“لعلك تجد السعادة التي افتقدتها”.. نعي الشباب لأحمد خالد توفيق مكتوبًا بيده
مشاهير ومثقفون مصدومون لرحيل “رفيق الكفاح”: “وداعًا أيها القريب”
“كل الخلائق ظلٌ في يد الصمدِ”.. هكذا جاء تعليق الصحفي والمؤلف أشرف عبدالشافي على نبأ وفاة الدكتور أحمد خالد توفيق، المؤلف والمترجم والكاتب الصحفي، ليعزي جموع المحزونين لوفاته، ويعزي توفيق ذاته الذي قال في تغريدة نشرها قبل أيام من الرحيل: “أنا أخشى الموت كثيرًا، ولستُ من هؤلاء المدعين الذين يرددون في فخر طفولي (نحن لا نهاب الموت)؛ كيف لا أهاب الموت وأنا غير مستعد لمواجهة خالقي؟!”.
قصص توفيق التي لازمت جيل شباب الثمانينيات والتسعينيات، ضمن سلسلة “ما وراء الطبيعة” التي لم تنتهِ إلا بالعام الماضي، جمعتهم على الحزن لوفاته، كما لم يجمعهم شيء منذ زمن وبعدما فرّقتهم السبل والمذاهب السياسية؛ كما رأى الصحفي أحمد الدريني الذي كتب منشورًا مطولًا عن عالم “رفعت إسماعيل” بطل السلسلة الذي جمعه وأصدقاءه وكثر آخرين على حبه.
استرسل الدريني في منشوره: “أحيانًا أتخيل أحمد خالد توفيق وقد دعا لتظاهرة في ميدان التحرير باسم (جمعة رفعت)، وأتخيل كمّ الشباب الذي سيزحف ويحتل الميدان مربكًا حسابات كل الخبراء السياسيين وكل النقاد الأدبيين وكل علماء الاجتماع معًا! (رفعت) الرمز الاختزالي الأدق لفصيل بعينه من البشر، هذا الفصيل هو نحن! أنا وأنت”.
توفيق كان مثيلًا لبطله الأشهر غريب الأطوار “رفعت” على أرض الواقع؛ شخص منطوٍ يكره الأضواء والإحساس بالمراقبة، وسعادته الحقة في وصول ما يقدمه إلى الناس من معلومات؛ هنا يشعر أنه إذا مات الآن فسيكون سعيدًا. ووصلت شهرة (رفعت) إلى إقامة القراء تأبين له حين قرر توفيق إنهاء قصصه وإعلان وفاته.
يشبه توفيق “رفعت” في اعتقاده بأن “التشاؤم هو أفضل طريق للتفاؤل”، وأن خوفه من السعادة وتفكيره في عذابه بعد سقوط الجماهيرية يدفعه إلى الأفضل ويحقق له سعادة فعلية. وكمثل “رفعت” تمامًا، لم يكن توفيق لينتظر السخرية منه حتى يسبقها بالسخرية من نفسه، بدءًا من تسمية كلٍ من قصص سلسلة الرعب التي قدمها بـ”الأسطورة” تندرًا على المبالغة المعتادة في قصص الرعب.
“الله يرحمك يا دكتور ويديك السعادة اللي كنت بتفتقدها في عالمنا”.. كانت هذه أمنية أحد القراء الذي استشعر، كمثل قراء توفيق الدؤوبين، تلك التعاسة والوحدة التي تنضح من بين سطور كتاباته، وذلك الخوف من عالم يزداد قسوة على أمثاله ممن تكمن بطولتهم في قدرتهم أن يظلوا أشخاصًا عاديين، حتى كتب كثيرًا عن عوالم مخيفة تدور حول نبذ العاديين في روايتيْ “يوتوبيا” و”في ممر الفئران” و”أسطورة أرض الظلام”.
“كنت أكتب للعلاج النفسي، أكتب لكي أجد الكتب التي تسليني، أكتب للاستمتاع الذاتي وتضييع الوقت وإخراج غليان الكتب الموجود في داخلي، ولم أكتشف أن لكتبي جماهيرية سوى في كتابي العاشر أي بعد 6 سنوات من الكتابة”. هكذا أجاب توفيق سؤال الكاتب عمر طاهر عن سبب الكتابة في آخر لقاءاته ببرنامج “وصفولي الصبر.. عن الكتابة وأهلها”.
أحمد خالد توفيق الذي كان “رسامًا جيدًا” كما وصف نفسه، وظل مهتمًا بالسينما إلى حد رهيب حتى النهاية، وجد في داخله “شيطانًا” يحتاج أن يخرج بأي شكل، ووجد في الكتابة دواءً لهذا الشعور الذي لم يسمِّه فنًا أو عبقرية بقدر ما اعتبره أقرب إلى “اضطراب نفسي خاص بطبيعة الكاتب المختلفة عن الناس”.
لقِّب توفيق بالعراب، وهو في التراث المسيحي الشخص الذي يحضر عملية تعميد الطفل، وفي اللغويات هو من يتولى مسؤولية اتفاق طرفين في السر، ويأتي هذا اللقب الذي أطلقه عليه البعض لرؤيتهم في مسؤوليته عن ربط جيل الشباب بالقراءة منذ صغرهم بسلسلتيه “ما وراء الطبيعة” و”سفاري” حتى أضحت جزءًا من تكوينهم ونشأتهم.
النعي الرسمي الأول للعرّاب -كما لا يحب أن يوصف- كان من الدكتورة إيناس عبدالدايم، وزيرة الثقافة المصرية، التي قالت إن “الثقافة المصرية والعربية فقدت روائيًا عظيمًا لطالما أثرى الحياة الثقافية في مصر”. ومن بعدها جاء نعي الدكتور خالد عبدالغفار، وزير التعليم العالي والبحث العلمي، لوفاة توفيق بصفته العلمية كأستاذ بقسم طب المناطق الحارة والحميات بكلية الطب جامعة طنطا.
في حوار صحفي بعد فوزه بجائزة معرض الشارقة للكتاب عن رواية “مثل إيكاروس” قبل عامين من الآن، وبسؤاله عن أحلامه المؤجلة، اعتبر أنه تجاوز مرحلة الأحلام: “منذ مرضتُ في 2011 وأنا أشعر أن المسرحية انتهت، كل هذا نوع من المط، أو كما يقول نجيب محفوظ (القطار وصل لسيدي جابر، لا يوجد وقت قبل محطة مصر سوى لإغلاق الحقيبة وطي الجريدة والاستعداد). لا أستطيع الخلاص من نفسية المسافر هذه”.
الممثلة التونسية هند صبري نشرت ذلك المقطع الشهير من قصة “أسطورة النبوءة”، والمنظوم كالشعر الحر للتعبير عن مغزى القصة، وعقّبت: “لكنك لم تكن غريبًا؛ من يسكن خيال الناس فهو الأقرب إليهم. وداعًا أيها القريب”.
وعبّرت قارئة عن حزنها العميق بقولها: “الليلة حزينة وموحشة وحشةً تليق بوداعِ أب روحي، اليوم شعرت بانقباضة الموت المألوفة التي لم أحسن يومًا التعوُّد عليها، قلبي مليءٌ بالحزن الذي يُعجز القلم واللسان عن التعبير. رحم الله رجلًا أوجع رحيله قلوب الملايين، ولا نعزه على خالقه. في الجنة بإذن الله”.
ونقلت قارئة عبر “تويتر” مقولته: “أما أنا فأريد أن يُكتب على قبري (جعل الشباب يقرؤون)”، بينما استنكرت داليا سعودي، الكاتبة والأكاديمية المصرية، أن لا يجد توفيق ما وجدته جوان رولينج، مؤلفة سلسلة “هاري بوتر”، من اهتمام لتنشئتها الصغار على القراءة، واعتبر الصحفي تامر أبوعرب أن رحيل عراب الجيل بهذه السرعة كان طبيعيًا “لأن هذا الجيل لقليل الحظ”.
ووسط تغريدات كالسيل تتناقل اقتباسات توفيق وتنعيه بحسرة، بدت إحدى القارئات في حالة من عدم التصديق، ونشرت صورة لعشرات الكتيبات من سلسلة “ما وراء الطبيعة” متبوعة بعبارة “أنت لم تمُت يا سيدي، لا ولن تموت”.
نبيل فاروق، الذي امتنّ له توفيق كثيرًا لإلهامه بسلاسل قصص الجيب، ودّعه قائلًا إنه “رفيق رحلة كفاح، ولا يتخيل أن يفارقه في غمضة عين”. ونشر الكاتب يوسف زيدان عبر “تويتر” أن رحيل العراب استحضر قول أمل دنقل إلى وجدانه: “كل الأحبة يرحلون، فترحل عن العين شيئًا فشيئًا ألفة هذا الوطن”.
أما الإعلامي محمد الدسوقي رشدي فقد رأى أنه كان “الصديق والأستاذ والأخ الأكبر، الطيب والمحترم والمبدع، وصاحب نصف مخزون الدنيا من الحنان”. وأتبع تلك الرسالة المكلومة بمنشور أوضح فيه: “لي مع الدكتور أحمد خالد توفيق ألف حكاية وحكاية من 2005 وحتى شهر مضى، أهل جريدة الدستور يذكرون صفحة الرعب ومقالاته وقصصه العظيمة علي صفحات الدستور، وأنا أذكر جيدًا محبته وحنانه وطيبة قلبه ونصائحه ورسائل تشجيعه. خسارته وجع حقيقي”.