سياسة

روبرت فيسك: شمعون بيريز ليس “صانع السلام”

روبرت فيسك: شمعون بيريز ليس “صانع السلام”

jh

روبرت فيسك- الإندبندنت

ترجمة: فاطمة لطفي

عندما سمع العالم بوفاة شمعون بيريز، هتف الجميع: بأنه صانع السلام، لكن عندما سمعتُ بوفاته، فكرت في الدماء والنيران والقتل.

رأيت نتائج ذلك: أجساد أطفال ممزقة الأوصال، لاجئون يصرخون، وأجساد محترقة. كان ذلك كله في قرية تدعى “قانا الجليل” وأكثر من 160 جسدا، نصفها لأطفال، ممددين الآن تحت المخيم التابع للأمم المتحدة حيث مزّقت القذائف الإسرائيلية أجسادهم في تسعينيات القرن الماضي. كنت حينها ضمن قافلة 1 مساعدات الأمم المتحدة الموجودة خارج القرية اللبنانية الجنوبية. وهذه القذائف مرت بالكاد بالقرب من رؤوسنا متخذة طريقها نحو اللاجئين هناك. واستمرت لنحو 17 دقيقة.

قرر شمعون بيريز، الذي كان مترشحًا لمنصب رئيس وزراء إسرائيل، المنصب الذي ورثه بعد اغتيال سلفه إسحاق رابين، زيادة مؤهلاته العسكرية قبل يوم التصويت بشن هجوم على لبنان. استخدم حامل جائزة نوبل للسلام ذريعة إطلاق حزب الله صواريخ كاتيوشا عبر الحدود اللبنانية. في الحقيقة، هذه الصواريخ كانت انتقامًا لمقتل الصبي اللبناني في انفجار قنبلة مفخخة ظنوا أن دورية إسرائيلية تركتها خلفها، الأمر الذي لا أهمية له.

بعدها بأيام، تعرضت القوات الإسرائيلية الموجودة في لبنان لهجوم بالقرب من “قنا الجليل” وانتقموا بفتح النار داخل القرية. أصابت أول القذائف مقبرة تستخدم من حزب الله، وأصابت باقي القذائف مخيما تابعا للأمم المتحدة يحتمي فيه مئات المدنيين. أعلن شمعون حينها: “لم نكن نعلم أنه يوجد مئات المدنيين في ذلك المخيم، الأمر كان مفاجأة مؤلمة بالنسبة لنا”.

وكانت هذه كذبة. احتل الإسرائيليون “قانا” لسنوات بعد غزو 1982، ولديهم فيديوهات للمخيم، حتى أنهم أطلقوا طائرة بلا طيار على المخيم في مذبحة عام 1996، الحقيقة التي ينكرونها حتى أعطاني جندي تابع للأمم المتحدة الفيديو الخاص به للطائرة، نُشرت مقاطع منه بالإندبندنت. كما أخبرت الأمم المتحدة إسرائبل مرارًا أن المخيم يستخدم لإيواء اللاجئين.

كان هذا جزءا من مساهمة بيريز في صنع السلام في لبنان. خسر الانتخابات وربما لم يفكر أبدًا بشأن قانا. لكنني لن أنسى أبدًا ما شاهدته. عندما وصلت إلى بوابات الأمم المتحدة، كان الدم متدفقًا بغزارة. استطعت شم رئحته. وكان هناك أشلاء أذرع وأقدام، أطفال دون رؤوس، رؤوس رجال عجائز دون أجسادهم. وكان هناك جسد رجل، منشطر لجزأين، ما تبقى منه كان من نصيب النيران.

على بعد خطوات من المخيم، كان هناك فتاة متشبثة برجل ذي شعر أبيض، باسطةً ذراعيها حول كتفيه، ترج الجثة بين ذراعيها ذهابًا وإيابًا. ظلت تبكي طويلًا، مرة بعد أخرى:” أبي.. أبي”. إذا كانت لا تزال على قيد الحياة، كانت لتشهد مجزرة أخرى في قانا في الأعوام المقبلة، وهذه المرة من القوات الجوية الإسرائيلية، أشك أن كلمة “صانع السلام” ستمر يومًا على شفاهها.

أفاد تحقيق للأمم المتحدة بطريقتها الدمثة أنها لا تصدق أن عمليات القتل في قانا كانت مجرد حادثة. واتهم على إثرها تقرير الأمم المتحدة بأنه مُعاد للسامية. في وقت لاحق، نشرت مجلة إسرائيلية شجاعة لقاء مع جنود في سلاح المدفعية أطلقوا النار في قانا. أشار ضابط إلى أهل القرية بأنهم “حفنة من العرب” وقال: “مات القليل من العرب، وليس هناك ضرر من ذلك”.

أطلق بيريز على هجومه على لبنان “عملية عناقيد الغضب”، والتي إن لم تكن مستوحاة من جون شتاينبك، فإنها لا بد جاءت من سفر الثنية (التوراة). في الإصحاح 32 “لأَنَّ مِنْ جَفْنَةِ سَدُومَ جَفْنَتَهُمْ، وَمِنْ كُرُومِ عَمُورَةَ. عِنَبُهُمْ عِنَبُ سَمٍّ، وَلَهُمْ عَنَاقِيدُ مَرَارَةٍ. والإصحاح 25: “مِنْ خَارِجٍ السَّيْفُ يُثْكِلُ، وَمِنْ دَاخِلِ الْخُدُورِ الرُّعْبَةُ. الْفَتَى مَعَ الْفَتَاةِ وَالرَّضِيعُ مَعَ الأَشْيَبِ”. هل يمكن أن يكون ذلك الوصف الأفضل لما جرى لمدة 17 دقيقة في قانا بلبنان؟

بالطبع تغيّر بيريز في الأعوام الأخيرة. يزعمون أن أرييل شارون، الذي شاهد جنوده المذبحة في صبرا وشاتيلا في مخيم شاتيلا عام 1982 عبر حلفائه الجنود اللبنانيين المسيحيين، كان أيضًا صانع السلام عندما توفي. لكنه على الأقل لم يتلقّ جائزة نوبل للسلام.

أصبح بيريز لاحقًا مؤيدا لحل “قيام دولتين” على أرض فلسطين، حتى مع استمرار استشراء المستوطنات اليهودية، التي دعمها بحماس في السابق، على الأراضي الفلسطينية.

والآن علينا أن نطلق عليه “صانع السلام”. وعدّ إن استطعت، كم مرة ستذكر كلمة “سلام” في نعي شمعون بيريز في الأيام المقبلة. ثم عدّ بعدها كم مرة ظهرت كلمة “قانا”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى