اقتصاد

محمد العريان: أميركا واقتصاد الثقة

 

أميركا واقتصاد الثقة

arian

 

محمد  العريان

ترجمة: إبراهيم محمد علي        

 

لاجونا بيتش ــ يبدو أن الأسواق المالية مقتنعة بأن الزيادة الأخيرة في ثقة الشركات والمستهلكين في الاقتصاد الأميركي ستنعكس قريبا في البيانات “الثابتة”، مثل نمو الناتج المحلي الإجمالي، والاستثمار في الأعمال التجارية، والاستهلاك، والأجور. ولكن خبراء الاقتصاد وصناع القرار ليسوا على هذا القدر من الثقة. وإذا كانت شكوكهم في محلها فسوف يخلف هذا عواقب مهمة على اقتصاد الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي.

أعطى انتخاب دونالد ترمب رئيسا للولايات المتحدة دَفعة قوية للمشاعر الاقتصادية الإيجابية، لأنه تعهد بانتهاج إدارته لسياسة ثلاثية صارمة تقوم على إزالة القيود، وخفض الضرائب والإصلاح الضريبي، ومشاريع البنية الأساسية. وقد عززت الأغلبية الجمهورية في كل من مجلسي الكونجرس هذه المشاعر الإيجابية، عندما أشارت إلى أن ترمب لن يواجه ذلك النوع من الجمود المسبب للشلل والذي واجهه أوباما طوال القسم الأعظم من رئاسته.

يعكس الارتفاع الكبير في معنويات الشركات والمستهلكين افتراضا تمتد جذوره إلى أعماق النفسية الأميركية، ومفاده أن إلغاء القيود والتخفيضات الضريبية من الأمور التي تعمل دوما على إطلاق العنان لروح المبادرة التجارية التحويلية الداعمة للنمو. (وهو الافتراض الذي يبدو في نظر بعض المراقبين خارج الولايات المتحدة وكأنه يقين أعمى).

بطبيعة الحال، قد تسلك المشاعر كلا الاتجاهين. فكما قد يعمل موقف “داعم للأعمال” كموقف ترمب على تعزيز الثقة، وربما حتى بشكل مفرط، فإن مجرد التصور بأن القائد “مناهض للأعمال” قد يدفع الثقة إلى الانخفاض. ولأن المشاعر ربما تؤثر على السلوك الفعلي، فقد تخلف هذه التحولات تأثيرات بعيدة المدى.

في نظريته العامة الرائدة حول العمالة، والفوائد، والمال، أشار جون ماينارد كينز إلى “الغرائز الحيوانية” باعتبارها “السمة المميزة للطبيعة البشرية والتي تجعل نسبة كبيرة من أنشطتنا الإيجابية تعتمد على التفاؤل العفوي وليس التوقعات الحسابية، سواء كانت أخلاقية أو اقتصادية”. ويُعَد جاك ويلش، الذي قاد شركة جنرال إلكتريك لمدة عشرين عاما، مثالا واضحا في هذا الصدد: فقد ذكر ذات يوم أن العديد من قراراته الكبرى كان مصدرها “الحدس الداخلي”، وليس نماذج تحليلية أو توقعات أعمال تفصيلية.

لكن المشاعر ليست دائما مقياسا دقيقا للتطورات والتوقعات الاقتصادية الفعلية. وكما أظهر روبرت جيه. شيلر، رجل الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل، فقد يتطور التفاؤل إلى “وفرة طائشة”، حيث يأخذ المستثمرون تقييمات الأصول إلى مستويات منفصلة تماما عن الأساسيات الاقتصادية. وربما يتمكنون من إدامة هذه التقييمات المبالغ فيها لفترة طويلة، ولكن قدرة المشاعر على دفع الشركات والاقتصادات ليست بلا حدود.

حتى الآن، لم تنعكس ردة الفعل الحماسية في الأسواق لانتصار ترمب ــ ما حققته جميع مؤشرات الأسهم الأميركية من ارتفاعات قياسية عديدة ــ في “البيانات الثابتة”. وعلاوة على ذلك، لم يُدخِل القائمون على التوقعات الاقتصادية سوى تصحيحات صاعدة متواضعة على توقعات النمو.

ليس من المستغرب أن يستجيب المستثمرون في الأسهم لارتفاع الغرائز الحيوانية بمحاولة استباق الارتفاع المحتمل في الأداء الاقتصادي. فهم يعملون في مجال توقع التطورات في الاقتصاد الحقيقي وقطاع الشركات في نهاية المطاف. وهم يعتقدون على أية حال أنهم قادرون على عكس مواقفهم الاستثمارية بسرعة إذا تغيرت توقعاتهم.

بيد أن هذه ليست حال الشركات التي تستثمر في مصانع ومعدات جديدة، فهي أقل ميلا إلى تغيير سلوكها إلى أن تبدأ ترجمة التصريحات إلى سياسات حقيقية. ولكن كلما طال أمد انتظار هذه السياسات الحقيقية، كلما ضعف الحافز للنشاط الاقتصادي والدخل، وكلما بات لزاما على المستهلكين أن يعتمدوا بشكل أكبر على الادخار السالب في ترجمة مشاعرهم الإيجابية إلى مشتريات فعلية من السلع والخدمات.

في هذا السياق ينتظر الاقتصاد إطارا زمنيا متينا لتطور التصريحات التي تتناول السياسات العامة إلى تصميم مفصل وتنفيذ مستدام. وعلى الرغم من بعض التأخير عادة عندما ينطوي الأمر على مفاوضات ومقايضات سياسية، فإن الشعور بعدم اليقين ربما يتعزز في هذه الحالة بفِعل القرارات المتعلقة بتسلسل السياسات. ومن خلال اتخاذ القرار بالبدء في إصلاح الرعاية الصحية ــ وهي مسألة معقدة ومثيرة للانقسام في السياسات الأميركية ــ تخاطر إدارة ترمب بخسارة بعض النوايا السياسية الحسنة التي ربما تكون ضرورية لتنفيذ أشكال الإصلاحات المالية المختلفة التي تتوقعها الأسواق.

وحتى إذا حدث ارتفاع ملموس في البيانات الاقتصادية، فقد لا يدوم هذا، ما لم تدفع إدارة ترمب بسياسات تعمل على تعزيز الإنتاجية في الأمد الأبعد، من خلال إصلاح التعليم، وبرامج التلمذة الصناعية، والتدريب على المهارات، وإعادة تجهيز العمال، على سبيل المثال. ويتعين على إدارة ترمب أيضا أن تمتنع عن ملاحقة تدابير الحماية التجارية التي من شأنها أن تعطل سلاسل القيمة عبر الحدود سواء بالنسبة للمنتجين أو المستهلكين.

إذا لم يترجم تحسن الثقة في الاقتصاد الأميركي إلى بيانات ثابتة أكثر قوة، فقد تتسبب التوقعات المحبَطة في ما يتصل بالنمو الاقتصادي وأرباح الشركات في دفع معنويات الأسواق المالية إلى الهبوط، وهو ما قد يؤدي إلى تغذية التقلبات في السوق ودفع أسعار الأصول إلى الانخفاض. وفي هذا السيناريو، ربما يتوقف المحرك الأميركي، فيعاني الاقتصاد العالمي بالكامل، وخاصة إذا دفعت هذه التحديات الاقتصادية إدارة ترمب إلى تنفيذ تدابير الحماية.

تقف الولايات المتحدة على قدم ثابتة نسبيا عندما يتعلق الأمر بتحقيق نمو اقتصادي أعلى. والواقع أن أدارة ترمب نجحت، من خلال تحريك الغرائز الحيوانية للاقتصاد، في إرساء الأساس الكفيل بتمكين القطاع الخاص من تنفيذ الكثير من المشاريع الثقيلة. ولكن الأمر لا ينتهي هنا. فما لم تتمكن إدارة ترمب من العمل بشكل جيد مع الكونجرس المتعاون لترجمة النوايا المحفزة للسوق إلى تدابير جيدة المعايرة قريبا، فإن تأخر البيانات الثابتة يهدد بتقويض الثقة، وبالتالي خلق رياح معاكسة تمتد إلى ما هو أبعد من التقلبات المالية.

محمد عبد الله العريان كبير المستشارين الاقتصاديين في أليانز، وكان رئيسا لمجلس الرئيس الأميركي باراك أوباما للتنمية العالمية، وهو مؤلف كتاب “اللعبة الوحيدة في المدينة: البنوك المركزية، وعدم الاستقرار، وتجنب الانهيار التالي”.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2017. ينشر بالاشتراك مع زحمة دوت كوم
www.project-syndicate.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى