مسلسل “فوضى” الإسرائيلي: “المستعربون” على شاشة “نتفيلكس”
يضع المسلسل مُشاهده في حالة صراع بين الكراهية والتعاطف
قليلة هي الأعمال الفنية التي تخلق لدينا حالة من الجدل العقلي والنفسي تجاه الشخصية الشريرة الـ”Villain”: دوافعها والعوامل التي أسهمت في تشكيل نفسيتها حتى صارت تلك الشخصية التي نراها أمامنا على الشاشة، أعمال تضعنا في حالة صراع: أنكرهه لأنه شرير أم نتعاطف معه لأنه تعرض لضغوط ومواقف جعلته يتصرف على هذا النحو؟
نشاهد الدراما وداخلنا عادة قناعات مسبقة بشأن انتصار الخير وذهاب الشر للجحيم، الشخصيات السيئة تستحق الاحتراق بنيرانها جزاء أعمالها، تتسع ابتسامتنا مع علو صوت الخير وانتصاره، لكن عند مشاهدة المسلسل الإسرائيلي الذي يحمل اسم فوضى Fauda فالأمور تبدأ من قناعاتك الراسخة كمشاهد عربي لتنتهي بصراع وفوضى حقيقية داخلك، ما بين هذه القناعات وما بين المرحلة التي يحاول صناع المسلسل إيصالك لها.
مسلسل فوضى إنتاج شركة yes الإسرائيلية عُرض في إسرائيل لأول مرة في نهاية عام 2015، ومنذ بداية عرضه أثار حالة من الجدل والنجاح مما دفع شبكة “نتفليكس” للتعاقد لتوزيع المسلسل ليذاع الموسم الأول 2016 تحت مسمى “مسلسلات نتفليكس الأصلية”، وهو ما حقق للمسلسل مزيدا من الانتشار والنجاح بل والجدل أيضا، ففي الوقت الذي حصد مسلسل “فوضى” على اثنتي عشرة جائزة من أكاديمية التليفزيون الإسرائيلية بجانب عدد من مقالات الإشادة في صحيفتي “جارديان” و”نيويورك تايمز” اللتين اعتبرتاه واحدا من أفضل المسلسلات التليفزيونية، ارتفعت أصوات جماعات المقاطعة لإسرائيل بالاحتجاجات وطالبت شبكة “نتفليكس” بالتوقف عن إذاعة مسلسل من شأنه “الترويج لمجرمي الحرب” إلا أن شبكة “نتفليكس” تجاهلت هذه الدعوات، وتم عرض الموسم الثاني 2018 بل وأعلنت شركة yes الإسرائيلية المنتجة عن تعاقد “نتفليكس” لإنتاج وتوزيع الموسم الثالث من المسلسل.
وحقيقة الأمر فإن هذا العمل تطرق إلى موضوع جديد بالنسبة إلى المشاهد العربي حيث يتناول مهمات تقوم بها فرقة “المستعربين” التابعة لجهاز الأمن الإسرائيلي، هم إسرائيليون لكن عملهم أن يعيشوا حياتهم كعرب ويختلطون بهم بشكل كبير، فيصبح وجودهم داخل الأراضي الفلسطينية مألوفا لتنفيذ عمليات خاصة سواء اغتيال أو استخبارات لصالح إسرائيل، خلال المهمات لا يكون التركيز على شخصيات العمل الإسرائيليين فحسب، لكن -وبنفس مساحة الأدوار تقريبا- تظهر الشخصيات العربية سواء كانت أفرادا من الشعب، قادة حماس، والمسؤولين بالسلطة الفلسطينية وهو ما يعطي إلى حد كبير مساحة شبه متعادلة للبطولة الفنية، على اختلاف الدوافع والشخصيات والأهداف.
على الجانب الإسرائيلي يظهر المستعربون كأبطال يعملون لصالح وطنهم، ورغم ذلك تظهر تناقضاتهم، عنفهم، وضعفهم الإنساني تجاه العنف، استغلالهم للمشاعر الإنسانية وسوء الحال لدى الفلسطينيين لإجبارهم على التعاون معهم مقابل تقديمهم مساعدات حقيقية خاصة للأطفال، تناقض أنك كإسرائيلي من أصول عربية تعيش كعربي مسلم كجزء من مهمة عمل فنجد “دورون” بطل المسلسل يتحدث بأن حياته كعربي حقيقية أكثر من كونه إسرائيلىا، وهو ما يورطه في قصة حب “حقيقية” في كل تفاصيلها تنتهي بمأساة.
تناقض الشخصيات وصراعها الداخلي لم يكن مقتصرا على الشخصيات الإسرائيلية فحسب لكنه كان أكثر وضوحا في تركيبة الشخصيات العربية، كل مواطن فلسطيني سواء كان طفلا أو شيخا يظهر لجزء من تركيبة المقاومة ضد الاحتلال، كل قائدا مهما كانت درجة قيادته سواء في حماس، أو السلطة الفلسطينية، أو داعش، لديه حسابات خاصة يعمل من خلالها لتحقيق “الجهاد” ضد الإسرائليين، في المسلسل تظهر صراعات في حركة حماس ما بين قادتها وشبابها الذين يشاهدون أموالا تتدفق على الحركة ولا يصل منها ما يخدم منها “القضية” بشكل حقيقي سوى الفتات، ووسط كل هذا تظهر النساء الفلسطينيات قويات تتنازع داخلهن الرغبة في الحياة الطبيعية وإنقاذ أطفالهن من حياة مخيفة، وما بين الواجب المقدس في البقاء في الوطن واستعادته من المحتلين.
اختار “ليور راز” -صاحب فكرة المسلسل والبطل الرئيسي- التركيز على جانبي الصراع بكل ما هو إيجابي وسلبي، يقدم عملا هاما بالمعايير الفنية ولكن لا يمكن إغفال التفاصيل الصغيرة التي كانت تمثل “السم في العسل”، فالعمل يبدو متوازنا لكن بداخل تفاصيل تركيبة الشخصيات العربية -خاصة قادة المقاومة- قد تجد نفسك للحظة فقدت البوصلة وعشت على المستوى النفسي حالة من الفوضى وتعاطفت مع الجانب الآخر، كذلك لا تظهر مظاهر الاحتلال بأي شكل كأن الأوضاع طبيعية في هذه المنطقة الملتهبة من العالم فقط، ربما باستثناء نقاط التفتيش الإسرائيلية على مداخل تل أبيب.
ميزانية المسلسل تبدو متواضعة لكن عوضا عن الإمكانيات المادية كان الاختيارالجيد لفريق العمل والحبكة القوية التي تحمل توليفة الإثارة الحركية والصراع النفسي. طاقم عمل مسلسل fauda الرئيسي من الإسرائيليين وبعض الممثلين العرب، وتتنوع لغة المسلسل ما بين العربية والعبرية. مسلسل “فوضى” ليس مجرد عمل فني لكنه يطرح الكثير من الأسئلة عن علاقة الفن بالسياسة في القضايا والمناطق الساخنة.