سياسة

فرنسا: عودة الرّب

فرنسا: عودة الرَبّ

فرنسوا فيون

 سيلفي كوفمان- نيويورك تايمز
ترجمة: فاطمة لطفي

ما أثار الكثير من دهشتنا في أوروبا، أن الدين لم يكن موضوعًا كبيرًا في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية لعام 2016، الدولة التي أعلنت ثقتها في “الرب” حتى على أوراقها النقدية.  وبالتالي ربما يكون مُحيرًا لبعض الأمريكيين أن يعلموا أن الرب يعود مجددًا في المناظرات السياسية على هذا الجانب من المحيط الأطلسي. وأنه، الرب، اختار من بين جميع البلاد، فرنسا، الأرض المقدسة لـ ” العلمانية الفرنسية”.

والرجل الذي أعاد الرب، أو بشكل أكثر تحديدًا، “المسيحية” إلى فرنسا، هو فرانسوا فيون، رئيس الوزراء السابق المرشح للانتخابات الرئاسية الفرنسية في الربيع القادم كمرشح عن اليمين الوسط للحزب الجمهوري.  يتضمن البرنامج الانتخابي المبدأي لفيون مقترحًا صارمًا حول خفض الإنفاق على التأمين الصحي، الاقتراح الذي تسبب في موجة غضب موسعة أجبرته على التراجع عن موقفه، حيث حاول إقناع الناخبين أنه لم يقصد الإضرار بالأفراد الأشد فقرًا،  وأوضح قائلًا:” أنا ديغولي، ما يعني مؤيد للحركة السياسية الديغولية، والأكثر من ذلك أنا رجل مسيحي”. وقال بأنه لن يتصرف أبدًا بطريقة  تنافي “احترام الكرامة الإنسانية”.

مسيحي؟ هل قال مسيحي؟. في وسائل الإعلام، طُلب من السياسيين الآخرين أن يبدوا رد فعلهم بشأن ما قاله فيون،  كان الوسطي فرانسوا بايرو، فزعًا، وقال:” في فرنسا، ولأكثر من قرن، لطالما كانت القاعدة هي ألا تخلط الدين بالسياسة”.

بينما قال هنري جواينو، المستشار السابق لـ نيكولا ساركوزي أن فيون ارتكب “خطأ أخلاقيًا”. ومن جانب آخر، قالت مارين لوبان، من الجبهة الوطنية، واضعةً حول عنقها قلادة فضية على هيئة قلب، بدلًا من الصليب، أن “الاستخدام الانتهازي” من قبل فيون للمسيحية، لأغراض سياسية، تسبب في خلّق حالة من عدم الارتياح.

وأضافت لوبان:” هذا يتناقض بشدة مع العلمانية ومع قيمنا”. وأكملت:” محاولة تبرير “اختيار سياسي” باستخدام معتقدات دينية هو أمر صادم، كيف يمكن أن نعارض غدًا، هؤلاء من يريدون سن سياسات وفقًا لاعتقاداتهم، على سبيل المثال : الإسلام؟”.

الجدل لم ينته بعد، الكاثوليكيون الذين شاركوا في تظاهرات حاشدة ضد تشريع زواج المثليين منذ ثلاث سنوات، يظهرون كقوة سياسية في هذه الحملة. في الانتخابات الجمهورية في نوفمبر، ناقش المرشحون أيا منهم أقرب إلى وجهات نظر البابا فرنسيس حول القضايا الاجتماعية.  وفي الحملة الانتخابية هذا الشهر في الانتخابات الاشتراكية ، تحدى رئيس الوزراء السابق مانويل فالس امرأة شابة مسلمة، حول قضية النقاب الإسلامي، الذي يراه كاستعباد للمرأة. واصفًا فرنسا بأنها “بلد ذات جذور مسيحية تستضيف أقدم جالية يهودية في أوروبا”.

الحماس الجديد نحو المسيحية لا علاقة له كثيرًا بالرب، أكثر مما له علاقة بالهوية والثقافة. تظهر استطلاعات الرأي عادة أن ما يقرب من 55% من المواطنين الفرنسيين يصفوا أنفسهم بأنهم روم كاثوليك ( ينقسم الباقيين ما بين مسلمين، ويهود وبروتستانت).  لكن فقط ما بين 5 إلى 8% يذهبون إلى الكنيسة بانتظام.  أنشأت دراسة أصدرتها مؤسسة إبسوس، أجرتها مجموعة وسائل الإعلام الكاثوليكية ( بايارد) فئة جديدة للمؤمنين: ” الكاثوليك الملتزمون”، هم أشخاص لا يذهبون بالضرورة إلى الكنيسة، لكن ينضمون إلى الكنيسة الكاثوليكية من خلال الأعمال الخيرية والإحسان، والحياة العائلية، أو المشاركة الاجتماعية. ويقال أن هذه الفئة، تتضمن 23% من السكان الفرنسيين.

تظاهرة فرنسية ضد حقوق المثليين

ورغم  تنوع آرائهم حول أمور بداية من المهاجرين إلى البابا فرنسيس أو التوجهات السياسية، إلا أنه يمكن النظر إلى هذه الجماعة باعتبارها كتلة انتخابية محتملة. قال لي جان بيير دينيس، رئيس تحرير المجلة الكاثوليكية الأسبوعية  ” لا في”:” لطالما كانت هذه الكاثوليكية الثقافية غير ظاهرة لأن استطلاعات الرأي لم تحددهم، ولأن النخب الإعلامية والسياسية العلمانية لم تراهم”.  مضيفًا أن فيون، كان ذكيًا بدرجة كافية لاكتشافهم والاستفادة منهم.

وقال دينيس أنه تساءل كثيرًا في الماضي متى سيتحوّل الكاثوليك الفرنسيين إلى أقلية صغيرة، منظمة، ومُساء فهمها مثل الجالية اليهودية.  لكن هذا لا يحدث. يلاحظ خبير مثله شعور أقوى  بالانتماء بين الفرنسيين الكاثوليك. أحد العوامل الرئيسية في ذلك هي بوضوح،  صعود الإسلام، الدين الثاني الآن في فرنسا، وموجة الهجمات الإرهابية التي شنتها جماعات يزعم بأنها مكونة من أصوليين ومتشددين إسلاميين. في إحدى هذه الهجمات، قُتل كاهن كاثوليكي كان يبلغ 85 عامًا في كنيسته عبر شق حنجرته.

ومع تنامي العلمانية في أوروبا، وبينما يترسخ الإسلام في القارة،  يتطور وجه الكاثوليكية الفرنسية. وبشكل واضح، الخط السياسي الفاصل للناخبين الكاثوليك اليوم هو الهجرة، والهوية الوطنية.

يوضح كتابان صدرا هذا الشهر هذا الانقسام تمامًا، وهما : “الكنيسة والهجرة: التوعّك العظيم”  لـ لوران داندريو. كاتب في المجلة اليمينية (Valeurs Actuelles). يتهم في كتابه رجال الدين الكاثوليك بمحو قرون من مقاومة الإسلام.  يشارك داندريو في وجهات نظره، ماريون ماريشال لوبان، ابنة أخت ماري لوبان، وعضو مجلس النواب الفرنسية، التي على عكس خالتها، كاثوليكية محافظة جدًا.

الكتاب الآخر هو “الهوية: العبقرية الشريرة للمسيحية” للمحامي والمدون، إروان لو مورهيديك، تمسك فيه بخط ديمقراطي مسيحي أكثر اعتدالًا ومحذرًا الكاثوليك من إغراء إيجاد العزاء في التطرف ومن التأكيد العدواني على الهوية الوطنية.

أحدث الكتابان جدالًا متقدّا في أوساط وسائل الإعلام الكاثوليكية، ولا شك أن المرشحين في الانتخابات العامة يراقبون الآن هذا الجدل عن كثب، وربما يدركون أن علمانيتهم، ليست مشتركة على نطاق واسع لدى جمهور الناخبين كما كانوا يتصورون. والمثير للاهتمام، أن صحيفة الفاتيكان Osservatore Romano ” أعادت حديثًا نشر مقالة إفتتاحية لدينيس عن الكتابين، انحازت بوضوح إلى جانب كتاب مورهيديك، الكتاب الأكثر اعتدالًا.

والآن.. من يعرف؟ ربما ليس فقط الرب، لكن حتى البابا سيكون عاملًا آخر في الانتخابات الرئاسية الفرنسية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى