اقتصادرأي النخبة

التقشف يموت في هدوء

العواقب الاقتصادية المترتبة على ارتفاع الديون الحكومية لا يمكن تجاهلها إلى الأبد

التقشف يموت في هدوء

ترجمة: إبراهيم محمد علي        

 

جيمس مكورماك

لندن ــ مرت سنوات عديدة منذ ناقش صناع السياسات بجدية مزايا التقشف المالي. وكانت المناقشات صامتة حول المزايا المحتملة لاستخدام الحوافز لتعزيز النمو الاقتصادي في الأمد القريب، أو حول التهديد المتمثل في بلوغ الدين الحكومي مستويات من شأنها أن تمنع النمو في الأمد المتوسط.

لا يوجد أي لبس عندما يتعلق الأمر بأي جانب فاز، ولماذا. فقد مات التقشف. وفي حين يواصل الساسة التقليديون اتخاذ تدابير حماية المؤخرة ضد الشعبويين المدعين، فمن المرجح أن يتبنوا المزيد من تيسير السياسة المالية ــ أو على الأقل تجنب تشديد القيود ــ لجني مكاسب اقتصادية شبه مؤكدة في الأمد القريب. ولكن من غير المرجح في الوقت نفسه أن يستجيبوا للتحذيرات من العواقب المترتبة على مستويات الدين الأعلى في الأمد المتوسط، نظرا للحديث الشائع عن بقاء أسعار الفائدة “عند مستوى أدنى لفترة أطول”.

وبوسعنا أن نؤكد على نشوء إجماع دولي حول السياسة المالية من خلال مراجعة البيانات المشتركة لصناع السياسات. كانت آخر مرة أصدرت فيها مجموعة الدول السبع بيانا يشير إلى أهمية ضبط الأوضاع المالية في قمة لوغ إرن في عام 2013، عندما كانت آنذاك مجموعة الدول الثماني.

منذ ذلك الوقت، كانت البيانات المشتركة تتضمن مقترحات غير متبلورة لتنفيذ “الاستراتيجيات المالية بمرونة لدعم النمو” وضمان استدامة نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي. إن وضع الدين على مسار مستدام يعني فرضيا أنه لن يزداد على نحو لا ينقطع. ولكن في غياب إطار زمني محدد، قد تخضع مستويات الدين لانحرافات مطولة، وتُصبِح استدامتها مفتوحة للتفسيرات المختلفة.

كانت الاعتراضات على التقشف مفهومة في الفترة التي أعقبت الأزمة المالية التي اندلعت في عام 2008. وجرى إحكام السياسة المالية عندما كان النمو هزيلا عند مستوى أقل من 2% (بعد ارتداده في عام 2010)، وأظهرت فجوات الناتج السلبية الكبيرة أن تعافي تشغيل العمالة في الإجمال سيكون بطيئا.

في أواخر عام 2012، أثناء ذروة مناقشة التقشف في مرحلة ما بعد الأزمة، كانت الاقتصادات المتقدمة في خضم عملية تشديد السياسات لسنوات متعددة بما يعادل أكثر من نقطة مئوية واحدة من الناتج المحلي الإجمالي سنويا، وفقا لبيانات التوازن الأولي المعدلة دوريا الصادرة عن صندوق النقد الدولي.

ولكن كما جرى تشديد السياسة المالية عندما بدا أن الظروف الاقتصادية الدورية تدعو إلى التيسير، يجري الآن تيسير السياسات في حين يبدو أن الظروف تدعو إلى التشديد. واختفت فجوة الناتج في الاقتصادات المتقدمة، وبدأ التضخم يتجه نحو الارتفاع، ومن المتوقع أن يسجل النمو الاقتصادي العالمي أقوى معدلاته منذ عام 2010.

في عام 2013، كانت اليابان الدولة الوحيدة بين الاقتصادات المتقدمة التي تخفف سياستها المالية. ولكن في عامنا هذا، يبدو أن المملكة المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تستعد لتشديد سياستها ــ وهذا على افتراض أن الاضطرابات السياسية الأخيرة لم تغير توجهاتها المالية، وهو ما سينعكس في بيان وزير الخزانة في الخريف.

يتفق أغلب المراقبين على أن مستويات الديون الحكومية مرتفعة بشكل مزعج في العديد من الاقتصادات المتقدمة، وعلى هذا فمن الحكمة أن يناقش صناع السياسات استراتيجيات ترمي إلى خفضها. وعلاوة على ذلك، هناك خيارات عديدة للقيام بهذا، وبعضها أسهل أو أكثر فعالية من غيرها.

في نهاية المطاف، يرتبط خفض الديون الحكومية بالعلاقة بين النمو الاقتصادي وأسعار الفائدة. فكلما كان معدل النمو أعلى نسبة إلى أسعار الفائدة، كلما كان مستوى خفض الديون الحكومية اللازم لتثبيت استقرار الدين أو خفضه كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي أقل.

ومع استمرار النمو الاقتصادي في الارتفاع بينما تتراجع أسعار الفائدة، على الأقل خارج الولايات المتحدة، يتاح للسلطات المالية المزيد من الفرص لخفض الدين، وخلق الحيز المالي اللازم لتدابير التحفيز عندما يأتي الانكماش الدولي المحتم التالي. ولكن صناع السياسات لا يفعلون هذا، مما يوحي بأنهم أعطوا الأولوية إلى حد كبير لاعتبارات سياسية قبل الحيطة المالية.

بعد الانتخابات الأخيرة في هولندا وفرنسا، تعلن جوقة متنامية الآن أن “شعبوية الذروة” قد مرت. ولكن ربما يكون بوسعنا أن نزعم بنفس السهولة أن المثل الشعبوية يجري استيعابها في أجندات سياسية واقتصادية أكثر توافقا مع الاتجاه السائد. ونتيجة لهذا، لم يعد أمام الساسة، وخاصة في أوروبا، أي اختيار سوى محاباة سياسات النمو الشامل والتدقيق في التأثير المحتمل الذي قد تخلفه أي سياسة بعينها على توزيع الدخل.

الواقع أن هذه البيئة السياسية من غير الممكن أن تفضي إلى ضبط الأوضاع المالية. ولابد أن يكون تصميم أي زيادات ضريبية أو تخفيضات للإنفاق جيدا بشكل استثنائي ــ وربما يكون هذا مستحيلا ــ لكي يتجنب القادة ردة فعل شعبوية سلبية. وسوف يخسر بعض الناس دوما أكثر من آخرين بسبب ضبط الأوضاع المالية، ومن الواضح أن تقرير من هم أولئك الناس ليس ممارسة سارة على الإطلاق.

حتى الآن، يجري تأخير تلك القرارات لأسباب سياسية. ولكن العواقب الاقتصادية المترتبة على ارتفاع الديون الحكومية لا يمكن تجاهلها إلى الأبد. وقد بدأت السياسة النقدية تتغير بالفعل في الولايات المتحدة، وربما تكون على وشك أن تتغير على مستوى العالَم. وعلى نحو أو آخر، سوف يكون لزاما على السلطات المالية أن تواجه مقايضات بالغة الصعوبة في السنوات القادمة.

جيمس مكورماك المدير الإداري والرئيس العالمي لمجموعة السيادة والكيانات فوق الوطنية في مؤسسة فيتش للتقييم. وكان مسؤولا عن تحليل إصدارات الديون السيادية لمدة تقرب من العشرين عاما في فيتش، وبنك كندا، وجولدمان ساكس في لندن وأوتاوا وهونج كونج.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2017. ينشربالاتفاق مع زحمة دوت كوم
www.project-syndicate.org

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى