ترجمات

طرد الأرواح الشريرة.. الوهم الذي يبحث عنه الكثيرون في إثيوبيا

الهدية الروحية لطارد الأرواح الشريرة

the Atlantic

ترجمة وإعداد: ماري مراد

يصيح الراهب في الميكرفون على المسرح “ماذا تتوقعون مني؟”.. يسير الرجال الشباب ببطء نحوه، راكعين في صفوف. أحدهم يحك ذراعه بشكل جنوني، وأخذ رأسه يدور إلى الأمام والخلف على صوت الطبول. والنساء المتشحات بشلان بيضاء ينُحن ويضغطن على أسنانهن بشدة. ويسأل الراهب مجددًا، بصوت يرتفع على الصرخات وهتاف الجمهور: “ماذا تريدون؟”. فيجيبون: “أشفنا”، بينما يرتفع صوت الطبول.

هؤلاء الحجاج شاركوا في طرد جماعي للأرواح الشريرة في سبتمبر بوينكشيت (دير نائي في شمال إثيوبيا)، بالقرب من قرية تيسيسات والمياه المتدفقة لشلالات النيل الأزرق. لقد جاءوا من جميع أنحاء البلاد ومن أماكن بعيدة مثل أوروبا والولايات المتحدة والشرق الأوسط، بحثًا عن الشفاء من مجموعة واسعة من الأمراض: فيروس نقص المناعة البشرية “الإيدز”، والأمراض العقلية، والفشل المهني، والحسرة. والراهب الذي ترأسهم يوهانيس تسفاماريام، وهو مسيحي أرثوذوكسي إثيوبي يبلغ 61 عامًا، ويعتقد أتباعه بأنه يتمتع بقدرات شفائية معجزة.

“هذا الأب مميز للغاية” قال لي حاج شاب يدعى مايكل أسرات في وينكشيت، مشبهًا إياه بيوحنا المعمدان “لن تجد مثله في جميع أنحاء إثيوبيا”.

في الواقع، فإن يوهانيس جزء من نزعة متنامية في المسيحية الإثيوبية، تعتبر أكثر وضوحًا في كنائسها البروتستانتية ولكنها بدأت في التأثير ببطء على مجتمعها الأرثوذكسي القديم أيضًا. وتتسم هذه النزعة بالواعظين أصحاب الكاريزما، ونهج ريادي تجاه وسائل الإعلام، ونظرة دولية.

وتعكس هذه السمات تأثير الخمسينية، وهي حركة دينية بروتستانتية سريعة النمو بشكل غير عادي وتتميز هذه الحركة بالإيمان بأن جميع المسيحيين بحاجة لأن يعيشوا اختبارا فريدا لكي يكونوا مسيحيين فعلا. مع صعودها في أنحاء أفريقيا والعالم النامي، تُغير الخمسينية بعض أقدم المجتمعات المسيحية، بما في ذلك الأرثوذكسية الإثيوبية. كما أن الطوائف المسيحية الأخرى في جميع أنحاء العالم تحيي بالمثل ممارسة طرد الأرواح الشريرة.

وغالبًا ما يسافر يوهانيس العالم لنشر رسالته، ونتيجة لذلك يمر ما معدله 40 ألف حاج -حسب تقديره- عبر وينكشيت “مثل تدفق النهر” كل شهر، بينما يعيش بضعة آلاف في خيام مؤقتة داخل مجمع الدير في في أي وقت كان”. لكن ما تساعده حقًا في تنمية المتابعة الدولية هي التكنولوجيا الحديثة.

ويعرض يوهانيس عمليات طرد الأرواح الشريرة والمعمودية على فيسبوك ويوتيوب، حيث يضم ديره أكثر من 70 ألف شخص. وأخبرني العديد من الحجاج أنهم سمعوا لأول مرة عن وينكشيت عبر الإنترنت. وأخبرني إيشيتو نيتا، مسؤول حكومي من مدينة آداما بالقرب من العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، أن شقيقته في ألمانيا أُصلح نخاعها الشوكي “ببساطة من خلال مشاهدة هذا البرنامج على موقع يوتيوب والمجيء إلى هنا”.

وعرفت ميزا ليما -امرأة تبلغ 25 عامًا تعاني من الربو- يوهانيس من شقيقتها في دبي التي شاهدت خدماته على فيسبوك. وفي نهاية المراسم التي شاهدتها، طلب يوهانيس من امرأة شابة أن تشهد أمام إحدى الكاميرات بأنها شفيت بنجاح من مشاكل تتعلق بالصحة العقلية.

هذا الدهاء التقني سمة من سمات الخمسينية الحديثة، وفقا لنعومي ريكمان، عالمة للديانة الأفريقية في جامعة أكسفورد. وكذلك الأمر بالنسبة إلى طرد الأرواح الشريرة، التي أخبرتني أنها “أصبحت ممارسة أساسية في المسيحية الأفريقية. وتُركت بعض الطوائف في إثيوبيا دون أن تمسها هذه التطورات الأخيرة. لكن هذا لا يعني أن مثل هذه المفاهيم للدين جديدة تمامًا، أو أن شخصيات مثل يوهانيس لم يكن لها مثيل في تاريخ المسيحية الإثيوبية.

وجُلب الإيمان، حسب روايات تاريخية، إلى البلاد في أواخر القرن الخامس من قبل الرهبان والمبشرين من شمال أفريقيا والشرق الأوسط. والبعض، كما يُقال، جاءوا يحملون العجائب. وقال ثيودروس تيكلو، عالم لاهوت في كلية الدراسات العليا الإثيوبية للاهوت، الكلية الإكليريكية البروتستانتية: “كان التركيز على المعجزات موجودًا منذ بداية الحركة الرهبانية”.

كان الأب جريما، الأمير البيزنطي وأحد ما يطلق عليه تسع قديسين من المسيحيين الإثيوبيين الأوائل، مشهورًا بمواهبه الروحية، لا سيما قوة شفاء المرضى. ولعدة قرون احتلت إثيوبيا مكانة خاصة في الخيال الأوروبي كمملكة مسيحية أسطورية معزولة عن العالم الخارجي.

وعبر التاريخ المسيحي الإثيوبي، ظهر الرهبان والصوفيون المعروفون باسم البهطاوي “Bahitawi”. وبعضهم -الرحالة الذين كانوا يطبقون “الشعر المبروم” أو “الدريد لوك”- تمكنوا من جمع أتباع كُثر.

ويوضح يواكيم بيرسون، الباحث في البهطاوي، أنهم غالبًا ما يظهرون في أوقات التغير الاجتماعي والاضطرابات. قال لي: “عندما كانت الحكومة ضعيفة وغير مستقرة، كان الناس يبحثون عن التوجيه والقيادة. لقد ذهبوا بحثا عن قادة لهم كاريزما”.

إن الأرواح الشريرة والماء المقدس الذي كان الحجاج في وينكشيت يصطفون أمامه، هما أيضا مألوفان لدى مسيحيين أرثوذكس آخرين، وإن لم يكن عادة بهذه الطريقة. فنادرا ما يتم طرد الأرواح الشريرة في مثل هذا الشكل المدهش والمسرحي تقريبا.

ويُدرك المسيحيون الإثيوبيون أن الماء المقدس يتدفق فقط في مواقع معينة. على سبيل المثال، يعيش اليوم العديد من ضحايا فيروس نقص المناعة البشرية في جبل إنتوتو بالقرب من أديس أبابا، على أمل الشفاء من مياه الينابيع الموجودة هناك. وعلى النقيض، فإن هؤلاء الموجودين في وينكشيت مدفوعون بسمعة يوهانيس نفسه.

وبالنسبة للوعاظ مثل يوهانيس أو نظيره الأكثر شهرة في أديس أبابا، الأب جيرما ونديمو، فإن “الماء المقدس هو أكثر من شيء كمالي”، قال دييجو مالارا، عالم الأنثروبولوجيا في جامعة غلاسكو الذي درس طرد الأرواح الشريرة والشفاء في الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية “ما يهم هو الهدية الروحية لطارد الأرواح الشريرة نفسه”.

وغالبًا ما تحذر الشخصيات العامة الأرثوذكسية مثل يوهانيس وجيرما من الدعاة أصحاب الكاريزما المتنافسين حتى بروز الخمسينية الإثيوبية اليوم.

وقد جمع بعض من هؤلاء الوعاظ أتباعا كثيرين، بنمذجة أنفسهم على النجوم البارزين في مجال التليفزيون النيجيري مثل تي بي جوشوا، لكنهم جميعا يتشاركون في تنظيم المشاريع أو وفقا لمنتقديهم، اتجاههم التسويقي المفرط تجاه الدين.

وينكشيت، الدير الذي أسسه يوهانيس منذ ما يقرب من 20 عاما بعد أربعة عقود كرجل دين رحال، له مكاتب إدارية في بلدات في جميع أنحاء منطقة أمهارا الإثيوبية. وتقوم ورشة عمل في الدير بتصنيع المنسوجات لبيعها للحجاج، كما تنتج يوهانس أسطوانات خاصة به للبيع. ويتصور يوهانيس تحويل موقع الدير إلى مركز ترفيهي يرحب بالسياح، وهذا هو الدير الأول ضمن خمسة شُيدها حتى الآن.

قال لي يوهانس: “أريد أن أبنيها (الأديرة) في جميع أنحاء العالم”، مضيفًا أنه يجري حاليا مفاوضات لشراء قطعة أرض في أستراليا. ويأمل في بناء مستشفى ومدارس وجامعة أيضًا في وينكشيت وفي المنطقة المحيطة. “رؤيتي ليست مجرد دينية. أنا مهندس وطبيب وناشط وكاتب ومزارع بالإضافة إلى كوني راهب”.

والأكثر إثارة للجدل من هذا النهج ذي العقلية التجارية، على الأقل في نظر التقليديين الأرثوذكس، هو التأكيد على قوة الواعظ الفردي.

وقال تيكالين نيغا، وهو أيضا من كلية الدراسات العليا اللاهوتية في إثيوبيا: “يجب على الأفراد أن لا يلمعوا: لقد كانت هذه هي هوية الكنيسة لقرون”. لكن شخصيات مثل يوهانس تلمع بشكل قاطع. وأخبرني مايكل، الحاج الصغير، “الجميع هنا يعتقد أن [يوهانس] هو المسيح”.

العديد من تلاميذ يوهانيس وجيرما هم من الشباب والمتعلمين والحضريين، ويكونون متشابهين في المواصفات مع هؤلاء الإثيوبيين الذين تحولوا من الأرثوذكسية إلى الخمسينية في العقود القليلة الماضية.

ومنذ الستينيات، نمت الخمسينية من نحو 1% من السكان الإثيوبيين إلى ما يقرب من ربعها اليوم، مع تحول العديد من المتحولين إلى الحداثة الدنيوية للكنائس الخمسينية الجديدة، ورسالتهم الرشيدة لازدهار الفرد، والوعد بشفاء بدني وعاطفي. الشفاء من خلال طرد الأرواح الشريرة الجماعية (أو “الخلاص” كما يُعرف بين المؤمنين).

وتتعرض الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية للضغط للتكييف بغية كبح هروب رعاياها إلى الطوائف المتنافسة. ويمثل الدعاة أصحاب الكاريزما أحد الردود المحتملة. وبالإضافة إلى العظمة والمسرح، فإن كل من يوهانيس وجيرما يجاهران بتقديم حلول لأمراض الحياة المعاصرة، مثل فشل العمل، والشكاوى الفسيولوجية الحديثة: مثل مرض السكري.

بهذه الطريقة، فإنهما يشبهان نظراءهما في الطوائف المسيحية الأخرى. وجادل ريتشمان، الأكاديمي في جامعة أكسفورد، بأن الشعبية المتزايدة لهذه الممارسات التقليدية يمكن أن تُفهم على أنها “رفض تجارة الجملة في الحداثة”، مع نفيها التام “لوجود الروحانيات والخوارق”.

واقترحت أن طرد الأرواح الشريرة في العالم المعاصر شائع، لأنه يعمل بشكل مباشر على معالجة المشاكل في مجالات الصحة والمالية والعلاقات الشخصية، “التي يبدو أنها تتكثف في بيئة معولمة حيث تكون الفجوة بين هؤلاء المؤيدين والمعارضين تبدو متطرفة”.

وقد يكون يوهانيس وجيرما نتاج مواجهة إثيوبية مؤلمة مع العولمة وتحديثها الاجتماعي- الاقتصادي السريع. لكن مثل هذه التفسيرات النظرية بدت بعيدة عن عقول الحجاج الشباب الذين تحدثت معهم في وينكشيت، الذين انبهروا بلقائهم مع يوهانيس.

مايكل، على سبيل المثال، كان حصل مؤخرا على وظيفة جديدة مثيرة مع وكالة التنمية الأوروبية. وأرجع حسن حظه المهني للراهب. قال لي وهو يبتسم في الدير: “لقد ساعدني وينكشيت كثيرًا هذا المكان مبارك حقا”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى