فورين بوليسي: المصريون أسسوا حضارة الصين
فورين بوليسي: عالم صيني.. حضارتنا أسسها قدماء المصريين
إعداد وترجمة: محمد الصباغ
في يوم أحد لطيف من شهر مارس، ألقى عالم كيمياء وجيولوجيا اسمه “سون وي دونج” أمام جمع من العامة، والطلاب وأساتذة كلية العلوم والتكنولوجيا في مدينة “خفي” عاصمة إقليم آنهوي بشرق الصين. لكن الأستاذ الجامعي لم يتحدث عن الكيمياء والجيولوجيا فقط. بل أشار إلى أن بعض الكلاسيكيات الصينية، مثل عبارات المؤرخ الصيني “سيما كيان” ووصفه لطبوغرافيا إمبراطورية شيا، عادة ما ينظر إليها على أنها الأسرة المؤسسة للصين، وحكمت من 2070 قبل الميلاد إلى 1600 قبل الميلاد. وكتب سيما كيان في أول عمل تأريخي له، سجلات المؤرخ الكبير، “ينقسم التيار في الشمال ليصبح 9 أنهار. يتحدون ليشكلون النهر المقابل ويصبون في البحر.”
بعبارة أخرى، “التيار” في عبارته لم يكن النهر الأصفر الشهير في الصين، والذي يتدفق من الغرب إلى الشرق. وتساءل الأستاذ الجامعي “لا وجود إلا لنهر رئيسي واحد في العالم يتدفق شمالا. ما هو هذا النهر؟” وأجاب أحد الحضور “النيل”. ثم أظهر “سون” خريطة لنهر النيل الشهير ودلتاه –مع 9 من أفرعه تصب في البحر الأبيض المتوسط. هذا الناشر، الباحث في المؤسسة نفسها، تابع الحضور وهم يبدؤون الابتسامات والأحاديث الجانبية، مذهولين من أن تلك النصوص الصينية القديمة وهي تبدو متماشية بشكل أفضل مع جغرافيا مصر أكثر من الصين.
خلال العام الماضي، أشعل “سون”، العالِم المرموق، مناقشة إلكترونية مليئة حينما زعم أن مؤسسي الحضارة الصينية لم يكونوا بأي شكل من الأشكال صينيين، بل مهاجرين من مصر. في فترة التسعينيات، عندما كان يقوم بتحديد عمر مواد برونزية صينية قديمة باستخدام مواد إشعاعية، فوجئ بأن التكوين الكيميائي يشبه بشكل أكبر المواد البرونزية التي تعود للمصريين القدماء أكثر من الخامات الصينية الأصلية. أفكار “سون” والجدل المحيط بها ينبعان مما هو أقدم من تقاليد علم الآثار الوطنية في الصين، والذي لأكثر من قرن فشل في سعيه للوصول إلى إجابة سؤال علمي أساسي دائما ما كان يتم تسييسه: من أين أتى الشعب الصيني؟
أشار “صون” إلى أن التقنية المستخدمة في العصر البرونزي الصيني، من الشائع وسط الباحثين أنها دخلت البلاد لأول مرة عن طريق الشمال الغربي للدولة عبر طريق الحرير، وفي الحقيقة عبر البحر. ووفقا لسون، من جلبها كانوا الهكسوس، الأسيويين من غرب القارة الصفراء الذين حكموا أجزاء من شمال مصر كأجانب في الفترة بين القرن الـ17 والـ16 قبل الميلاد، حتى تم طردهم. وأشار إلى أن الهكسوس امتلكوا في فترة أقدم كل هذه التقنيات المذهلة –معدن البرونز ومركباته والقراءة والكتابة، وتربية الحيوانات والنباتات- التي اكتشفها الأثريون في مدينة “ين” القديمة، العاصمة التي اتخذتها الأسرة الصينية الثانية في الفترة بين 1300 و1046 قبل الميلاد. ولأن الهكسوس طوروا السفن لأغراض حربية وتجارية وبطريقة تمكنهم من الإبحار في البحرين المتوسط والأحمر، تكهن “سون” بأن عددا قليلا من السكان هرب من الأسر الحاكمة المنهارة مستخدمين تقنية الملاحة البحرية التي أتت بهم وبثقافة عصرهم البرونزي إلى الساحل الصيني.
تسبب افتراض “سون” في جدل ضخم حي نشر موقع سفر صيني “كونياو” لأول مرة مقاله المكون من 93 ألف حرف في سبتمبر 2015. كما علقت مجلة “كاي زين” الليبرالية بأن “عنوانه الشجاع ولغته الجريئة جذبت اهتمام الكثير من القراء.” وكان العنوان “كشف أثري مدمر: أجداد الشعب الصيني جاؤوا من مصر”، وتم تداول المقال ومناقشته عبر الإنترنت. كما صنع موقع “كونياو” صفحة شهدت زيارات كثيرة، مخصصة للموضوع على منصة المدونا “ويبو” -بوسم عنوانه “الصينيون جاؤوا من مصر”- والتي احتوت على إجابات بسيطة ومفيدة على أسئلة العامة. عبر البعض بالطبع عن الغضب، فكتب أحد الأشخاص “نظرية الخبير السخيفة تقبل بشكل عشوائي أن يكون أي شخص هو من الأجداد”. وتساءل آخر “تلك عقدة النقص التي يشعر بها الكثيرون في عملهم! كيف يكون أطفال الإمبراطور الأصفر من مصر؟ هذا الموضوع بالفعل مثير للشفقة.”
وما فكر فيه معلقون آخرون بشكل أكبر. أهم لو لم يقتنعوا بشكل كامل، هم على الأقل قادرون على التعامل مع نظرية “سون” كتسلية. كما طغت بعض التعليقات الفضولية، فكتب أحدهم “أتفق. يجب أن نتعامل بذكاء مع هذه النظرية. إما أن تكون خاطئة أو حقيقية، هي جديرة بالتحقيق.” وكتب آخر “العالم مكان كبير نجد أشياء غريبة فيه. لذا لايمكن القول بأن ذلك مستحيل.” وعبر آخر عن رأيه قائلا “لا يمكن للفرد التعامل مع النظرية بالرفض الكامل دون دليل على زيفها. يمكن لتبادل الثقافات أن تكون شديدة العمق والجذور.”
واستباقا لمنتقديه، كتب “سون” عبر الإنترنت أن فحصا جديدا لأصول الحضارة الصينية “ربما يظهر كسخيف في أعين البعض، لأن المؤرخين منذ وقت طويل قالوا صراحة: نحن أبناء الأباطرة يان والأصفر.” واتخذ المؤرخ سيما كيان من تلك الشخصيات الأسطورية أجدادا للصينيين من “الهان”؛ وحفيد الإمبراطور الأصفر، يو العظيم، كمؤسس لمملكة شيا الأسطورية. صارت هذه القصص أصلا للروايات حول الإمبراطورية الصينية واستمر تصديقها لعصور بعد حلول الجمهورية عام 1912، لذلك حتى الأبناء المتمردين -مثل سون سات سين، وتشانج كي سيك، ومؤسس الجمهورية الشعبية ماو زي دونج -في بعض الوقت شعروا بحاجتهم إلى تقديم الاحترام لمقبرة الإمبراطور الأصفر. حتى الآن، الزعم المتكرر كثيرا بأن الحضارة الصينية التي تعود إلى حوالي 5 آلاف عام، ينظرون إليها كنقطة بداية لعصر الإمبراطور الأسطوري المزعوم.
من غير المعلوم للكثيرين أن أحد المحرضين ضد أسرة تشينغ الحاكمة، كان أول من نشر هذا الزعم حول الأسر القديمة في الدولة، وذلك عام 1903. كما رأت أيديولوجيته القومية الأمر “لو رغبنا في الحفاظ على بقاء أمة الهان، إذا يتحتم علينا تبجيل الإمبراطور الأصفر.” في ذلك التوقيت، كان عصر “تشيغ” في تدهور كبير، و من الواضح أن تراجعه الحاد مقارنة بالقوى الغربية تسبب في البحث عن الذات بدرجة أكبر. بدأ المثقفون المعادون لـ”تشينغ” بعمل دراسات نقدية لجذور الحضارة الصينية، ولأول مرة، واستقروا على فكرة أنها تعود إلى الغرب. كان العمل الذي استولى على خيالاتهم بشكل كبير هو العالم اللغوي الفرنسي، ألبرت تيريان دي لا كوبييه، الذي نشر في عام 1892 كتابه “الجذور الغربية للحضرة الصينية القديمة من 2300 إلى 200 قبل الميلاد” وتمت ترجمته إلى الصينية عام 1903.
توصلوا إلى فرضية أن الإمبراطور الأصفر كان معروفا باسم “ناخونتي”، الذي من المفترض أنه قاد شعبه إلى خارج الشرق الأوسط إلى السهول الوسطى للنهر الأصفر في عام 2300 قبل الميلاد.
اختفى التحيز الأيديولوجي ليحل العلم في الفترة التي تلت عصر الإصلاح ما بعد 1978، لكن الهدف الأسمى لعلماء الآثار الصينيين ظل باقيا: إبقاء تاريخ الامة الصينية متكاملا. أفضل الأمثلة المعروفة على هذه الفترة هو مشروع التسلسل الزمني لتشيا شانغ زو، والذي تأثر بشكل مباشر بالإنجازات الأثرية المصرية. زار مستشار مجلس الدولة سونج جيان مصر عام 1995، وانبهر بعلم الأنساب “تسلسل الأنساب” للفراعنة الذي يعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد. شجعه ذلك على مشروع يقارن فيه الأسر الصينية وسلالاتها. عمل به أكثر من 200 خبيرا بتكلفة بلغت 1.5 ملايين دولار كل 5 سنوات من المشروع والذي يستمر لحوالي 40 عاما.
شكك البعض في دوافع مشروع التسلسل التاريخي. وكان من أكبر منتقدي المشروع هو المؤرخ من جامعة شيكاغو، إدوارد إل شوجانسكي، الذي انتقد “وجود رغبة شوفينية لدفع السجل التاريخي إلى الألفية الثالة قبل الميلاد، لجعل الصين على قدر المساواة مع مصر.” وأشار إلى أن الأمر سياسي وقومي بشكل أكبر. فيما انتقد آخرون طريقة المشروع ونتائجه. على سبيل المثال، أشارت العالمة بجامعة ستانفورد “لي ليو” إلى حقيقة أن المشروع اعتبر عصر أسرة شيا تاريخيا وثبّت تواريخ محددة له، في حين أنه لا يوجد أي دليل أثري دامغ على ذلك.
لكنّ للمشروع أيضا المدافعين عنه، مثل عالم الإنسان “الأنثروبولوجيا” يون كيون لي، الذي أشار إلى أن “العلاقة الجوهرية بين دراسة الماضي والقومية لا يعني بالضرورة أن الدراسة حول الماضي فاسدة في جوهرها.” وأوضح أن جدوى علم الآثار في زيادة الفخر الوطني والشرعية يعني أن أغلب التراث الأثري به نزعة وطنية من خلفه. وتابع أنه في إسرائيل مثلاً، يركز علماء الآثار على فترة العهد القديم، وفي الدول الإسكندنافية، يركزون على فترة الفايكنجز. وأضاف “السؤال الأهم الذي يجب أن نسأله هنا هو ما إذا كان هؤلاء العلماء قادرين على الحفاظ على دقتهم العلمية.”
بطرق عدة، نظرية “سون” الحالية هي نتيجة غير مقصودة لدقة مشروع التسلسل الزمني. مع بداية المشروع عام 1996، كان طالب دكتوراه في مختبر الإشعاع بجامعة العلوم والتكنولوجيا. ومن بين حوالي 200 قطعة تنتمي إلى العصر البرونزي كان مسؤولا عن تحليلها، بعضهم جاء من مدينة “ين”. وجد أن النشاط الإشعاعي لتلك المواد البرونزية لديها تقريبا نفس الخصائص للمواد البرونزية عند المصريين القدماء، مشيرا إلى أن الخامات بها جاءت من نفس المصدر: المعادن الإفريقية.
وربما خوفا من الجدل المثار، طلب القائم على رسالة الدكتوراه الخاصة بسون أن يسلم النتائج والبيانات ثم يعمل على مشروع آخر. وبعد 20 عاما من بداية بحثه، أصبح “سون” جاهزا الآن لقول كل ما يعرفه حول ثقافة العصر البرونزي الصيني.
على الرغم من تقبل العامة لنظرية سون بعقل متفتح فإنه ما زال بعيدا عن السلوك الأكاديمي السائد. منذ التسعينيات، تقبل معظم علماء الآثار الصينيين فكرة أن أغلب تقنيات العصر البرونزي للدولة جاءت من خارج الصين. لكن لا يعتقدون أنها جاءت بشكل مباشر من الشرق الأوسط تزامنا مع عمليات هجرة. إجماعهم الأكبر يدور حول انتقال ذلك إلى الصين من وسط آسيا عبر عمليات تبادل ثقافي بطيئة (التجارة أو الضرائب أو مهور الزواج) من الحدود الشمالية، من خلال الرعاة في أوراسيا الذين كانوا على اتصال بالجماعات الأصلية في المنطقتين.
بالرغم من ذلك، يبدو أن الانبهار بمصر القديمة لن يظهر قريبا. فالمشاعر عميقة وتحركها جذور سياسية. وظهر ذلك مرة أخرى أثناء زيارة الرئيس الصيني شي جين بينج، إلى مصر في يناير لتخليد الذكرى الـ60 لبداية العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين. عند وصوله وجه شي تحية للرئيس السيسي من خلال مصطلح عربي: “لو شربت من مياه النيل مرة واحدة، فمصيرك هو العودة.” واحتفلا بحضارة الدولتين بزيارة مشتركة إلى معبد الأقصر.
يبقى أن نرى ما إذا كانت نتائج “سون” ستدرج في السياسات السائدة لإثبات بقاء العلاقات المصرية الصينية الثقافية القائمة منذ القدم. لكن لو حدث ذلك، سيكون المصطلح الذي نطق به الرئيس الصيني نبوءة غريبة.