إعلامسياسة

إيهاب عبد الحميد يكتب عن تغييرات فيسبوك: نصير الديمقراطية أم أكبر خطر عليها؟

مستقبل “التغييرات الكاسحة” التي أعلنها مارك زوكربرج

 

 

 

 

كتب: إيهاب عبد الحميد*

تغييرات “كاسحة” في قسم “آخر الأخبار” (نيوز فيد) أعلنها مارك زوكربرج المؤسس المشارك لـ”فيسبوك” والذي يشغل منصب رئيس الشركة ورئيسها التنفيذي في 11 يناير الماضي، أثارت موجة من القلق وسط المنظمات الإعلامية في كافة أرجاء العالم. تلك المنظمات التي أصبحت تعتمد على الموقع العملاق كمنبر للتواصل مع قرائها، ومنصة لتوزيع أخبارها، وجزء أساسي من نموذج البيزنس الخاص بها.

في ذلك البيان الناري، ألقى زوكربرج قنبلة: في الفترة القادمة ستتراجع منشورات المؤسسات الإعلامية في ترتيب الظهور على قسم “آخر الأخبار” في فيسبوك، وسيرى المستخدمون منشورات “أكثر” من العائلة والأصدقاء، ومنشورات “أقل” من الناشرين وأصحاب الأعمال.

بعدها بأسبوع، في 19 يناير، أعلن زوكربرج في بيان ثان قرارا آخر: سيشن فيسبوك حربا على “الأخبار الكاذبة” عن طريق إفراد مساحات أكبر للأخبار الواردة من “جهات موثوقة”.

ماذا يعني ذلك؟ لماذا اتخذ هذا القرار؟ هل هو خبر جيد أم سيء؟ كيف ستتأثر البيئة الصحفية؟ هل سيؤثر ذلك على الدور السياسي والاجتماعي لفيسبوك في الفترة القادمة؟

تلك الأسئلة وغيرها، نحاول الإجابة عنها في هذه المقالة.

باختصار: ما هي قرارات فيسبوك الأخيرة:

يتساءل مجتمع الإعلام عن معنى قرارات فيسبوك الأخيرة، فبالرغم من أن البيانين اللذين أصدرهما زوكربرج واضحين ومباشرين، يظلان مسربلين بقدر من “الغموض”. وهو غموض سوف نحاول فك شفرته في هذه المقالة. لكن بداية، دعنا نعدد أهم التغييرات التي يمكن استخلاصها من كلام زوكربرج وآدم موسيري، نائب رئيس فيسبوك المسؤول عن قسم “آخر الأخبار”:

-عدد أكبر من المنشورات من العائلة والأصدقاء.

-عدد أقل من المنشورات من المنظمات الإعلامية (الخطوة الأولى كانت تخفيض نسبة أخبار المؤسسات الإعلامية التي تظهر على الـ”تايم لاين” من 5% إلى 4% من المحتوى).

-عدد أكبر من منشورات المنظمات “الموثوقة” مقارنة بالمنظمات “غير الموثوقة”، بحسب رأي المستخدمين.

-عدد أقل من المنشورات السلبية، التي تجعل المتلقي مستهلكًا فقط (مثل مقاطع الفيديو)، مقابل عدد أكبر من المنشورات الإيجابية، التي يعلق عليها المستخدم أو يتفاعل معها.

-عدد أقل من المنشورات التي تحظى بـ”إعجاب” likes مقارنة بالمنشورات التي تحظى بـ”تعليقات” comments.

-وزن أكبر للتعليقات الأطول. عدة سطور في التعليق تعطي المنشور فرصة أكبر للتوزيع مقارنة بتعليق من كلمة أو اثنتين.

-عدد أقل من منشورات “الصفحات” (ومنها “الصفحات المحترفة” الخاصة بالمنظمات الإعلامية).

-عدد أكبر من منشورات “المجموعات”، التي تتيح تفاعلا أكبر، وتناقش موضوعات معينة تهم أعضاء المجموعة.

-حتى الآن، يظل لدى المستخدم إمكانية ضبط قسم “آخر الأخبار” الخاص به لكي يتلقى، إذا أراد، “أحدث المنشورات” most recent أو “منشورات الصفحات” page feed. في تلك الحالة يصل المستخدم مباشرة إلى مراده من دون المرور بخوارزميات فيسبوك. لكن من غير المتوقع أن يستخدم معظم المستخدمين هذه الخيارات المتقدمة.

فيسبوك يتراجع خطوتين

لماذا اتخذ فيسبوك هذه القرارات؟

بدأ فيسبوك كموقع تواصل جامعي في 2004، وفي غضون سنوات معدودة أصبح واحدا من أكبر الكيانات على وجه الأرض.

كان فيسبوك فكرة. فكرة عملاقة قابلة للتمدد إلى ما بدا وأنه اللا-نهاية. حية عملاقة قادرة على التهام الثعابين الأصغر، ابتلاعها، والاحتفاظ بها في داخلها. كرة ثلج تتضخم بتدحرجها على صفحة الأرض. مشروع ذاتي التغذية: منصة جذابة للمستخدمين، كلما انضم إليها مستخدمون أكثر صبوا  فيها محتوى أكثر، جذب المزيد من المستخدمين، الذين يصبون فيها المزيد من المحتوى، لجذب المزيد من المستخدمين، بلا نهاية.. تقريبا.

في الوقت نفسها، كان الفريق التقني يلاحق المتطلبات الجديدة، تريد صورة؟ عندنا. تريد فيديو؟ عندنا. تريد “لايف فيديو” عندنا. تريد أخبارا تافهة؟ عندنا. تريد أخبارا جادة؟ عندنا. تريد محرك بحث؟ عندنا. نحن السوق الكبير الذي تجد فيه كل شيء من الإبرة إلى الصاروخ. لا حاجة لك بالذهاب إلى موقع آخر.

الآن، نحو ملياري شخص، ما يقرب من ثلاثين بالمائة من سكان العالم يستخدمون الموقع. وبالنظر إلى الفقر وغياب التنمية في أرجاء هائلة من عالمنا الحالي، وبالنظر إلى أن بعض الدول، ومن بينها الصين (بسكانها الذين يقتربون من مليار ونصف نسمة)، يحظر فيسبوك، يتضح لنا أن كل من “يستطيع” استخدام فيسبوك في العالم يستخدمه تقريبا.

لن نستطرد كثيرا في تأثير ذلك على وسائل الإعلام، فجميعنا يعلم أنها كانت من بين الثعابين الصغيرة التي التهمتها أفعى فيسبوك العملاقة، ربما من دون قصد.

من دون قصد؟

يبدو أن هذا هو لسان حال زوكربرج في بيانه المدوي. لم يكن فيسبوك يحلم بأن يحوز كل تلك السلطة، ربما عند لحظة ما وجد ذلك أمرا عظيما (من يكره السلطة في نهاية المطاف؟)، لكن لا شيء يأتي بالمجان. أتت تلك السلطة العظيمة بمشكلات عظيمة (السلطة المطلقة مفسدة، أليس كذلك؟).

لقد استولى المستخدمون عن الموقع، وخرجوا به عن مقصده الأساسي.

وكأن زوكربرج يريد أن يستعيد موقعه من الأيدي الغاشمة لـ2 مليار مستخدم.

لماذا يتخذ فيسبوك قرارات تقلل من زمن استخدام الموقع؟

أليس هذا سؤالا منطقيا؟ أليس من الطبيعي أن يسعى كل موقع إلى زيادة زمن التفاعل عليه؟ ألا يعني ذلك المزيد من القوة والمزيد من الإيرادات؟

يبدو أن ذلك صحيح، ولكن إلى نقطة معينة.

لقد تسبب موقع فيسبوك في إيرادات خرافية لأصحابه (ثروة زوكربرج، البالغ من العمر 33 عاما، أصبحت تقدر بأكثر من 73 مليار دولار)، ولا يبدو أن الإيرادات تتراجع. فما الذي يدفع مؤسسة ما إلى إحداث تغيير جذري في نموذج بيزنس يدر عليها مثل هذه الإيرادات؟

بعد يوم واحد من إعلان زوكربرج الأول، تراجع سهم الشركة بنسبة 4%. قد لا تبدو نسبة ضخمة، لكنه رقم بالمليارات، ومؤشر على ما يمكن أن تؤول إليه أحوال الشركة في المدى القريب.

يقول زوكربرج: “لا بد أن يمضي كل فرد منا وقته على فيسبوك بشكل جيد”، ويضيف أنه يسعى إلى “عودة فيسبوك لأهدافه التي تأسس من أجلها، وهي الانخراط في المحادثات النشطة بدلا من الاستهلاك السلبي”.

لكن هل هي مجرد “مسألة أخلاقية”؟ الرغبة في جعل المستخدمين يستمتعون بقضاء وقت جيد؟ الرغبة في إسعاد العالم؟

لكي نجيب على هذا السؤال، سيكون علينا مناقشة بعض من معضلات فيسبوك، مشكلاته الوجودية ذاتها.

فيسبوك: أكبر نصير للديمقراطية أم أكبر خطر عليها؟

قد يبدو السؤال مدهشا: لقد أعطى فيسبوك صوتا للناس، لكل فرد على حدة. لقد ارتفع بحرية التعبير إلى آفاق لم تكن متخيلة. لقد أصبح بإمكان كل إنسان أن يعبر عن نفسه؛ كل مجموعة أن تتناقش حول اهتماماتها. لقد منع احتكار الحكومات والمنظمات الإعلامية العملاقة للأخبار، وحال دون تلاعب  الأقوياء وأصحاب المال والنفوذ بالرأي العام. لقد أطلق يد المواطنين الصحفيين، وغير أجندة الإعلام الفوقية إلى أجندات تحددها الجماهير.

أليست تلك هي الديمقراطية بعينها؟

الإجابة ليست بهذه البساطة.

السنوات السبع الأخيرة التي بدأت بالثورات العربية وانتهت بفضيحتي التلاعب في نتائج الاستفتاء البريطاني على الانفصال عن الاتحاد الأوروبي (بريكسيت)، وفي نتائج الانتخابات الأمريكية، تجعلنا نعيد النظر في الموضوع من مختلف جوانبه.

من ناحية، نعم: يظهر فيسبوك كأكبر نصير للديمقراطية. لقد كان عاملا رئيسيا في تمكين الشعوب، وصولا إلى الثورة ضد أنظمتها التقليدية القديمة. لقد خلق تنظيمات افتراضية، وارتفع بالمشاركة في النقاش السياسي والاجتماعي والاقتصادي إلى مستويات غير مسبوقة.

لكنه، من جانب آخر، استبدل “حراس البوابة الإعلامية” من البشر، لتحل محلهم “الخوارزميات”. لم نعد نستهلك الأخبار بعد مرورها على “فلتر” الخبراء (الإعلاميين)، ولكن بعد مرورها من “فلتر” غير بشري، افترض في نفسه القدرة على إدارة الإعلام بصورة أفضل و”أكثر ديمقراطية” من البشر.

لقد أسهم، من حيث لا يقصد، ومن حيث ديمقراطيته نفسها، في “تمييع” المعلومات. ووجه ضربة قاصمة لأحد أهم دعائم الديمقراطية: الحق في الحصول على المعلومة الصحيحة.

اقرأ الحلقة التالية.. معضلة الأخبار الزائفة

،،،،،،،،،

*صحافي وروائي مصري، عضو المكتب التنفيذي لمنتدى المحررين المصريين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى