ثقافة و فن

ثلاثية الألوان لـ”كيشلوفسكي”.. كيف تنبض الحياة بمعانٍ مجرّدة؟

ثلاثية الألوان لـ”كيشلوفسكي”.. كيف تنبض الحياة بمعانٍ مجرّدة!

كتب محمود حسني

k643092A0F

على مدار ثلاثة أيام (الأحد، الإثنين، الثلاثاء) هذا الأسبوع، عرض المركز الثقافي الفرنسي ثلاثية الألوان للمخرج البولندي كريستوف كيشلوفسكي، تابعًا إياها بنقاش مع الكاتب السينمائي محمد المصري.

انتقل كيشلوفسكي (1941- 1996) مع بداية التسعينيات إلى فرنسا، بعد الشهرة الفائقة التي نالتها سلسلته التليفزيونية الوصايا العشرة، وفوز عمله “فيلم قصير عن القتل” بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان.

أخرج كيشلوفكسي 4 أفلام في فرنسا، من بينها ثلاثيته التي استلهمت ألوان العلم الفرنسي الأزرق، الأبيض، الأحمر التي ترمز إلى مبادئ الحرية، الإخاء، المساواة.

ومع عرض الفيلم الأخير من الثلاثية عام 1994، وقف كيشلوفسكي أمام عشرات الصحفيين وأخبرهم أنه يفكر في اعتزال السينما والبقاء في الريف البولندي لأن لا شيء آخر يريد أن يقوله. وهو الأمر الذي قيل عنه بعد ذلك أن الثلاثية ربما تكون خلاصة ما يعرفه الرجل عن العالم.

لم يكن اعتزال كيشلوفسكي بداعي التعب، بل كان أشبه باعتزال ساحر يرغب أن يتوقف عن ممارسة ما يعرفه حقًا من أجل “القراءة والتدخين.” حسب تعبيره. وعندما توفي بعد ذلك بسنتين، لم يكن حينها قد تجاوز السادسة والخمسين من عمره.

PHOTO: EAST NEWS/SIPA PRESS KRZYSTOF KIESLOWSKI BOUILLON DE CULTURE  00278461

 

يعالج كيشلوفسكي في أفلامه تيمات غالبًا ما يظهر فيها المرض والفقدان والموت. لكن أفلامه تتضمن قدرًا عميقا من الفكاهة لمن يبحث عنها في نسيج الحكايات.

في الجزء الأول من الثلاثية “أزرق” Blue عام 1993، تؤدي جولييت بينوش -واحدة من أهم الممثلات في تاريخ فرنسا- دور امرأة يموت زوجها وطفلها في حادث سيارة، وبعد مرورها بفترة من الشلل العاطفي، تتواصل مع صديق قديم، طالما شعرت أنه يحبها، لتخبره أن فرصته معها قد حانت أخيرا. فيبدآن علاقة تحاول من خلالها أن تعرف إن كان ذلك سيساعدها على تخطي محنتها هذه! لكنها تبقى على الحال نفسه، لتنتقل بعدها للعيش في حي باريسي قاتم وغامض، وتتعمد ألا تقابل أحدا تعرفه وألا تتعرف على أشخاص جدد. بيد أن الصدفة تجعلها تعرف أن لزوجها الراحل عشيقة، وأنها حامل منه. 

يقول كيشلوفسكي عن جولييت بينوش بطلة “أزرق”: “من الصعب أن تفسر الطريقة التي تنساب بها مشاعرها.. إنها السحر بعينه”، وهكذا يبدو أن الساحر لا يختار سوى السحرة ناشدًا الكمال في ما يقدمه كفن.

 

ثمة مقطع في فيلم White عام 1994 يقرر فيه البطل، وهو حلّاق بولندي، العودة إلى وارسو بعد أن جرّدته زوجته الفرنسية من كل ما يملك في قضية رفعتها عليه لضعفه الجنسي. يساعده صديق في الهروب من باريس إلى وارسو داخل حقيبة سفر. لكنه يفاجئ عند الوصول أن الحقيبة غير موجودة، ليعرف بعد ذلك أن أن مجموعة من اللصوص قاموا بسرقتها وكسروا القفل فوجدوا الرجل فيها، فضربوه بوحشية ورموه في كومة من القمامة. لكن، ومع ذلك، يلملم الرجل نفسه ويقف على قدميه وينظر من حوله وهو مغطى بالدماء، ويصرخ بنشوة تبدو كانتصار كا “وصلت وطني أخيراً!”

 

 

أما في الجزء الثالث من الثلاثية والذي يحمل عنوان Red عام 1994، والذي تقوم آيرين جايكوب ببطولته حيث تلعب فيه دور امرأة اسمها فالنتاين تعيش في جنيف، تصدم بسيارتها كلبة، فتعتني فيه حتى تتحسن صحتها وتعيدها إلى صاحبها، وهو قاضٍ متقاعد (جان-لوي ترنتینیان)، حيث يخبرها أن بإمكانها الاحتفاظ بالكلبة، فلديه مشاكل أهم من عناية بالكلاب. وتمضي أيامه باعتراض المكالمات الهاتفية الخاصة بجيرانه ومراقبتهم عبر نافذته بفضول وكأنه إله، مشاهدًا إياهم وهم يظنون أنه يمتلكون حرية الإرادة واختيار طبيعة أفعالهم، وهو الدور الذي يود أن يلعبه -فقط مجرد مراقب من بعيد- بعد أن عاش عمره في إطلاق الأحكام على الناس.

ثمة لحظة في الفيلم تقوم فيها فالنتاين بالاستماع إلى قصته بكل انتباه وشفقة لدرجة أنها تبدو كأنها تصلي.

نعلم شيئاً فشيئاً، وبمرور أحداث الفيلم أن قصة القاضي وحبه المفقود يكشفان أوجه شبه مع قصة فالنتاين وعشيقها الغائب دائماً ومع قصة شاب يدرس في كلية الحقوق يعيش مقابل شقتها في المدينة، وهو طالبٌ لم تقابله في حياتها، لكنها ستراه عندما تكون على متن سفينة متجهة إلى بريطانيا، والتي ستغرق بكل من فيها لسوء الأحوال الجوية، ولا ينجو سوى 7 فقط ممن كانوا على متنها، 6 من هؤلاء هم ثنائي كل جزء من الأجزاء الثلاثة.

 

كتب كيشلوفسكي هذه الثلاثية بالاشتراك مع محامٍ اسمه Krzysztof Piesiewicz. يتذكر كيشلوفسكي بداية العمل مع المحامي بالقول: “لم يكن يعرف كيف يكتب لكنه كان بارعاً في الحديث.” فقاما بتحضير الفيلم خلال محادثتهما معا. ومع أن المخرج كان يكتب معه دائماً إلا أن الغريب هو استخدام كيشلوفسكي لمدير تصوير مختلف لكل فيلم من الثلاثية؛ مفسراً ذلك أنه أراد شكلاً مختلفاً لكل واحدٍ منها. ويبدو أن Piesiewicz كان مؤيداً لذلك، لأن الثلاثية بمجملها مقدمة بطريقة غير تقليدية.

image13-610x250-610x250

حيث تأتي الأفلام في ثلاثية الألوان على “أزرق”: Blue كإشارة على عمق المأساة، و”أبيض” White الذي يظهر فيه الحس الكوميديا بقوة و”أحمر” Red الذي يدور في رحلة بحث عن عن الحب المناسب والرومانسية.

وجميعها تشدنا فوراً للاهتمام بأسلوبها السردي، مع ملاحظة أن المحادثات تزداد تدريجيًا في كل جزء بدءًا من الأول وحتى الثالث، لنجد الثلاثية تعرض أفكارًا وجودية باستخدام قصص حياتية تتسم بعمق لافت. وكأن كيشلوفسكي أرد أن يسرد كل قصة بما تحمله من رمزية لكن دون أن يكون يظهر في دور الواعظ.

يبدو هذا متوقعًا من رجل طالما أجاب عن السؤال حول علاقته بالله، بأنها علاقة خاصة وشخصية!

حين تتمكن جولييت بينوش في Blue من التحرر من ألم خسارة زوجها وطفلها، تبدأ محاولة العيش من جديد. وكأننا نصبح أحرارًا بالفعل، حين نتخطى ألم الفقد الذي يرافق الموت.

PHOTO: EAST NEWS/ALBUM - THREE COLOURS: BLUE ( 1993 )  Credits :  - MK2/CED/FRANCE 3/CAB/TOR/CANAL + / Album  Original Title :  - TROIS COULEURS: BLEU  Director :  - KIESLOWSKI, KRZYSZTOF   Photo personalities :  - BINOCHE, JULIETTE

في White تترك الزوجة الجميلة (جولي ديلبي) زوجها الحلاق البولندي زبيجنيو زمشوسكي بعد أن عانى من أجل الانتقال إلى باريس. وعندما يعود إلى موطنه بولندا، يرغب أن يجني المال كي يتساوى معها وينتقم منها. وكأن المساواة في الألم ربما تكون نقطة الانطلاق لحياة أخرى مغايرة.

أما فالنتاين والقاضي العجوز في Red فنتلمّس هذا الإخاء الروحي بمرور الأحداث، حيث نشعر به يجتاز حواجز الزمن والجنس. وكأن كل منهما يمتلك المخيلة التي تمكنه من تلمّس حقيقة الألم الذي يشعر به الآخر.

ربما يكون أحد مفاتيح فهم أعمال كيشلوفسكي هو إدراك هذا المزج بين الروائي والوثائقي، الديني والعدمي.

حيث تقوم الثلاثية على حقيقة ضمنية بأن شخصياتها ابنة ظرف ما، هو الذي يحرك مسارات لأحداث، بيد أن الحياة ذاتها بتفاصيلها ليست هي العنصر الوحيد فيما يعرضه كيشلوفسكي، بل محركاتها ودوافعها التي هي ابنة طبيعتنا الإنسانية هي أحد المفاهيم التي تلعب دورًا رئيسيًا فيما يقدمه.

لقد أحب كيشلوفسكي شخصياته لدرجة يبدو معها وكأنه يحيطها برعايته التي تشعر وكأنها إلهية. فالقاضي العجوز في Red يمكن أن يكون قاسٍ وفظ لكنك تشعر أن معاملته لفالنتاين بهذا الشكل يؤذيه ولا يسليه. ونلاحظ أنه مثل معظم شخصيات المخرج يسبح بشكل تصاعدي في حياة خانقة على أمل أن يطفو نحو السطح في مكان ما.

ويبدو واضحًا ما كان للموسيقى التصويرية للبولندي زبيجنيو بريسنر، الذي ألف موسيقى الثلاثية، من أثر قوي على تسرّب المشاهد بكافة تفاصيلها إلى الوجدان، حسب تعبير المخرج الأمريكي ستانلي كوبريك. 

1601

ثمة خيط شديد النحولة بين أجزاء الثلاثية يتمثل في ظهور عابر لإحدى شخصيات الجزء السابق في الجزء التالي. أيضًا ظهور تكرر في الثلاثة أجزاء في لقطة قصيرة لسيدة عجوز تحاول إلقاء زجاجة في سلسلة مهملات الطريق، لكن الفتحة أعلى منها، فتحاول فالنتاين في Red أن تساعدها، بيد أن أول فيلمين من الثلاثية تكون هذه السيدة في باريس، حيث يراقبها بطلا كل من الجزأين دون أن يحاولا تقديم المساعدة بشكل أو آخر.

 

Kieslowski Krzysztof;Globisz Krzysztof;

إن كيشلوفسكي في ثلاثيته هذه يطرح أسئلة، الكثير من الأسئلة التي يمتزج فيها اللاهوتي بالميتافزيقي بالوجودي، ولا يبدو أنه يبحث عن إجابات حاسمة. وكأنه يحاول التأكيد على أن الفن هو شكل من أشكال مشاركة الفنان أرقه تساؤلاته مع أكبر قطاع ممكن من المهتمين بهذه التساؤلات؛ وليبحث كل منّا عن الإجابات التي تنطلق من ذاته في الأساس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى