أخبار

هكذا تُعيد موسيقى “الأندرجراوند” وحدة الفلسطينيين

هذا الجانب لم تره من قبل لرام الله

independent

ترجمة وإعداد: ماري مراد

تتصدر الأراضي المحتلة- التي تعاني من تهديدات الهدم والصدامات العنيفة مع السلطات الإسرائيلية والاضطرابات السياسية- عناوين الصحف، لكن يبدو أن كل هذا بعيد كل البعد عن الفناء المشمس في رام الله.

ففي فترة بعد الظهر في يونيو، حينما لم يبد أن الحشود تهتم بالأخبار، بثت “Boiler Room”- القناة الأكثر مشاهدة لموسيقى الأندرجروند في العالم- للمرة الأولى من الأراضي الفلسطينية.

وبدأ البث بحفل لفريق الجزر “Jazar Crew”، ومقره في حيفا، حيث تمايلت الحشود، ورقصت امرأة مرتدية نقابًا مزيفًا و”توب سي ثرو”، وهكذا لن تتصور أن هذا الحفل مُقام في منطقة حرب، بل حفل رائع حقًا.

قرار البث من رام الله يحمل أهمية كبيرة للفلسطينيين، فبحسب تقرير صحيفة “إندبدنت” البريطانية، فهو اعتراف بعمق الموهبة التي تخرج من المنطقة، ويساعد على محاربة الصورة النمطية بأن الضفة الغربية منطقة محظورة محافظة وغير علمانية ومليئة بالإرهاب، وأصبحت عملية البث في الضفة الغربية واحدة من أكثر عمليات البث شهرة في “Boiler Room” عام 2018.

لكن الأهم من ذلك، أن الحفل يجمع موسيقيين أندرجراوند من فصائل فلسطينية منفصلة: فهناك أولئك الذين يعيشون في الضفة الغربية، ويتحدثون العربية منذ الصغر ولا يستطيعون السفر بحرية إلى إسرائيل، وآخرون من إسرائيل نشأوا يتحدثون العبرية ويناضلون للتواصل مع مشهد الضفة الغربية بعد مشاهدة مقاطع الفيديو على “يوتيوب”.

إقامة حفل يمثل أفضل وألمع الفنانين من المنطقتين، لا يمثل فقط تقديرًا للموهبة، بل يعمل أيضًا على بناء جسر وإعادة توحيد المجتمعات التي تم فصلها جغرافيًا وثقافيًا على مدى عقود.

boiler-room-3.jpg

وتقول سما، رائدة الـ”دي جيه” في الضفة الغربية: “هناك جرح كبير بين المدن الفلسطينية منذ وقت طويل، لكننا جميعًا نفس الأشخاص في النهاية، فنحن جميعًا فلسطينيون ولدينا جميعًا نفس الثقافة”.

وتوضح المخرجة جيسيكا كيلي، التي عملت مع “Boiler Room” لإبداع فيلم “أندرجراوند فلسطين” أو “Palestine Underground”، المتابعة الوثائقية لظهور حفل لأول مرة في رام الله: “يفترض الكثيرون في الغرب أن الثقافة الفلسطينية متحفظة جداً، وأن الرجال والنساء لا يختلطون، ولا يشربون أو يتعاطون المخدرات، ولا يمكن أن يكونوا شاذين جنسيًا، وهم لا يقضون معظم أوقاتهم في الحفلات”.

وتضيف: “بالطبع، القيم المحافظة هي المهيمنة إلى حد كبير في الضفة الغربية، لكن فيلمنا يظهر حقيقة أخرى مختلفة تمامًا عن هذه الصور النمطية”.

وخلال أول نقل للحفلة على فيسبوك، ترك المشاهدون عددا من التعليقات يسألون عن المكان الذي أقيمت فيه، نافيين احتمالية حدوثه في رام الله، المدينة الأكثر سكانًا ومركزًا للمقاومة في الضفة الغربية.

ويمكن القول إن مدينة رام الله، عاصمة الثقافة الفلسطينية، تمثل مركزًا لتناول الطعام الفاخر والفنون والحياة الليلية، فالمدينة التي يبلغ عدد سكانها 24 ألف نسمة فقط لها تأثير واسع النطاق على الفلسطينيين منذ فترة طويلة قبل الاحتلال الإسرائيلي.

ويبرز “أندرجراوند فلسطين” هذا الجانب من رام الله، إذ نرى شوارع مزدحمة وعائلات تسرع عبر الطريق تحت أشعة الشمس بدلاً من حرائق الإطارات أو الاحتجاجات الجماهيرية، وتبدو رام الله مثل أي مدينة أخرى في جنوب شرق البحر الأبيض المتوسط، والمباني ليست متداعية، والناس يمارسون حياتهم الطبيعية اليومية، وهناك أشجار النخيل وأعلام كرة القدم تتدلى من الشرفات، فالمدينة لا تبدو كمدينة في حالة اضطراب، بل كقاعدة خصبة للإبداع.

لكن المشهد في رام الله مقيّد بقدراته المحدودة، إذ تسمح السلطات الإسرائيلية بالحفلات طالما أنها تلتزم بحظر التجول في منتصف الليل على الموسيقى، وكان حظر التجول هذا بشكل عام يقيد الحفلات المنزلية وفي الأماكن الصغيرة، وفي الفيلم الوثائقي نرى صورًا أرشيفية من “Lawain”، مطعم إيطالي صغير يتحول إلى ناد ليلي في المساء.

وتتألف الحركة من عدد صغير من الأفراد المتحمسين وأتباعهم المُتفانين، الذين يعبرون عن سحرهم الذي يسيطر عليهم منذ فترة طويلة بثقافة الأندرجراوند، واستخدامها كوسيلة للتعبير والاحتجاج.

الصحيفة تحدثت أيضًا عن المُغني مُقاطعة، مغني الراب ودي جي الذي قام بصياغة صوت مميز مستوحى من الشوارع المزدحمة، فيتوجه مُقاطعة إلى وسط المدينة، ويخرج هاتفه ويبدأ بتسجيل صوت المنطقة: أعمال البناء، والأسواق المزدحمة مع الباعة، والأحاديث في صالونات الحلاقة والصراخ الأطفال في الملاعب.

ويقول: “هذا هو صوت رام الله، تُمسح ثقافتنا ببطء وتُسرق، نحن نفقد طعامنا، وملابسنا الرسمية، وموسيقانا، بالنسبة لي فإن إعادة استخدام الأصوات من ثقافتنا نوعا ما يجعلها على قيد الحياة وتقاوم”.

في وقت لاحق، يدمج المقطع الأصوات مع الدقات الإلكترونية إضافة إلى صوته، توقيع “صوت رام الله” أصبح رمزيًا في الموسيقى الفلسطينية.

وفي وقت لاحق في الفيلم، نرى فريق جزر، الذي يضم مجموعة من إسرائيل الذين يعتبرون مُقاطعة كمصدر لإلهامهم.

بدأ مقاطعة- المعروفة باسم الأب الروحي للهيب هوب الفلسطيني- في العام 2007 بالراب مع مجموعة “رام الله أندرجراوند” لكنه شعر بأن الموسيقى التي كانوا يبنونها بعيدة جداً عن الضفة الغربية، ومرتبطة ارتباطًا وثيقاً بالولايات المتحدة وحركات الهيب هوب العربية الأخرى. وفي عام 2009، بدأ العمل مع فرقة “سالب وحد”، بما في ذلك مغني الراب داكن، وجولمود، وهايكال، والناظر، وماكيماكوك.

ويصر مقاطعة على أن حركة الهيب هوب في رام الله متأثرة بشدة بالسياسة والحاجة إلى التغيير. ويقول: “نحن نعيش في وضع سياسي فاتر جدا لذا نحتاج إلى هذا النوع من الاضطراب”. وتوضح ماكيماكوك أن الهجوم على السلطات لا يتم بطريقة مباشرة، “بل خفية. نحن نقاوم من خلال الحفاظ على ثقافتنا على قيد الحياة، والاستمرار في خلق أشياء جديدة، جديدة ومثيرة للاهتمام.”

وتضيف ضاحكة: “لقد كان لدينا فنانون يصنعون التيكنو مع الموسيقى التجارية العربية، ويبدو أن الأمور تبدو قاتمة من الناحية السياسية، لكنها فترة مثيرة حقاً في رام الله”.

sama.jpg

اكتسبت هذه المقاومة الخفية شعبية ليس فقط داخل الضفة الغربية، ولكن مع المجتمعات الفلسطينية في أماكن أخرى، وحتى مع الإسرائيليين. ونشرت الصحيفة الإسرائيلية الأكثر شعبية ” صحيفة هاآرتس التي تصدر باللغة الإنجليزية”، مقالة عن تزايد شعبية الهيب هوب الفلسطيني في تل أبيب، مسلطة الضوء على النجوم الصاعدة من رام الله والناصرة وحيفا.

وخلال حفل “the Boiler Room” في رام الله، شرحت ديبورا أيبيكل، مبرمجة ومساعدة منتج في “أندرجراوند فلسطين”، تفاصيل التعليقات الإيجابية من الإسرائيليين. وتضيف قائلة: “كان من المفاجئ حقًا أن يرى العديد من الناس جانبًا مختلفًا من فلسطين”.

وأشارت إلى أحد التعليقات التي جاء فيها: “الكثير من الحب من إسرائيل! نرجو أن نكون جميعًا قادرين على العيش في سلام ووئام مع بعضنا البعض. المجموعة رائعة للغاية، وأتمنى أن أتمكن في يوم من الأيام من زيارة رام الله”.

وبالنسبة للفنانين من رام الله، فإن عرض “Boiler Room” يدفع بالمشهد إلى الأمام. إنه يمنحهم الدافع لمواصلة ما يقومون به.

وفيما يتعلق بتأثير “سالب واحد” فقد يمتد بعيدًا، لكنه لم يؤد بعد خارج رام الله. ويؤكد مقاطعة: “لم أتمكن قط من العرض في إسرائيل” رغم أن لديه مهنة استمرت أكثر من عقد من الزمان، ويتابع: ” لقد كنت أحاول تقديم عروض في حيفا لأربع سنوات. لقد دعاني فريق الجزر لكن الأمر لم يفلح لأنني لم أحصل على إذن بالذهاب إلى هناك، على الرغم من أنني أصلا من هناك”.

ومع أن الفيلم الوثائقي يركز على رام الله، فإنه يستكشف المشهد الموسيقي الفلسطيني في “أنحاء إسرائيل”، بحسب الصحيفة، ويبحث في النوادي على الساحل في يافا وحيفا أيضًا. ويتجلى التناقض بين المناطق في حرية الفنانين: فبينما يستطيع الفلسطينيون الذين يحملون جوازات سفر إسرائيلية السفر إلى الضفة الغربية بسهولة نسبية وإقامة حفلات دون صعوبة كبيرة، فقد أثرت قيود السفر على سكان رام الله وقدرتهم على نشر موسيقاهم خارج المدينة والتواصل مع الفلسطينيين خارج المنطقة.

ويعيش حوالي 1.8 مليون فلسطيني في إسرائيل، وتعتبر حيفا- مدينة تقع على الساحل الشمالي- موطنا لواحدة من أكبر التجمعات الفلسطينية. والمدينة ممتعة ونابضة بالحياة، وتمزج من تل أبيب والقدس. وهي أكثر سلمًا من جيرانها، ومعروفة بكونها ملاذاً نسبيًا للتعايش بين اليهود والمسلمين.

muquata-a.jpg

لكن هذا لم يمنع الفلسطينيين من الشعور بالعزلة عن ثقافة النوادي. لذا، بدأ فريق الجزر، المكون من عايد وروجيه ورياض وهلال، إقامة حفلاته الخاصة لتوفير مساحات آمنة للشباب الفلسطيني بعيدًا عن أعين المتطفلين من الفلسطينيين المحافظين والسلطات الإسرائيلية. ويقول: “لا يوجد شيء لنا كفلسطينيين نعيش في إسرائيل. عندما كنا نذهب إلى النوادي كنا نشعر وكأننا غرباء. بعد بضع سنوات، أدركنا أنه حسنًا، دعنا نتوقف عن كوننا مستهلكين، دعنا نكون منتجين”.

من الواضح أن دوافع فريق الجزر ليست الإقصاء، ولكن تغيير التصور حيال العرب. وافتتح الفريق مؤخرا مكانه الخاص “كارابيت” في حيفا. ويتبع الفريق فيه سياسة الباب المفتوح دون تمييز، فلا يتم إظهار البطاقة الشخصية عند الدخول، فهو يرحب بالجميع باختلاف خلفياتهم، مؤكدًا أن “العنصرية لا تُحل أبدًا بالعنصرية”.

في “أندرجراوند فلسطين”، يبدو كارابيت مُرحبًا ودافئًا، حيث تتمايل الحشود تحت الضوء الأرجواني.

ويقول أودز، الدي جيه الذي اكتسب مشجعين ليس فقط في الشرق الأوسط ولكن من جميع أنحاء أوروبا: “منذ عام 2010، كان هناك جسر بين حيفا ورام الله الذي بناه أنا وفريق الجزر ، لقد عملنا عليه منذ فترة طويلة”.

وهرب أودز من من رام الله إلى جعفر، الجالية الفلسطينية في تل أبيب، للانضمام إلى “آنا لولو”، ملهى ليلي على الشاطئ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى