير مستقر لا يمكن الاعتماد عليه، فتم اقصائه فوراً.

في المراحل الاولى للثورة، أمل المجلس العسكري أن يلعب دول الحارس، قد يحكم البلاد من خلال المراسيم والإعلانات الدستورية، لكن مازالت هناك حكومة مدنية تتمتع باستقلالية كبيرة نسبياً في مجالات الصحة والتعليم والبنى التحتية. والأكثر طموحاً حين عمل المجلس على انتخابات حرة وسمح بمشاركة السياسيين الإسلاميين. بدت الفكرة وكأنها خلق لنظام ”استبدادي تنافسي“ والذي وصفه كلا المؤلفان ستيفن ليفتسكي و لوتشان واي بالتعددية دون ديمقراطية. أما لجنرالات مصر فالسلطوية التنافسية ستنتج برلمان ضعيف، رئيس بخلفية عسكرية، واستقلالية مؤسسية للمجلس العسكري. هل نجحت تلك الجهود؟ قد يكون الجيش قد أعاد التأكيد على سلطته كحارس مستقل على الاستقرار الداخلي والواجهة شبه الديمقراطية المقبولة دولياً.

لكن الجنرالات أثبتوا عدم قدرتهم على توجيه النتائج، وانجرفت استراتيجيتهم. أنتجت الانتخابات البرلمانية عام 2011-12 برلماناً إسلامياً مع حصول حزب الحرية والعدالة التابع للإخوان المسلمين على نصيب الأسد من المقاعد، وفقط جاء من خلفه السلفيين الأكثر أصولية. وبالمثل، انتهت فكرة الرئيس الضابط المعتادة سريعاً مع إطاحة الخيار الثاني بين مرشحي الإخوان المسلمين، محمد مرسي، بالجنرال المتقاعد أحمد شفيق بشق الأنفس. سريعاً تحرك مرسي نحو تجريد المجلس العسكري من سلطته التشريعية واستبدل وزير الدفاع بمدير المخابرات الحربيةن عبدالفتاح السيسي. وعلى العكس من الاحاديث حول تحالف الأعداء القدامى، بدأ الإخوان المسلمين محاولة غير ناجحة لترويض الجنرالات. بالرغم من اختفاء الصراع في عام 2012 (وتصرف الإخوان المسلمين كما لو كانوا يمتلكون الوقت والقدرة على القيادة)، كان الجنرالات بالفعل يعملون لإعادة التأكيد على هيمنتهم.

في الواقع، مع كل خطوة على طول الطريق، كان الجيش يرد. عندما أثبت البرلمان أنه غير عملي، قامت المحكمة الدستورية بحلّه- وكان المجلس العسكري  متأكداً من أن الحكم صار باتاً. عندما أصبح من الواضح أن مرسي سيكون الرئيس القادم، أصدر المجلس العسكري إعلاناً دستورياً يقيد ويقلل من سلطات الرئيس ويرفع من سلطات المجلس نفسه. أخيراً، الريبة من الإخوان المسلمين كانت تعود إلى سيطرة المدنيين على قيادة القوات المسلحة، فشجعت الأجهزة الأمنية التظاهرات، وتم الغطاحة بالرئيس.

الفشل في ضغط السياسة المصرية للتناسب مع الإطار العسكري، بالإضافة إلى لمسة الإخوان المسلمين السياسية الخرقاء، جعلت الجيش يرى أنه لا خيار سوى تحمل المهمة التي تمنى تجنبها طويلاً: السيطرة والحكم في نفس الوقت. في يوليو 2013، عندما أعلن السيسي أن مرسي لم يعد رئيساً، بدت التطلعات المصرية قاتمة: كان الاقتصاد يتجه إلى كارثة (كانت العملة الأجنبية تعادل ما تحتاجه البلاد من واردات لمدة 3 أشهر فقط)، كان المجتمع في حالة استقطاب شديدة (وشهدت الشوارع اشتباكات كبيرة بين مؤيدي الرئيس ومعارضيه)، وضرب الإرهاب شبه جزيرة سيناء، وبدأت دول الجوار في الانهيار. وبالنسبة للجيش، كان الحل الوحيد لإنقاذ البلاد من الانهيار الكارثي هو فرض النظام مهما كانت التكاليف.

من السهل –وعن جدارة- أن نصف النظام السياسي المصري اليوم بأنه إعادة لاستبداد عصر مبارك. لكن ذلك لا يأخذنا إلى الوراء أكثر. فالقمع حالياً أكثر انتشاراً. في هذا الحالة، المقارنة التاريخية الملائمة قد تكون بعصر جمال عبدالناصر، الرئيس المصري منذ عام 1956 حتى وفاته عام 1970. أقناء الحكم الناصري، كان هناك حزباً سياسياً واحداً، وقمع الإخوان المسلمين بقسوة شديدة، وأي معارضة سياسية من أي أيدلوجية كان يتم ضبطها ومراقبتها. الصحافة أممت وفرضت رقابة شديدة عليها، سقطت النقابات العمالية، وانتشر المسؤولون الأمنيون والعسكريون في مناصب الدولة الرئيسية. شجعت الحقبة الناصرية النشاط السياسي، لكن فقط في الحد الذي يسمح به النظام. في مصر اليوم النظام السياسي الحالي يعتمد على معدل من القمع مشابه بأيدي الجيش الحاكم.

إلى الآن، لا يرأس السيسي نظام يعيد خلق الناصرية. لا يوجد حزب سياسي أوحد يحشد الجميع لعزف نفس الألحان. لا توجد مسيرات كبيرة لحشد الدعم الشعبي –قام النظام بدعوة المصريين للنزول إلى الشوارع عند مواجهتهم الإسلاميين عام 2013، لكن منذ ذلك الحين وجههم إلى العودة إلى العمل. لا توجد أيدلوجية كالتي حملتها سنوات عبدالناصر، فقط قومية مبهمة تدعو الناس إلى دعم قادتهم بينما يعطونهم فكرة بسيطة عن الاتجاه الذي يقاد إليه المجتمع.

من هذا المنطلق، النظام المصري الحالي يحمل تشابهاً مع الاستبداد الرجعي الممل الذي شهدته جنوب اوروبا وأمريكا اللاتينية في منتصف العشرينيات، أكثر من تشابهه مع قومية عصر عبدالناصر الحماسية. السياسة هي شئ يجب تقليل حجمه والتعامل معه في إطارات محدودة، والقرارات الأكثر أهمية يجب أن تترك لمؤسسات الدولة المتخصصة (غير القابلة للمسائلة). ومن وجهة نظر الجيش، مصر لم تواجه مصير سوريا أو ليبيا، وهذا في حد ذاته انجاز يستحق الاحتفاء به. يجب للسياسة أن تنتظر جانباً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى