ثقافة و فن

“أخضر يابس”.. فيلم عن الوقت والحزن والفرص الضائعة

الفيلم الروائي الطويل الأوّل للمخرج محمد حماد يتتبع بضعة أيام من حياة بطلته الشابة الثلاثينية المحافظة

 

لقطة تظهر إيمان في إحدى عربات مترو الأنفاق

كتبت- فاطمة لطفي

منذ اللحظة الأولى، يمكن أن تستشف الحزن في فيلم “أخضر يابس”، بتكوينات سينمائيّة واقعية اتسمت بإيقاع هادئ، رتيب ومعتم، يشابه تفاصيل حياة بطلته إيمان (هبة علي).

إيمان فتاة ثلاثينية، من الطبقة المتوسطة المهمشة التي تقارب على الاختفاء، تعمل في محل لبيع الحلويات يحمل اسم “الزهور” في إحدى ضواحي القاهرة، تعيش برفقة أختها الصغرى نهى (أسماء فوزي) المقبلة على الزواج، والتي تعولها شقيقتها الكبرى ماليا، يقطنان في منزل يدخله نور الشمس على استحياء، ويجاور إحدى محطات مترو الأنفاق.

لا تتحدث إيمان إلا عند الضرورة، تظهر طيلة الفيلم بكتفين معقوفين ووجه شاحب خالٍ من مساحيق التجميل، وملابس محافظة. تسير بثبات زائف على خطى التقاليد الاجتماعية والدينية التي تفرض عليها رحلة تمتد طيلة مدة الفيلم (72 دقيقة) لإقناع أحد أعمامها الثلاث، للتواجد مع عائلة الشاب المتقدم لخطبة أختها الصغرى.

اعتمد حماد في فيلمه على وجوه جديدة، لإضفاء مصداقية على تجربته السينمائية الأولى، شاركه في العمل زوجته، خلود سعد، مدير التصوير محمد شرقاوي، ووالديه وعائلته وأصدقائه، من بينهم الروائي أحمد العايدي. عُرض الفيلم في العديد من المهرجانات العالمية وحصل على جائزة أفضل إخراج في مهرجان دبي السينمائي عام 2016، فيما حازت “هبة” على جائزة أحسن ممثلة في مهرجان أسوان لسينما المرأة. كما للمخرج أعمال سابقة وهي “الجنيه الخامس”،  “أحمر باهت”، و”ستترال”.

خاض حماد معركة طويلة مع الرقابة، لمنع حذف مشاهد من الفيلم، انتصر فيها في النهاية، وبدأ عرضه تجاريّا منتصف أكتوبر الجاري. وبحسب صفحة الفيلم على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” “يعرض الفيلم دون حذف أي مشاهد منه نتيجة لجهود وإصرار فريق العمل على عدم التنازل”.

لم يلجأ حماد إلى موسيقى تصويريّة لخدمة عناصر عمله السينمائي، استعاض بمؤثرات صوتية، ضجيج الشارع وهدوءه في نهار وليل القاهرة التي بدت “ميتة” في الفيلم، أزيز عربات مترو الأنفاق الذي تستقله إيمان يوميًا من منزلها إلى العمل، أو خلال محاولاتها المستميتة لإقناع أعمامها بمشاركتها في تحمّل جزء من التزاماتهم الاجتماعية تجاهها هي وشقيقتها.

اعتمد حماد في تجربته السينمائية الغنية على إيقاع يرصد اللقطات العادية والاستثنائية من الحياة اليومية لبطلة فيلمه، بمشاهد حملت دلالات ورمزية تترك للمشاهد مساحة لفهم الصورة مكتملة. فيلم ظهر فيه الوقت كبطل رئيسي تدور حوله كافة العناصر الأخرى.  فالطريق الذي تسلكه إيمان يتخذ أبعادا أكثر عمقًا من كونه مجرد طريق يوميّ، تقف في مرات عديدة على جسر أعلى قضبان المترو للنظر إلى الأفق البعيد الذي يبدو ضبابيا، بوتيرة تأملية بطيئة تقصدها حماد، لتظهر جلية في تحركات سلحفاة تشارك إيمان غرفتها، والتي تمعن الأخيرة النظر إليها من وقت لآخر، كما يظهر في اللحظات الصامتة التي تنظر فيها بعين سارحة إلى قصارى النباتات التي ترعاها. وبجانب ذلك، تقصد أيضًا على ما يبدو الإضاءة الباهتة والألوان المعتمة باختيار أماكن للتصوير لا يدخلها نور الشمس بأريحية.

إيمان برفقة ابن عمها أحمد

 

يبدأ فيلمه بمشهد بطلته وهي تنتظر في عيادة طبيب، يؤدي دوره أحمد العايدي، الذي يطلب من إيمان الخضوع لتحاليل طبية لمعرفة سبب انقطاع الدورة الشهرية لديها، بتخمينات تضع المشاهد أمام احتمالية أن تكون الفتاة مصابة بمرض السرطان.

يتصل هذا الخيط بآخر رئيسي للفيلم، إذ تحاول إيمان إقناع أحد أعمامها بمقابلة عائلة عمرو (الشاب المتقدم لشقيقتها)، لكن يتملص اثنين من التزاماتهم الاجتماعي نحو  ابنتا شقيقهما المتوفى، فيما يوافق العم الثالث “فتحي”، والد أحمد، الشاب الذي يظهر أن لإيمان قصة حب قديمة معه.

في أحد مشاهد الفيلم، تظهر العلاقة بوضوح بين إيمان وأحمد، في لقطة طويلة يتخللها جمل رتيبة واعتياديّة لفتاة لا تزور عمها المريض كثيرًا. تظهر إيمان وهي تجلس وجسدها باتجاه عمها، تدير ظهرها بتعمّد لأحمد. وفيما تتفق مع “فتحي” العم على موعد تصطحبه فيه لمنزلها لمقابلة عائلة خطيب أختها. يظهر ثقل كل شئ في لحظة يعرض فيها أحمد تحليّة الشاي لابنة عمه عبر سؤالها “ملعقتين سكر”؟ لترفض وتحلي الشاي لنفسها وتقدمه لعمها متجاهلة ابنه تماما.

إيمان تزور عمها “فتحي” لإقناعه بالتواجد مع عائلة خطيب شقيقتها

 

مشهد آخر يجمع بين الشابين، في إحدى أروقة مستشفى حيث احتجز عمها في اليوم المحدد سلفا لسوء الحظ، يجلس أحمد بجوارها ليروي لها تفاصيل طلاقه، وإلماح أبيه ليتزوح منها. يتبع حديثه صمت مطبق آخر من إيمان.

وفي تحوّل مفاجئ في حياتها، تستقبل من طبيبها سبب انقطاع الدورة الشهرية، وهو انقطاع مبكر للطمث. في حدث نادر في عمرها الصغير. تفاجأ الشابة، تبكي وتغضب. وتتخذ فعلا عنيفا بعد عودتها للمنزل، بأن تتخلص (بنفسها) من غشاء بكارتها للأبد.

يختتم حماد تجربته الطويلة الأولى، بلقطة تجمع بين الأختين، كل في غرفتها، إيمان بملابس ذات ألوان غامقة، تغلق عليها نافذة غرفتها، لتغيب الشمس عنها، فيما في غرفة أخرى، تجلس نهى الصغرى بملابس زهرية، حيث ينبعث صوت التلفيزون من مكان ما، وهي تقلم أظافر قديمها بعادية شديدة. في مشهد ينتهي معه الفيلم، وينقطع سير الحكاية.

“أخضر يابس” تجربة سينمائية شديدة التميّز عن الحزن، الانتظار غير المجدي، الفرص الضائعة والفضاءات التي لم يعد بوسع أحد التحليق فيها بسبب انقضاء الوقت، وانقطاع الأمل كما انقطع الطمث في شكل مفاجئ لدى بطلة الفيلم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى