ثقافة و فن

“الخواجة مصري (2): لورد كارنارفون.. حادثة سيارة ألقته إلى “لعنة الفراعنة

أجانب أثروا في حياة المصريين

 

كارنارفون وزوجته

في عام ١٩٠١ كان اللورد كارنارفون -والذي عرف بشغفه بسباقات الخيول والسيارات- يقود سيارته بأقصى سرعة ببلدة باد شفالباخ الألمانية، ولكن شيئا مروعا حدث فجأة، انقلبت به سيارته في حادث  كاد أن يقضي على حياته، بعد أن أصيب أصابات بالغة، نقل على إثرها إلى لندن لاستكمال علاجه، وانعكس البرد الشديدة والرطوبة المتزايدة بالمناخ الإنجليزي على صحته بأثر سلبي، ووصف له الطبيب المعالج إن يسافر إلى مصر قبل قدوم فصل الشتاء التالي للحصول على الراحة واستكمال علاجه، ليصل إلى مصر بالفعل لأول مرة في خريف ١٩٠٣.

كانت أجواء القاهرة مناسبة تماماً لصحة كارنارفون الحساسة، ولكنه لم يجد فيه الاستمتاع الكافي، إذ كانت تطلعاته إلى الشهرة والمغامرة أكبر من أصابته البالغة التي جعلته معاقاُ إلى حد كبير، فاستهواه علم المصريات والبحث والتنقيب عن كنوز الحضارة المصرية كما استهوت مئات الأجانب ووجد في ذلك سبيلاً للخروج في أيام الشتاء، وسرعان ما انتقل إلى الأقصر بفندق ونتربلاس للقيام ببعض أعمال الحفر والتنقيب عن الآثار المصرية والتي كانت رائجة آنذاك بالقرب من قرية القرنة بالبر الغربي بالأقصر.

بدأ كارنارفون في أول الأمر القيام بعمليات الحفر والتنقيب بنفسه ولكنه لم يستطع تحقيق شيء  يذكر، ليقتنع بأنه يحتاج إلى مزيد من الخبرة، فاستشار صديقه اللورد كرومر، وبدوره قام هو الآخر باستشارة عالم المصريات الشهير جاستون ماسبيرو، فاقترح ماسبيرو أن يلتقى كارنارفون بالشاب هوارد كارتر.

بمدينة الأقصر كان اللقاء الأول بين كارنارفون وهوارد كارتر في عام ١٩٠٧ لطيفاُ للغاية، إذ كان الأول بحاجة إلى عالم والأخير بحاجة إلى ممول، في الوقت الذي كان حلم ما يراود كارتر بأن هناك فرعونا مجهولا يرقد وسط هذه الصحراء الواسعة غرب النيل، كان يفتقر للتمويل والامتياز للحفر في وادي الملوك، إلى جانب افتقاره إلى النفوذ السياسي وهو ما يمتلكه اللورد كارنارفون المدعوم من اللورد كرومر، لتلتقي أفكار وطموحات الرجلين.

بين عامي ١٩٠٧ و ١٩١٥ استطاع كارتر  تحقيق سلسلة من النجاحات في عمليات الحفر والتنقيب باكتشاف عدد من مقابر الدول الوسطى إلى جانب اكتشاف عدد من الآثار الخاصة بالملكة حتشبسوت والملك رمسيس الرابع، ثم اكتشاف عدد من الآثار الرومانية واليونانية والتي لم تكن ملهمة بالنسبة لهما، إذ كانا يطمحان إلى اكتشاف مقبرة لأحد ملوك الفراعنة، وفي نفس الوقت ممنوع عليهما دخول وادي الملوك حيث أن المحامي والمستكشف الأمريكي تيودور ديفيس يمتلك حق الامتياز الوحيد للتنقيب بوادي الملوك، ويعد هذا الامتياز هو التصريح الذي كانت تمنحه مصلحة الآثار المصرية ليمكن صاحبه من التنقيب عن الآثار.

لعبت الأقدار دورها في دخول الرجلين إلى عمليات البحث والتنقيب بوادي الملوك، إذ تدهورت صحة تيودور ديفيس قبيل وفاته بثلاثة أشهر في ٢٣ فبراير ١٩١٥، فقرر ديفيس التخلي عن حق الامتياز في عمليات التنقيب بوادي الملوك، وهنا سنحت الفرصة لهما للتنقيب بوادي الملوك، فتركا عمليات التنقيب عن المجموعة الهرمية لامنمحات الثالث، واتجها إلى وادي الملوك.

اشتد لهيب الحرب العالمية الأولى، فتشتت مجهود كارتر، وبدأ اليأس يضرب العلاقة بين الرجلين، إلا أنه مع حلول عام ١٩١٧ قرر كارتر تكثيف مجهودات التنقيب مرة أخرى واستمر لأربع سنوات كاملة دون جدوي حتى عام ١٩٢١، ومع ازدياد النفقات وانعدام النتائج كان حماس كارنارفون ينهار يوماُ بعد الأخر، وكانت دائماُ ما تحدثه نفسه بأن تيودور ديفيس كان على حق حين ترك وادي الملوك فقد استنفذ الموقع كل ما فيه من آثار، إلا أن كارتر اقنعه بتمويل عمليات التنقيب عام أخر نهائي.

كارنارفون وأبنته وكارتر بعد اكتشاف المقبرة

في أول نوفمبر ١٩٢٢ بدأ كارتر العام الأخير من عملية التمويل بقليل من التفاؤل في العثور على أي شيء، وبعد ثلاث أيام فقط اكتشف كارتر سلم حجري عليه ترسيبات طمى النيل وحطام الصخور، وبإزاحتها وصل إلى باب عليه أختام من العهد القديم، وعدة طبعات أختام بيضاوية الشكل وعليها شكل “أنوبيس” فوق ٩ سجناء والمسماة بـ”الأقواس التسعة”، هل هو ختم “القبور الملكية”؟!…

ردم كارتر المدخل ثانية بالرمل والأحجار، وعلى الفور أرسل برقية لكارنارفون للمجيء على وجه السرعة، ليسأله الأخير: هل وجدت شيئا؟

قال: نعم.. أشياء مذهلة !!…

على رصيف القطار القادم من القاهرة  انتظر كارتر حضور كارنارفون وابنته الليدى إيفيلين في تمام الساعة الرابعة من عصر يوم ٢٦ نوفمبر ١٩٢٢، وبمجرد وصولهما اصطحابهما إلى وادي الملوك لاستئناف العمل مع مجموعة العمال المنقبين، ليجد حائطا آخر مختوما بعدة أختام فكسر فتحة صغيرة فيه، وأدخل يده ممسكًا بشمعة، ليتحسس ما بداخل الحجرة من حيوانات غريبة وتماثيل وذهب وفى كل ناحية بريق ذهب، ليسود الصمت في موقف مهيب لم يكن يتصورها أحد.

 بعد عدة أسابيع قرر كارنارفون التوجه إلى أسوان للاستجمام بعد سنوات البحث والتنقيب وهو يفكر في مستقبل هذا الكنز الفريد، وفي حادث عابر لدغته بعوضة في جرح بخده، أصيب على أثره بالتهاب رئوي حاد يوم ١٩ مارس ١٩٢٣، ومع توقع الجميع له بالتعافي كان المرض يشتد عليه، فطلب من ابنته نقله للقاهرة للعلاج، ولم يستجب جسده للعلاج، حاولت أسرته نقله جواُ للعلاج بإنجلترا إلا أن الموت كان سريعاُ فقد لفظ أنفاسه الأخيرة في الساعات الأولى من صباح يوم الخامس من إبريل ١٩٢٣، فهل أدركته لعنة توت عنخ أمون؟!.

لم يتوقف الأمر على ذلك فقد مات كل من دخل المقبرة لحظة فتحها في حوادث عابرة، وكان من بينهم أخو كارنافون غير الشقيق أوبري هربرت عضو البرلمان الإنجليزي الذي أصيب بالعمى وتوفي في ٢٦ سبتمبر ١٩٢٣.

لتُطوى صفحة الرجل الذي لعب الدور الأهم في أهم اكتشاف أثري فرعون على الإطلاق وهو اكتشاف مقبرة الفرعون الصغير توت عنخ أمون والتى لم تبح بكل أسرارها بعد، وعلى الرغم من استحواذ كارتر على شهرة الاكتشاف فإنه لا يمكننا إغفال دور اللورد كارنارفون في تمويل ورعاية عملية الاكتشاف الأثري جورج هيربرت كارنارفون.

 

حياة الأمراء

ولد جورج إدوارد ستانفورد مولينكس هيربرت المعروف باللورد كارنارفون في ٢٦ يونيه ١٨٦٦ بقلعة هيكلر الواقعة بمقاطعة هامبشير جنوب إنجلترا، كان الابن الوحيد لهنري هربرت -رجل الدولة المعروف- ووالدته هي السيدة إيفلين ستانهوب، بدأ دراسته بمدرسة داخلية تسمى كلية إيتون، وأكمل دراسته الجامعية بكلية الثالوث بكامبريدج.

تزوج من السيدة فيكتوريا ماريا أليكساندرا وومبويل، وهي الابنة غير الشرعية للمليونير الشهير ألفريد دي روتشيلد، وتمت مراسم الزواج في كنيسة سانت مارغريت يوم 26 يونيو 1895، وأنجب منها طفلان.

المغامر كارنارفون

منذ الصغر عرف عنه شغفه بامتلاك الخيول وسباقات الخيول والسيارات، وأنه سائق متهور للسيارات القديمة، حتى أصيب بحادث سيارة بألمانيا عام ١٩٠١ جعله معوقاُ بشكل كبير، تلك الحادثة التي دفعت به إلى مصر للاستجمام، وفي عام 1902 أسس اسطبل لتكاثر الخيول الأصلية، وفي عام 1905 عين مشرفاً لمضمار لسباقات الخيول.

تحمس بشدة للتنقيب عن الآثار المصرية وهو ما دفعه للتعرف على هوارد كارتر، وبدء في رعايته استكشافاته الاثرية حتى اكتشاف مقبرة توت عنخ أمون عام 1922 بعد حصول كارنارفون على امتياز التنقيب بوادي الملوك بدلاً من الأمريكي تيودور ديفيس عام 1915.

لعنة الفراعنة أم حادثة عابرة

توفي بالقاهرة في 5 إبريل 1923، بعد أن لدغته بعوضه بأسوان عقب اكتشاف مقبرة الفرعون الصغير، وأرجع الجميع آنذاك وافته إلى ما يسمى “لعنة الفراعنة”، نُقل جثمانه من القاهرة إلى مقاطعة هامبشير بإنجلترا ودفن بها.

كارنارفون في الثقافة العلمية

ظهرت شخصية اللورد كارنارفون في العديد من الأفلام وألعاب الفيديو والمسلسلات التلفزيونية منها : الفيلم الكولومبي “مقبرة الملك توت” للمخرج هاري أندروز عام 1980، الفيلم الوثائقي “أسرار مصر” للمخرج جوليان كاري عام 1998، لعبة الفيديو جيم “اللورد كارنافون”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أحمد الفران (باحث في السياسات الثقافية)

أحمد الفران

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى