ثقافة و فن

الخواجة مصري (1): ألبرت فارمان.. خروج المسلة الأخيرة

أجانب أثروا في تاريخ المصريين.

ألبرت فارمان

“الخواجة مصري”..سلسلة يكتبها أحمد الفران*

  “في ربيع عام ١٨٧٩ وفي طريقي عودتي إلى القنصلية توقفت لزيارة شريف باشا رئيس الوزراء بقصر عابدين، وفي ظرف دقائق قليلة دخل شريف باشا، ليعرب فيها عن أسفه لأنه تأخر لدى الخديوي بسبب أعمال هامة.

كنا قد مررنا خلال قاعة طويلة ونزلنا السلم وكنا على وشك الانصراف من الباب الذي تنتظر عنده عرباتنا حينما قال الباشا : أظنك تفضل مسلة الإسكندرية، أليس كذلك ؟؟.

فأجبت: نعم، إن هذه المسلة تقع في مكان يسهل معه نقلها عن المسلات الأخرى.

فأجاب شريف باشا: “حسناً، لقد قررنا أن نعطيها لكم …”.

فشكرته وقلت: ينبغي أن يكون هناك شيء مكتوب يؤكد منح المسلة حتى أرسله إلى وزير الخارجية بواشنطن، ومن الأفضل أن تمنح المسلة إلى مدينة نيويورك مباشرة وإلا فسوف تكون هناك بعض التعقيدات التي تحتاج إلى موافقة الكونجرس.

فأجاب شريف باشا : سنمنحكم المسلة، وافعلوا ما تشاءون، اكتب إلى مذكرة توضح ما تود أن تفعل بها مبيناً فيها أن الولايات المتحدة ستتحمل مصاريف نقلها، ثم سلم المذكرات إلى سكرتيري العام“.

بهذا الحوار انتهى المشهد قبل الأخير من خروج آخر مسلة فرعونية خرجت من مصر، والتي كانت تتصارع  الدول الكبرى من أجل الحصول عليها، تلك المسلات التي تتفرد بها الحضارة الفرعونية دوناً عن غيرها من الحضارات والتي كانت تصنع تخليداً لذكرى الانتصار في المعارك الحربية، وكان هناك ما لا يقل عن 100 مسلة لم يبق منها سوى 5 مسلات، وظلت تختفي من مصر لتظهر بعدها في عواصم العالم.

إذ بدأت هجرة المسلات من مصر إلى الخارج قبل الميلاد، حيث تشير المصادر إلى أن آشور بانيب استولى بعد غزوه لمصر سنة 665 ق.م على مسلتين مكسوتين بالبرونز نقلهما من طيبة إلى نينوي عاصمة المملكة الآشورية، ثم استيلاء الرومان على أكبر عدد من المسلات ثم بريطانيا وتركيا وفرنسا وأخيراُ الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي ذلك المشهد يكون ألبرت فارمان القنصل الأمريكي في مصر بين عامي (١٨٧٦-١٨٨١) قد أنهى مشواراُ طويل من المفاوضات بدأ في خريف عام ١٨٧٧ مع الحكومة المصرية بشأن حصول الولايات المتحدة الأمريكية على مسلة كليوباترا بالإسكندرية كهدية تعزيزاً للعلاقات المصرية الأمريكية.

إذ تعود المفاوضات إلى ٤ مارس ١٨٧٨، حيث كان اللقاء الأول للقنصل الأمريكي مع الخديوي إسماعيل لعرض طلب الولايات المتحدة في الحصول على أحدى مسلات مصر الفرعونية، أسوة بمسلة باريس ومسلة لندن، وسيلتزم ثري أمريكي من مدينة نيويورك بتحمل تكاليف نقلها وإقامتها هناك، وقد أبدى الخديوي إسماعيل موافقته المبدئية على الإهداء.

تعثرت المفاوضات قليلاً مع تولى نوبار باشا “رئيس وزراء مصر الأول”، إذ أبلغه نوبار أن الإنجليز قد طلبوا مسلة الأقصر إلا أن مريت بك عارض بشدة نقل مسلتي الكرنك وهليوبليس وأن نوبار باشا يرى أن الأنسب للأمريكان الحصول على مسلة الإسكندرية،  وحال الاضطراب المالي والسياسي الذي كان يضرب مصر أنداك دون تنفيذ الاتفاق ، واستقال نوبار باشا سريعا، ولم تنجح المفاوضات إلا في عهد شريف باشا.

ويأتي المشهد الأخير سريعاً، إذ بدأ ألبرت فارمان إجراءات نقل المسلة عقب موافقة الخديوي على نقلها، إلا أن عزل إسماعيل من عرشه وتولى الخديوي توفيق أعاق التنفيذ بعض الشيء مرة أخرى، وأخيراً نجح فارمان في إنهاء الإجراءات وأبحرت الباخرة “دسوج” تحت إشراف الملازم الأمريكي غورينج بسلاح البحرية الأمريكية من الإسكندرية في ١٢ يونيه ١٨٨٠، واستغرقت عملية الشحن للمسلة التي يبلغ وزنها 244 طن والمنحوتة من الحجر الجرانيتي حوالي ثمانية أشهر للوصول إلى نيويورك ثم احتاجت إلى ستة أشهر إضافية بعد وصولها لإنزالها بتكلفة إجمالية بلغت ١٠٣ ألف دولار آنذاك تحملها السيد وليام فاندربيلت، وتم إقامتها في موقعها الحالي بحديقة سنترال بارك أكبر حدائق منهاتن، ليكون الخروج الأخير لأخر مسلة فرعونية من مصر.

لعب ألبرت فارمان دوراً محورياُ في العلاقات المصرية الأمريكية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، شأنه شأن كثير من القناصل الأجانب في مصر أنداك تتدخل فارمان بشكل كبير في الشئون الداخلية المصرية مع ازدياد نفوذ القناصل الأجانب في مصر مع نهاية عصر إسماعيل، وقد مارس فارمان هذا الدور باقتدار فبكل سهولة استطاع الحصول على مسلة كليوباترا من الخديوي، وقام بجولاته في ربوع مصر لجمع أكبر قدر من العملات والخزف والفخار والآثار المصرية الموجودة حالياً بمتحف متروبوليتان نيويورك.

توغل فارمان في فهم الحياة الاجتماعية للمصريين، ووصف الكثير من المدن المصرية ومعالمها، إذ وصف بدقة أسرار وادي النيل ونظم الري، وعادات وتقاليد المصريين في الصيام والحج والمظاهر الصوفية مثل الدوسة والدراويش ورحلاته إلى سيناء وأديرة سانت كاترين وواحة فيران وبحيرة المنزلة.

ساهم فارمان بدور بارز في تعريف العالم بخطورة المسألة المصرية، وتقديم رؤية المصريين إلى الرأي العام العالمي وتطلع بريطانيا إلى بسط نفوذها على مصر، وسعيها إلى زعزعة الوضع السياسي والاقتصادي في مصر الذي بدأ بعزل إسماعيل وانتهى بالاحتلال البريطاني لمصر وقد رصد ذلك في كتابه الشهير “مصر التي غدر بها” والمترجم إلى اللغة العربية، فمن هو فارمان.

قدم فارمان طرحاً استشرافياً في رؤيته لمستقبل المصريين في الفصل الأخير من كتابة “مصر التي غُدر بها”، إذ تسأل في عقب الاحتلال البريطاني لها عام ١٨٨٢ عن أحوال سكان مصر مستقبلاً؟ وكانت إجابته “أما حالة الطبقة العاملة التي هي الغالبية العظمي من الشعب فلسوف تبقى على ما هي عليه الآن، وعلى ما كنت في الماضي السحيق، لم يكن هناك تغير لمدى قرون، ولن يحدث تغيير كبير لمدى قرون، ولن تخبئ الأيام لهم سوى الجهل وأقل كمية ممكنة من الغذاء البسيط الذي يحفظ أجسامهم من العدم”.

البداية بنيويورك

في ٢٣ إبريل ١٨٣١ولد إلبرت إيلي فرمان، ،  بنيوهافن بمقاطعة أوسويجو بنيويورك والده ينحدر من عائلة مريلاند القديمة والتي اشتهرت بالزراعة، التي استقرت بالقرب من أنابوليس عام 1674، أكمل فارمان الأبن دراسته حتى تخرج من كلية جينيسي ويسليان بمدينة أميرست في عام 1855.

انخرط فارمان في العمل السياسي مبكراً، وعقب تخرجه شارك في العديد من الأنشطة السياسية بمقاطعة أوسويجو، ثم بدأ في دراسة القانون بوارسو عام ١٨٥٨، ثم استكمال دراسة اللغات والقانون بجامعات برلين وهيدلبرج بأوروبا بين عامي ١٨٦٥ حتى ١٨٦٧، فأتقن اللغة الفرنسية والألمانية إلى جانب لغته الأصلية، ليعود إلى الولايات المتحدة مرة أخرى في يناير ١٨٦٨ ويعين بالحكومة الأمريكية حتى عام ١٨٧٥.

الإبحار شرقاً

اختير فارمان للعمل ممثلاً دبلوماسياً بالقنصلية الأمريكية بالقاهرة في عام ١٨٧٦ ثم القنصل العام ألأمريكي بالقاهرة حتى عام ١٨٨١، وقد رافق الجنرال جرانت -الرئيس الأمريكي الثامن عشر- في رحلته إلى أعالي النيل والتي وصفها فارمان في كتابه ألأخر Along the Nile with General Grant””.

وقد قام بدور المترجم في كافة لقاءات الخديوي إسماعيل بالرئيس الأمريكي يوليسيس جرانت أثناء زيارة الأخير لمصر.

عقب الاحتلال البريطاني لمصر، مثل فارمان الولايات المتحدة في الرابطة العالمية التي كانت تقوم بفحص الدعوى المقامة لصالح ساكن الإسكندرية المتضررين من قذف الإسكندرية بالقنابل وحرقها عام ١٨٨٢، وتحديد قيم التعويضات، ثم مثل الولايات المتحدة الأمريكية في الاتحاد الدولي لتعديل قانون المحاكم المختلطة بمصر.

أرسل فارمان إلى الإدارة الأمريكية بواشنطن عدد كبير من التقارير عن الأحوال المصرية يصف من خلالها أوضاع الزراعة والشعب والتجارة والسياسة والمالية في مصر، وقد تم نشر العديد منها، ومنحته كلية أميرست درجة الدكتوراه في ١٨٩٢، وتقديراً لجهوده الضخمة في توطيد العلاقات المصرية الأمريكية منحه الخديوي عباس حلمي الثاني “النيشان المجيدي” نيابة عن السلطان العثماني عبد الحميد الثاني عام ١٨٩٤.

بين الحياة الحزبية والاجتماعية

من الناحية الحزبية كان فارمان جمهوري متحمس للغاية، ومن الناحية الاجتماعية فقد تزوج مرتين وله ثلاثة أبناء، وعقب عودته من مصر انشغل بإلقاء المحاضرات والخطب السياسية حتى وافته المنية في عام ١٩١١.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أحمد الفران (باحث في السياسات الثقافية)

أحمد الفران

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى