قراءة في “الملاك”.. ناصر لم يكن موافقا على زواج ابنته من أشرف مروان
كتاب “الملاك”: كانت آخر خدمات أشرف مروان لإسرائيل تسريب محادثات السادات وكيسنجر
كتبت- غادة قدري
مرت عشر سنوات على وفاة أشرف مروان الغامضة في لندن، إثر سقوطه من شرفة منزله في الطابق الخامس إلى حديقة منزل في شارع “كارلتون هاوس تيراس”، الرجل، الذي وصفه إسرائيليون بعد وفاته بأنه “أعظم جاسوس في القرن العشرين” لمصلحة إسرائيل، وصفه عدد آخر من رجال الاستخبارات الإسرائيلية بأنه كان عميلًا مزدوجًا، وأنه خدع إسرائيل بخصوص توقيت عبور خط بارليف واندلاع حرب السادس من أكتوبر.
ويصرّ المصريون أن أشرف مروان -المعروف إعلامًيا بـ”الصهر” كونه كان متزوجًا من ابنة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر- كان رجلًا وطنيًا مخلصًا، وأنه نجح في تضليل الإسرائيليين قبل 6 أكتوبر عام 1973، وعندما سقط قتيلًا عام 2007 حظي جثمانه الذي وصل مغطى بعلم مصر باستقبال رئاسي رفيع منذ لحظة وصوله إلى القاهرة حتى دفنه، فكان في استقباله بالمطار الدكتور زكريا عزمي، رئيس ديوان رئيس الجمهورية وشيع جنازته خالد وعبدالحكيم ابني الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وجمال مبارك، فضلا عن رئيس البرلمان وقتها فتحي سرور ورئيس مجلس الشورى صفوت الشريف والدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر والوزراء وكبار قادة القوات المسلحة.
لكن كتابًا جديدًا ظهر منذ أكثر من عام يحمل عنوان “الملاك” بعنوان فرعي “الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل”، يؤكد على الرأي الإسرائيلي الأول الذي يعتبر مروان جاسوسا مخلصا لإسرائيل، ويصرّ مؤلف الكتاب، يوري بار جوزيف، أستاذ العلوم السياسية في جامعة حيفا، على أن أشرف مروان لم يكن عميلًا مزدوجًا كما أشيع، بل هو من أكفأ وأصدق الجواسيس الذين وثقت بهم إسرائيل.
صدر الكتاب أولا بالعبرية عام 2010، وتمت ترجمته العام الماضي للإنجليزية، ثم صدرت الترجمة العربية للكتاب “الملاك.. الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل” ليوري بار- جوزيف. عن “الدار العربية للعلوم – ناشرون”، وصدرت طبعته المصرية عن مكتبة “تنمية” ترجمة فادي داؤد في 335 صفحة.
يحتوي الكتاب على ثلاثة عشر فصلًا، ويبدأ بوصف للقاهرة بمشهد يوم صيفي حار في خان الخليلي:
“يتميز شهر تموز في القاهرة بأنه شهر حار، والأول من تموز 2007 لم يكن استثناءً. الشوارع الضيقة مكتظة بملايين المارة المتصببين عرقا، وهم يصطحبون أولادهم في إجازتهم الصيفية. كان سوق خان الخليلي يغص بربات بيوت يشترين حاجتهن على عجل، وبسياح أتوا لرؤية سحر هذا السوق الشرقي الشهير، بينما كان سائقو سيارات الأجرة الثمانية آلاف في القاهرة يطلقون أبواق سياراتهم وهم يجاهدون لإيجاد سبيل عبر شوارع المدينة المختنقة بالسيارات.
غير بعيد عن هذه الفوضى كانت ينتصب مسجد عمر بن عبد العزيز في حي هليوبلس في ضاحية مصر الجديدة، حيث كان مئات المحزونين يحضرون جنازة في المسجد مرتدين، على نحو غير اعتيادي، بذلات رسمية مع ربطات عنق، أو لباسا عسكريا، كانوا من النخبة السياسية والأمنية والمالية، وقد أتو جميعًا لإلقاء نظرة الوداع على رجل كان واحدا منهم- فرد من العائلة، صديق، زميل، وشريك في العمل لسنوات: إنه الدكتور أشرف مروان”
“الملاك” هو الاسم الكودي الذي أطلقه الموساد على أشرف مروان، يبدأ الفصل الأول من الكتاب من حيث انتهت حياته، يطل مشهد صلاة الجنازة التي ضمت صفوة السياسيين ورجال السلطة في عصر مبارك في صيف 2007، لكن من أثار الاستغراب وقتها غياب أسرة الرئيس الراحل أنور السادات والذي كان صديقا مقربًا لأشرف مروان.
ويستعرض بار جوزيف في الفصل الأول من الكتاب أيضا نشأة أشرف مروان وتطلعه نحو السلطة والثراء، بداياته وأصوله التي تعود لعائلة كبيرة في المنيا بصعيد مصر، ومولده عام 1944 والتحاقه بكلية العلوم بجامعة القاهرة وحصوله على شهادة البكالوريوس في الكيمياء عام 1965، وعمله في مصنع للكيماويات يتبع الجيش المصري، ثم لقاؤه بمنى ابنة جمال عبدالناصر في نادي هليوبوليس والتي وصفها بار في كتابه بأنها كانت منفتحة مقارنة بشقيقتها هدى المتفوقة والملتزمة دراسيا.
“كانت أفضل طاقات أشرف مروان تنصب على ملاعب التنس. كان عضوا في رابطة مشجعي نادي هيليوبلس سبورتنغ، الذي لا يبعد أكثر من ثمانمائة متر عن منزل والديه. وهناك، في عمر الحادية والعشرين، التقى المرأة التي أصبحت في ما بعد زوجته ورافعته على الهرمية المصرية”.
حاول أشرف مروان التقرب من منى الابنة الصغرى لعبد الناصر ليصبح من الصفوة الحاكمة في مصر، وعلى الرغم من أن منى كانت مغرمة جدا بمروان لكن الشكوك ساورت والدها الذي تحرى عن أشرف فوجده شابًا انتهازيًا، حاول إبعاد ابنته عن تلك الزيجة لكنه في النهاية رضخ أمام رغبتها في الارتباط بمروان، وتم الزفاف الذي أحيته كوكب الشرق أم كلثوم، والعندليب عبد الحليم حافظ.
تبدأ الحكاية الحقيقية لـ أشرف مروان بعد زواجه، إذ عينه الرئيس الراحل في مكتبه تحت إدارة سامي شرف مدير مكتبه، لكن وبسبب التضييق والرقابة الصارمة وحياة التقشف التي فُرضت على مروان قرر أن يسافر إلى لندن لينال درجة الماجستير، وفي لندن تعرف على عبد الله المبارك الصباح، المليونير الكويتي وزوجته سعاد الصباح، وقبل منهما عرضا بتسديد ديونه من لعب القمار.
وصلت إلى القاهرة أنباء عن ما يفعله مروان في لندن وعلاقته بعبد الله الصباح وقبوله المال فأمره عبد الناصر بالعودة إلى القاهرة بعد أن يعيد المال إلى عبدالله وسعاد الصباح، ولم يسمح له عبد الناصر بالسفر إلا لأداء الامتحانات.
عاد مروان للعمل في مكتب الرئيس مرة أخرى مع سامي شرف، والذي يبدو من وصف بار جوزيف أن علاقتهما لم تكن على ما يرام، فمروان كان يشعر طوال الوقت أنه مهمش في دائرة صنع القرار وعبد الناصر لا يثق به.
“شق أشرف مروان طريقه إلى الموساد الإسرائيلي عبر إحدى حجرات الهاتف الحمراء الشهيرة التي تميز لندن. زيارته إلى لندن كانت على علاقة بدراسته، بحسب الاتفاق بين ناصر ووالده. ادعى البعض لاحقا أنه ظهر فجأة ذات يوم في السفارة الإسرائيلية طالبا التحدث مع ضباط الاستخبارات، لكن هذا غير صحيح. قد يكون مروان متهورا في تعامله مع الإسرائيليين، لكن اتصاله الأول انطوى على قدر كبير من التروي”
مع بداية الفصل الثاني من الكتاب يسهب جوزيف في وصف الحالة المادية المحدودة التي عاشها مروان في القاهرة، يقول إنه كان يتطلع باستمرار للثراء والحياة ببذخ، ولأنه كان حانقا بسبب معاملة عبد الناصر وسامي شرف فقد تخلى عن انتمائه للوطن من أجل المال فقرر أن يخوض تجربة محفوفة بالمخاطر،وفي أحد زياراته إلى لندن لأداء الامتحانات التقط سماعة الهاتف من أحد كبائن التليفونات في الشارع واتصل بالسفارة الإسرائيلية في لندن وطلب التحدث مع الملحق العسكري لكن لم يتمكن من التواصل معه.
في زيارة ثانية أعاد مروان الاتصال بالسفارة الإسرائيلية في لندن، فانتبهت له الاستخبارات الإسرائيلية، حامت حول نواياه الشكوك وأصابهم بالحيرة، خشية أن يكون مدفوعا من مصر، لكن كونه صهر الرئيس عبد الناصر جعلهم يفكرون كيف يعرض نفسه للخطر، فتم التعامل معه بحذر حتى تم ترتيب لقاء بين أشرف مروان و مائير مائير، رئيس المكتب 6 “مكتب الأبحاث في المخابرات العسكرية الإسرائيلية المختص بمصر” الذي قام باستجوابه تفصيليا عن الجيش المصري، فأعطاه مستندات تحوي معلومات سرية دقيقة بالغة الأهمية.
“حدث اللقاء الأول مع أشرف مروان بعد قرابة أربعة أشهر من اتفاق وقف إطلاق النار في 7 آب 1970 الذي وضع حدا لحرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل. لم تعط حصيلة تلك الحرب لحكومة المصرية أي سبب للاعتقاد بأنها في موقع يؤهلها لإطلاق جولة أخرى من الأعمال القتالية، وخاصة إذا كانت تهدف إلى عبور قناة السويس واستعادة شبه جزيرة سيناء. صحيح أن الحرب أثبتت عزم مصر على تعويض خسارة حرب الأيام الستة، لكنها أثبتت أيضا ضعف قدراتها العسكرية.
كانت الاستراتيجية التي اتبعها المصريون في حرب الاستنزاف تهدف إلى ثني عزيمة الإسرائيليين عن القتال من خلال السفك المستمر لدماء جنودهم، استفادت مصر من تفوقها في سلاح المدفعية وكانت تمطر بشكل مستمر خطوط التحصينات الإسرائيلية على طول القناة والمعروفة بخط بارليف….”
في ذلك الوقت انتهت حرب الاستنزاف، وتوفي عبد الناصر، وصعد السادات إلى سدة الحكم وبدأت مصر تحشد استعداداتها لتحرير سيناء بعد هزيمة 1967، حاولت مصر الحصول على دعم من السلاح السوفيتي للحماية من الطيران الإسرائيلي، إذ كانت تفتقد لطائرات المضادة وبعض الصواريخ.
“خلف السادات عبد الناصر وكان نائبه وهو أحد الأعضاء الاقل بروزا في القيادة المصرية التي تولت زمام الأمور بعد خركة الضباط الأحرار عام 1952. كانت التوقعات، سواء في العالم العربي أو في إسرائيل، أن السادات لن يتمكن من الاحتفاظ بالسلطة لفترة طويلة. لكن في غضون الأشهر القليلة التالية رسخ موقعه، ملحقا الهزيمة بخصومه وسابحا في بحر النجاة…”
كانت إسرائيل تعلم جيدا أن مصر لا يمكنها الدخول في حرب مع إسرائيل لافتقادها جانبا مهما من العتاد العسكري، فموقف مصر كان ضعيفا وقتها، في ذلك الوقت أصبح أشرف مروان مديرا لمكتب السادات، واطمأنت إسرائيل أن نوايا السادات أصبحت كتابا مفتوحا أمام أعينهم.
في عام 1972 رفض السوفييت منح مصر الطائرات والأسلحة خوفا من الهزيمة، فطرد السادات الخبراء العسكريين السوفييت من مصر، وخشيت روسيا أن تتحالف مصر مع أمريكا فأسرعوا بإتمام الصفقات العسكرية التي طلبها السادات، وطبعا كانت تلك المعلومة التي نقلها مروان إلى تل أبيب.
شككت الاستخبارات الإسرائيلية في نية السادات خوض الحرب بسبب قدرات مصر العسكرية، لكن معلومة قالها مروان عن اجتماع الرئيس مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة في 24 أكتوبر 1972 ليعلمهم بحتمية الحرب حتى دون توافر أسلحة الردع السوفيتية جعلتهم يعيدون التفكير بشأن شكوكهم.
في أبريل عام 1973 أخبر أشرف مروان الإسرائيليين أن الحرب وشيكة، ما دفع إسرائيل إلى استدعاء قوات الاحتياط، ووضع الجيش الإسرائيلي في حالة تأهب قصوى، لكن في أغسطس، يئس وزير الدفاع موشى ديان من قيام الحرب، وقام بخفض حالة التأهب.
“في تموز 1952 وبعد الفشل مرارا في تأمين “أسلحة ردع” من السوفييت، أعلن السادات فجأة بأن قوات الجيش الأحمر التي كانت متمركزة في مصر منذ أوائل عام 1970 سوف تعود إلى ديارها. كان السوفييت أرسلوها مع منصات سام متقدمة وأسراب من المقاتلات والطائرات السوفييتية لمساعدة مصر على تحييد دور التفوق الجوي الإسرائيلي، لكنها قوَّضت إستقلالية مصر في اتخاذ القرارات المصيرية، ستظل للكرملين السلطة لنقض أي قرار مصيري بالحرب، وهي حقيقة كان يعرفها السادات جيدا”.
بدأ السوفييت يوم الخميس 4 أكتوبر 1973، بإجلاء رعاياهم في مصر وسوريا، اعتبر موشى ديان تلك الخطوة كإشارة مقلقة مؤكدة عن نية السادات بدء الحرب، في نفس اليوم اتصل أشرف مروان بالموساد ليطلب لقاء رئيس الموساد زامير زامير، والتقيا في لندن بعد ساعات هرع زامير لإبلاغ القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية في الساعات الأولي من السبت 6 أكتوبر بالمعلومات المؤكدة عن شن القوات المصرية والسورية الهجوم في الساعة السادسة من مساء ذلك اليوم.
“إلى أي مدى نجح تحذير أشرف مروان، وهو أوضح تحذير مُسبَق بوقوع الحرب تتلقاه إسرائيل يوما، في تبديد التصور بأن مصر لن تشن حربا أبدا طالما أنها لم تمتلك الطائرات بعيدة المدى وصواريخ سكود؟ إنه ليس مجرد سؤال أكاديمي فبعد أن تكشفت أحداث ذلك اليوم، اتضح أن كل لاعب رئيسي قد تصرف تبعا لرؤيته الخاصة لمدى الجدية التي عليه أن يأخذ بها تحذيرات مروان، وفي بعض الأحيان لدرجة تجاهل الأوامر المباشرة”.
ويبرر بار جوزيف خطأ تحديد موعد الحرب الذي حدده أشرف مروان 6 مساءً بدلا من 2 ظهرًا، بأنه كان هناك موعدان للحرب وتم تعديل التوقيت حتى يتناسب مع القوات السورية.
بعد الهجوم المصري والسوري تكبدت القوات الإسرائيلية خسائر كبيرة، اجتمع بعدها مجلس الوزراء الإسرائيلي يوم 12 أكتوبر لمناقشة طلب وقف إطلاق النار وهو يعني اعتراف إسرائيل بهزيمتها.
وكانت آخر خدمات مروان في الحرب للإسرائيليين تسريب محادثات وقف إطلاق النار، حيث سرب تفاصيل لقاء كيسنجر بالسادات في أسوان.
انتهت الحرب، ومنحت إسرائيل أشرف مروان مكافأة قدرها 100،000 دولار تقديرًا لمجهوداته وتحذيراته في أثناء فترة الحرب.
في القاهرة انتهت خدمات مروان مديرا لمكتب السادات، وتولى رئاسة “الهيئة العربية للتصنيع” وأصبح مندوب مصر في “نادي سفاري”.
وفي عام 1981 بدأ أشرف مروان حياته الجديدة المترفة كرجل أعمال في لندن. لكن وبحسب مؤلف “الملاك” أثارت حياة مروان الصاخبة والباذخة حقد المصريين فبدأ رئيس مجلس إدارة أخبار اليوم، موسى صبري، في شن الحملات الصحفية المتتالية لكشف فساده المالي.
وفي 27 يونيو عام 2007 سقط أشرف مروان من شرفة منزله في حادث غامص، يذكر جوزيف في الكتاب أنه كان يوما غائما في لندن، ويستعرض في الفصل الأخير “سقوط الملاك” التحقيقات والاحتمالات التي أدت إلى انتحاره، وتباين الآراء حول من قتله وحالته النفسية، واستعراض لبعض المقالات في الصحف المصرية عقب مصرعه، والتصريحات التي أدلت بها منى عبدالناصر للصحافة والشكوك حول محمد الفايد منافسه، ومعمر القذافي، وعزام الشويكي أحد الذين عملوا بشكل وثيق مع مروان.
وينتهي الكتاب وتبقى حقيقة أشرف مروان لغزا غامضا.