سياسةمجتمع

جسدها “تجمّد كالآيس كريم” ..العالم يخلف وعده لسلمى

تجمدت سلمى حتى الموت لإن أموال إعادة إعمار غزة لم تصل رغم وعود المانحين

Theguardian- كريس جانيس – ترجمة محمد الصباغ

ماتت الطفلة سلمى إثر انخفاض حرارة جسدها، بعد 40 يوما من ولادتها عندما غمرت مياه المطر الباردة جسدها الذى أصبح مثل  “الآيس كريم”. وقد حدث ذلك عندما ضربت رياح شتوية شديدة، تدعى “هدى” غزة  فى يناير الماضي. وكانت سلمى أصغر ضحاياها.

قابلت ميرفت، والدة سلمى، و14 فردا من عائلتها المنتشرة فى نفس المكان، وهو الحجرة التى نامت فيها سلمى خلال ليلتها الأخيرة بالمنزل. مازالوا يعيشون هناك فى ببلدة بيت حانون، شمال قطاع غزة، فى ثلاث غرف خشبية صغيرة، مغطاة ببلاستيك. عندما اراها من الطريق، اعتقدت أنها بيوت للحيوانات. الباب عبارة عن بطانية تتطاير مع أخف الرياح.

إنها تمطر، وينساب الماء للداخل. تسحب ميرفت السجادة للخلف التى هى بمثابة الأرضية وتغرف الرمال المبتلة “الرطبة” أسفلها. ذكريات وفاة سلمى فى التاسع من يناير لا تزال حديثة وموجعة.

تقول ميرفت:”كانت الرياح قوية ليلة وفةا سلمى. كنا جميعاً مبتلين للغاية، لكن بعضنا تمكن من النوم. جاء المطر وأغرق بطانية سلمى. وجدتها ترتجف. جسدها الصغير كان مثلجاً مثل الآيس كريم. أخذناها للمستشفى، لكن بعدها أخبرنا الطبيب أنها ماتت. ابنتى الجميلة كانت تزن 3.1 كيلوجرام عند ولادتها. كانت بصحة جيدة وإذا لم يتم قصف منزلنا فى الحرب ونضطر للعيش هنا لكانت حية اليوم”.

عاشت ميرفت وزوجها وأربعة أبناء، خلال صراع غزة الصيف الماضى، فى مجمع من خمسة مباني مع 40 فردا من عائلتها. وكانوا على بعد كيلومتر فقط من الحاجز بين غزة وإسرائيل. وقد أدرك حماها، جبريل، أن الحياة على الجبهة غير مستقرة،  وقال لها: “رائحة الموت تملأ الهواء.  والأطفال مزعورون ولم يتمكنوا من النوم، بعد أسبوع من الصراع هربنا والقنابل تسقط حولنا، مرعوبين خوفا على أرواحنا. ذهبنا لمنزل شقيقى، لكنه أصبح خطراً للغاية، لذا أخذنا المستشفى ملجأ لنا. بعد ساعة، تم ضربها، فهربنا لملجأ بمدرسة تابع لمنظمة الأونروا. وهناك عاش الألاف في مدرسة بنيت لاستيعاب ألف طالب، لذلك بعد الحرب جئنا إلى هنا”.

مأساة العائلة لا تنتهي بسلمى حيث تعاني أختها ميس، عمرها ثلاث سنوات، فى المستشفى من مشاكل فى التنفس بسبب تعرضها لظروف طقس قاسية. تقول ميرفت: “أخشى أن تموت ميس مثل سلمى”.

بالخارج، قابلت شقيقة زوج ميرفت، نسرين، 28 عاماً. مات ابنها بعد 50 يوما من ولادته فى المدرسة التى لجأت إليها الأسرة. تقول نسرين: “وفاة مؤمن كانت غير متوقعة. لم يكن هناك أي شىء يمكن فعله لإنقاذه. شعرت به بارداً. غطيته ووضعته لينام . كان نائما على رجلي.  عندما استيقظت فى الرابعة صباحاً كان لوم جسده أزرق. كان ميتاً. انتظرت إنجاب ولد لخمس سنوات، والآن رحل”.

جبريل جد غير عادى، حتى بالمواصفات الغزاوية، فاثنين من أحفاده الأربعة ماتوا بانخفاض درجة الحرارة خلال الأسابيع الأخيرة.  يقول إن الحرب سرقت ماضيه ومستقبله، ويضيف: “بيتي يقع فى الحطام.. عملت بجد كمزارع لأربعين عاماً. وفرت خلالها العيش لأسرتى، لكن ضاع كل شىء فى حدود ساعات. كان لدى قطعة أرض دمروها. زرعنا بها أشجار الليمون منذ 17 عاماً، لكن الدبابات جرفتها”.

جبريل قام بتخفيض أعماله بسبب الفقر المدقع، ويقول: “لدى ابنى حمار ويجني خمسة شيكلات في اليوم ( من 1 إلى 2 يورو) ينقل الأحجار ليدعمنا جميعاً. نعيش جميعاً على “الخبيزة” (عشب برى يؤكل مثل السبانخ) الذى يمكننا إلتقاطه من الشوارع”.

لمن لوجه جبريل اللوم على الموت المفاجىء لأحفاده؟.. يجيب: “مجتمع المانحين الدولى قتل أولئك الأطفال، تعهدوا بالمليارات. لكن أين هى؟ نحتاج بيتا، وليس وعودا. الأونروا ليس لديهم مال. ماذا يمكنهم أن يفعلوا بدون دعم مادى؟”.

جبريل على حق، فالأونروا، المنظمة التى أعمل لحسابها أجبرت على إيقاف ما تعتبره تلك العائلة برنامجا لإنقاذ الحياة منذ ثلاثة أسابيع. عقب مؤتمر في القاهرة خلال أكتوبر الماضي تعهد المانحون بمبلغ 4 مليارات و500 مليون دولار من أجل إعمار غزة، و أعددنا مشروعاً بقيمة 720 مليون دولار. ومع سخاء التعهدات في القاهرة كنا متأكدين من أن التمويل سيكون موجوداً.

هذه الأموال كانت ستساعدنا في منح مساعدات للعائلات التى لا تصلح منازلهم للعيش من أجل إيجار منازل. وكنا نأمل في أن نعطي هؤلاء أموالاً لإصلاح و إعادة بناء منازلهم. لكن التعهدات بالمليارات لم تتحقق وتركنا البرنامج بسبب عجز مالى يقدر ب 600 مليون دولار.

في اليوم التالي لإعلاننا إيقاف الإعانات المادية اشتعل الغضب. ففي غزة هوجم مكتب منسق الأمم المتحدة الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط. واستمرت التهديدات بالعنف. ويمكنك شم رائحتها في الهواء كما حدث في الصيف الماضي.

بوضوح، الاحتياجات كبيرة والشعور باليأس ظاهر وعميق. قدرنا أنه تقريباً دمرت 100 ألف وحدة سكنية أو انتهت تماماً، وتأثر بذلك مئات الآلاف من السكان. ووجد كثير من هؤلاء الذين يمتلكون منازل أنفسهم مع شبكات مياه وكهرباء غير صالحة.

جزء من القصة فعلياً هو إعادة إعمار غزة. فلو عاش كل من سلمى ومؤمن، فما هى أطول مدة كانوا سيعيشونها؟، يعيش الجيل القادم من قطاع غزة في صدمة ووحشية. وتناثرت في الأماكن التي يلعبون بها حوالي 8 آلاف قطعة من الأجسام التى لم تنفجر.

قدرت الأمم المتحدة أنه حوالي 540 طفلاً قد قتلوا في الصراع والكثير منهم داخل منازلهم. ولم تعد الأونروا قادرة على تقديم ملاذ آمن. فلقد ضربت تلك المدارس بضربات مباشرة سبع مرات. ومات الأطفال داخل وحول الفصول والملاعب تحت علم الأمم المتحدة الأزرق. تقريبا، يمتلك كل طفل في غزة فرد من عائلته أو صديق له مقتولاً، أو جريحاً أو حتى أصبح مشوهاً مدى الحياة، وعادة حدث ذلك أمام أعينهم.

يعيش ألف من أصل 3 آلاف طفل أصيبوا خلال الصراع بإعاقات جسدية دائمة. لو عاش مؤمن و سلمى إلى فترة البلوغ، سيدخلون سوق العمل بنسبة بطالة بلغت 47% خلال الثلث الأخير من العام الماضي. ومعدل إنقطاع للتيار الكهربائي بلغ 18 ساعة يومياً. وتقريباً 90% من المياه في قطاع غزة غير صالحة للشرب.

غزة ليست كارثة طبيعية. غزة كارثة حدثت بفعل الإنسان، هى نتيجة خيارات سياسية مقصودة. والآن يجب أن تتخذ خيارات مختلفة. وعلينا أن نسأل ما الهدف من وراء إعادة إعمار مكان بينما ندين سكانه إلى حد الإهانة بسبب الإعتماد على المساعدات؟

يتأرجح الموقف استناداً إلى أزمات رئيسية أخرى، مع تداعيات مقلقة للفلسطينيين والإسرائيليين. فالتمويل العاجل من أجل العمليات الإنسانية مطلوب، لكن هذه المساعدات فقط تخفف أسوأ آثار الأزمة.

يحتاج الناس في غزة إلى تغيير عاجل، ويحتاجون من كل أطراف الصراع الإلتزام بالقانون الدولي؛ التى تتمثل في إزالة إسرائيل كل ما يعيق التمتع بحقوق الإنسان، ورفع الحصار فوراً والسماح بمرور الصادرات والواردات، وكل ذلك خطوة ضرورية لعودة الإقتصاد.

ويجب أيضا إيقاف إطلاق الصواريخ من قطاع غزة. هناك حاجة ماسة للوحدة الفلسطينية، وبالتالي تستطيع الحكومة الفلسطينية المشكلة بإجماع وطني أن تتولى مهام الحكم والأمن في غزة.  ويجب أن تمارس اللجنة الرباعية الدولية في الشرق الأوسط ضغوطاً سياسية كبيرة، فمضى زمن العمل الإنساني وحده.

و أدعو المانحين إلى تحويل تعهداتهم في مؤتمر القاهرة إلى أموال فعلية، وأحث المجتمع الدولي على تعزيز و طلب الإلتزام بالقانون الدولي. والأكثر أهمية، يجب أن يلتزم أطراف الصراع بحماية المدنيين. ومن تثبت إدانته بأعمال عنف يجب أن معاقبته و تقديمه للعدالة.

أزمة أخرى رئيسية يمكن تجنبها. لو حشدنا الجهود السياسية والمالية والأخلاقية يمكننا أن نخرج من هذا النفق المسدود. ويمكننا إعادة مستقبل غزة من جديد. الأمر أصبح متأخراً بالنسبة للطفلين سلمى ومؤمن لكنه ليس كذلك للجيل القادم في غزة، وحوالى 950 ألف طفل آخرين.

** كريس جنيس مدير الاتصال الاستراتيجي بمنظمة الأونروا لمساعدة وإغاثة اللاجئين الفلسطينيين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى