اقتصادترجمات

“داعش” ترك الكثير من الأموال.. إلى أين تذهب؟

التنظيم لا يزال قادرًا على تمويل "العنف السياسي"

The Atlantic

ترجمة وإعداد: ماري مراد

إذا كنت تسعى إلى تحويل أموال هنا، فهناك فرصة لتوجيهك إلى أبوشوكت، فهو يعمل في مكتب صغير في ضاحية للطبقة العاملة بالعاصمة اللبنانية، لكنه لن يعيطك موقعه بالضبط. وبدلًا من ذلك، سيرشدك إلى زقاق قريب فظهوره يتوقف على مظهرك إذا أعجبه أم لا.

أبوشوكت، ليس اسمه الحقيقي، هو جزء من نظام الحوالة، الذي غالبًا ما يستخدم لتحويل الأموال النقدية بين أماكن التي تعطل فيها النظام المصرفي أو عندما يكون الوصول إليه بالنسبة للبعض مكلفًا للغاية، وإذا وافق على التعامل سيعطيك كلمة سر وسيأخذ أموالك النقدية، ثم يزودك بمعلومات الاتصال الخاصة بسمسار الحوالة في المدينة التي تتجه إليها أموالك، وأي شخص يُقدم كلمة السر إلى هذا السمسار المحدد سيأخذ الأموال، وبالتالي يُمكن للأموال النقدية أن تنتقل عبر الحدود دون أي استفسار حول من يرسلها أو يستلمها أو الغرض منها.

في حالة سوريا المجاورة، أرسلت المشاريع الممولة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ملايين الدولارات إلى البلاد باستخدام نظام الحوالة، كما أن المنظمات الإنسانية تستخدم النظام للدفع للعاملين، إضافة إلى أن السوريين العاملين في الخارج يعتمدون على النظام ذاته لإيصال الأموال إلى الأقارب المعوزين.

لكن أبوشوكت الذي يدير نظير الحوالة لمتجر عائلي: أحد عمالقة الصناعة، ويعتقد المحللون بأنه يمتلك شبكة من شركات خدمات المال ونقل ملايين الدولارات في الأسبوع، هو “داعش”.

وبينما تنتزع القوات المدعومة من أمريكا آخر شريط من أراضي تنظيم “داعش” في سوريا، فإن الولايات المتحدة وحلفاءها ليسوا قريبين من إسقاط الإمبراطورية الاقتصادية للمنظمة الإرهابية، فلا يزال التنظيم يمتلك قوة مالية: إذ لديه إمكانية الوصول إلى مئات الملايين من الدولارات، حسب تقديرات خبراء، ويُمكنه الاعتماد على قواعد اللعبة التي تم اختبارها في المعركة للحفاظ على تدفق الأموال إلى خزائنه، وهذه الثروة المستمرة لها مخاطر حقيقية وتُهدد بمساعدة التنظيم على الحفاظ على الولاء وإحداث خراب عبر هجمات إرهابية لسنوات مقبلة.

تقدم القوة المالية لتنظيم “داعش” نافذة على التحدي الأوسع الذي يواجه الولايات المتحدة والحكومات الأخرى، ففي محاولة للصغط على التنظيم ماليًا أُجبرت واشنطن على الاعتماد على استراتيجية مختلفة جذريا عن تلك التي استخدمتها في حملتها العسكرية: الأسلحة الرئيسية المتاحة لها ليست الضربات الجوية وقنابل المدفعية، لكن الأدوات الأكثر دهاءً: مثل فرض عقوبات على الشركات المرتبطة بداعش، وحرمانه من الوصول إلى النظام المالي الدولي، والتعاون بهدوء مع الحكومات في جميع أنحاء العالم. ستكون النجاحات أقل وضوحًا وستستغرق الحملة ضد التنظيم سنوات، والنصر غير مضمون.

نهاية أيام تنظيم داعش تمثل سلاحًا ذا حدين للمسؤولين الذين يتطلعون إلى تجفيف موارده. من ناحية فإن خسائره الدراماتيكية صعّبت عليه الاعتماد على مصدرين رئيسيين للدخل: استغلال حقول النفط في العراق وسوريا، وفرض الضرائب على المواطنين الذين يعيشون تحت حكمه. والمصدران لعبا دورًا رئيسيًا في السماح للتنظيم بجمع مليون دولار يوميًا -كما أخبرني (كاتب التقرير) مسؤول أمني عراقي رفيع المستوى، رفض الكشف عن هويته يناقش قضايا الاستخبارات- وحول “داعش” إلى أغنى منظمة إرهابية في العالم.

من ناحية أخرى، فإن خسارة التنظيم للأراضي حررته من التكاليف المرتبطة بمحاولة بناء دولة الخلافة المعلنة، ما يسمح لها بالتركيز حصريًا على النشاط الإرهابي. وقال مسؤول في وزارة الخزانة الأمريكية، شريطة عدم الكشف عن هويته، إن التنظيم يعمل بشكل متزايد مثل سلفه المتمرد: القاعدة في العراق، كما أنه لم يعد في حاجة إلى المصادر نفسها التي كان يحتاجها حينما كان يسيطر على الأراضي. ولا يزال البترول يجلب دخلًا أيضًا: فبينما لم يعد تنظيم “داعش” يسيطر على الحقول، أوضح مسؤول الخزانة أن أحد المصادر الرئيسية لدخل المجموعة هو ابتزاز خطوط إمدادات النفط في جميع أنحاء المنطقة.

لا تزال لدى “داعش” أموال طائلة جمعها خلال ذروة قوته. وقال هوارد شاتز، كبير الاقتصاديين في مؤسسة “راند” ومؤلف مشارك في العديد من الدراسات حول الشؤون المالية لـ”داعش”: “ما نعرفه هو أنهم جمعوا مبالغ كبيرة من الأموال وغيرها من الأصول.. لا نعرف إلى أين ذهب كل شيء”.

بعض هذه التمويلات يبدو أنها استثمرت في المشاريع التجارية المشروعة. وفي أكتوبر كشفت سلسلة من الحملات على الشركات المرتبطة بتنظيم “داعش” في مدينة أربيل العراقية عن مسار ورقي أشار إلى أن التنظيم استثمر في كل شيء من العقارات إلى وكلاء السيارات. وغالبًا ما تُدار هذه الشركات من قبل وسطاء يتشاركون مع المجموعة ليس بسبب التعاطف الأيديولوجي بل من أجل الربح، ومن ثم تُحول الإيرادات إلى التنظيم عندما يُطلب منهم ذلك.

وأبلغني (كاتب التقرير) المسؤول الأمني العراقي الكبير أن الجزء الأكبر من أصول التنظيم تم تحويله إلى تركيا، رغم أن وزارة الخزانة وقعت عقوبات على شركات الخدمات المالية في سوريا والعراق، والتي لها صلات بعيدة مثل منطقة البحر الكاريبي. وبعض هذه الأموال يُحتفظ بها نقدًا من قبل أفراد في تركيا، بينما يتم استثمار جزء منها في الذهب، وهناك سابقة لأنقرة بأنها تغض الطرف عن نشاط المنظمة الإرهابية على أراضيها: فاعتاد التنظيم جني ملايين الدولارات عن طريق بيع النفط المهرب للمشترين الأتراك.

ومداهمة أكتوبر في إربيل استهدفت أيضًا الشبكة المالية التي كونها فواز محمد جبير الراوي، أحد قادة تنظيم داعش الذي تزعم وزارة الخزانة أنه يمتلك ويدير شركات خدمات مالية مقرها سوريا تتبادل الأموال مع تركيا. وتنكر الحكومة التركية باستمرار توفير ملاذ آمن لعناصر “داعش” أو أصول التنظيم.

وأيضًا توفر سوريا والعراق، المُدمرتان من الحرب، للتنظيم فرصا واسعة لإحياء التكتيكات التي مولت المنظمة السابقة. ومنذ عام 2008 حتى 2012، حينما اختبأ القاعدة في العراق تحت الأرض، بدأت العمل كمافيا: فقلص عقود البناء، لا سيما بمدينة الموصل شمال العراق، وسرق الذهب وأعاد بيعه، كما اختطف أفراد عائلات ثرية لطلب فدية. ورغم ظروفه العسيرة سجل التنظيم إيرادات شهرية نحو مليون دولار فقط في محافظة نينوى، التي تعد الموصل عاصمة لها، في أواخر عام 2008 وأوائل عام 2009.

اليوم، هناك المزيد من العوامل التي تعمل لصالح التنظيم، فتدمير مناطق في شمال العراق، التي كان يحكمها التنظيم، يستوجب جهود إعادة إعمار كبيرة. وفي مؤتمر العام الماضي تعهدت دول بمبلغ 30 مليار دولار لإعادة بناء المنطقة، وهو رقم لا يزال أقل بكثير مما قالت الحكومة العراقية إنها بحاجة إليه. وعلى نحو معاكس فإن ضخ الأموال على نطاق واسع يوفر لـ”داعش” أكبر للاستفادة من الفساد. وأظهرت وثائق رُفع عنها السرية أن سياسيين عراقيين وأكرادا وأتراكا كبار تعاملوا مع القاعدة في العراق عام 2009، ومن المرجح أن يكون الإشراف على كيفية إنفاق الأموال أسوأ الآن، بالنظر إلى حجم المهمة.

وثانيًا: احتفظ “داعش” بسجلات دقيقة لنحو ما يقرب من 7 إلى 8 ملايين شخص يعيشون تحت حكمه في ذروة قوته، وإذا احتفظ بسيطرته على تلك السجلات فإمكانه استخدامها لابتزاز العراقيين والسوريين.

وقال شاتز: “إذا كنت تعيش في إقليم “داعش” فإنهم يعرفون المكان الذي تعيش فيه، والمال الذي تجنيه، وطبيعة عملك. وبإمكانهم الذهاب إلى عملك ليقولوا لك إنك يجب أن تكون فخورًا بابنك، وسيكون من المؤسف أن ترى شيئًا يحدث له”.

مثل أي تكتل ذكي متعدد الجنسيات، نوّع “داعش” مصادر إيراداته. وحتى إذا تمكنت الولايات المتحدة وحلفاؤها من إنهاء على سبيل المثال: أعمال الخطف مقابل الفدية التي يقوم بها التنظيم، فيمكنه اللجوء إلى تلك الشركات التجارية للابتزاز.

الوضع بعيد عن اليأس.. لقد أثرت الولايات المتحدة بالفعل في الشؤون المالية لـ”داعش” من خلال استهداف شبكته النفطية، وقد تجد المجموعة أنه بالإمكان استخدام سجلاتها الدقيقة ضدها: فمبجرد الحصول عليها يمكن أن توفر هذه السجلات نظرة عامة مفصلة عن موظفيها ومصادر إيراداتها، لكن لا يوجد حل سحري.

ميزة أبوشوكت في السوق تتمثل في أنه يستطيع إرسال الأموال إلى الأماكن التي انهارت فيها المؤسسات الرسمية، ويعتمد نموذج أعمال “داعش” على عوامل مماثلة، لكنها على نطاق أوسع بكثير، فهو يهدف إلى استغلال انهيار الدولة كوسيلة لتمويل منتجه الرئيسي: العنف السياسي، ثم يضعف هذا العنف الدولة أكثر، مما يخلق المزيد من الفرص المالية للمنظمة الإرهابية.

الانتصار العسكري ضد التنظيم يدعو إلى الاحتفال، لكنه يسمح أيضًا لـ”داعش” للاعتماد على استراتيجية اقتصادية خدمته جيدًا لسنوات. فلا تتوقع من التنظيم الانسحاب من أعماله التجارية في أي وقت قريب.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى