فورين أفيرز: المنوفية “وادي الملوك”.. كيف تصنع الرؤساء؟
فورين أفيرز: المنوفية “وادي الملوك”.. كيف تصنع الرؤساء؟
فورين أفيرز – Peter Schwartzstein
ترجمة: محمد الصباغ
حتى مع نشأته فقيرًا وأميًّا بجوار حقل صغير بنهاية إحدى الترع، علم أحمد فوزي منذ الصغر بأن هناك شيئا ما غير عادي يخص موقعه في دلتا النيل. خلال الجولات على الطريق الترابي إلى قويسنا، كان والده يشير إلى المنازل التي ولد بها مسئولين رسميين وسياسيين وعسكريين أقوياء. على ضواحي مدينة قويسنا، تبدأ المعالم في الظهور بشكل كثيف وسريع. يقول فوزي، الذي يعمل ميكانيكي وعمره 25 عامًا: “رئيس الوزراء الجنزوري كان يصلي هنا، والجمسي –رئيس أركان الجيش سابقًا- ولد هنا،” مستعيدًا معلومات والده عن الشخصيات البارزة من المنطقة.
المنوفية، حيث ولد فوزي، معروفة بأنها أنجبت أربعة من آخر خمس قادة لمصر. أنور السادات وحسني مبارك هم أمثلة على أبناء المحافظة الأصليين، فيما هناك عبد الفتاح السيسي وعدلي منصور، بالرغم من أن عائلاتهم هاجرت إلى القاهرة قبل ميلادهم. كما أن وزير الدفاع الحالي وأحد الخلفاء المحتملين للسيسي، صدقي صبحي، منوفي، ومثله إبراهيم محلب، الذي شغل منصب رئيس الوزراء تحت قيادة السيسي حتى سبتمبر 2015. أعداد الشخصيات العسكرية والمدنية التي خرجت من المحافظة مذهلة وخصوصًا عندما يوضع في الحسبان أن المنوفية هي سابع أصغر محافظة في مصر، والحادية عشر من حيث عدد السكان. ويضيف فوزي في اللحظة التي يمر فيها أحد القطارات من بمحطة قويسنا الصغيرة: “نحن ننتج رؤساء مثلما يصنع الآخرين الأثاث.”
يشير المصريون في كل مكان إلى هذه الميزة الخاصة أيضًا، مما جعل المحافظة مصدرًا للكثير من النكات. فيسأل القاهريون على سبيل الدعابة أحد الأصدقاء “هل أنت منوفي؟”، حينما يقوم بسلوك فيه بخل أو دهاء. لكن المنوفيون يتحدثون عن إنجازات محافظتهم بكل فخر، ولديهم أفكار حول أسبابها. فيقول محمد مكارم، أحد باعة العرقسوس على طريق الإسكندرية القاهرة الزراعي الممتد والمزدحم: “الإيمان والتعليم.” ويضيف: “هذه ركائزنا، وتسمح لنا بالازدهار.”
وادي الملوك
بدأت قصة المنوفية والنفوذ السياسي في أواخر القرن التاسع عشر، عندما قرر عبد العزيز باشا فهمي، أخد السياسيين الليبراليين البارزين من المحافظة، تحسين جودة المدارس هناك. مع بداية العقد الأخير من القرن التاسع عشر، قرر التحرر من البريطانيين –الذين احتلوا مصر عام 1882 وقيدوا فرص التعليم التي تمولها الدولة للمصريين، في محاولة لجعل السيطرة عليهم أمرًا أسهل. أقنع فهمي مجموعه من زملائه بمحافظة المنوفية بالتبرع بأرض لإنشاء مدارس خاصة. وبحلول عام 1914، كانت مؤسستهم “المساعي المشكورة” تقوم بتعليم حوالي 15% من تلاميذ مصر من غير الأجانب، وأصبحت المنوفية أحد أفضل المحافظات من حيث التعليم. تعلم إبراهيم عيسى، رئيس التحرير المعاصر الشهير والسياسي المعارض، بمدارس المؤسسة، وكذلك حسني مبارك، حيث قابل بها أحد وزراء داخليته، ذكي بدر. في السنوات التي سبقت استيلاء جمال عبد الناصر وضباطه الأحرار على السلطة عام 1952، كانت النشأة في المنوفية ميزة حقيقية في دولة لا تجد فيها المدارس أي أموال أو عاملين. وفي هذه الفترة أيضًا، نسبة الطلاب الذين يستمرون في التعليم بعد سن الخامسة عشر في المنوفية أعلى منها في أغلب المحافظات الريفية الأخرى، وتخطت 80% خلال العقد الأول من هذا القرن.
جردت إصلاحات ناصر في فترة ما بعد الثورة، مدارس المؤسسة من استقلاليتها- وأيضًا جودتها، وفقًا للسكان المحليين. لكن مع عقود من التعليم الرائع جعل كثير من أبناء المنوفية يتقلدون مناصب بارزة في الجيش المصري. وتدرج شباب المحافظة المتعلم في المناصب بجيش عبد الناصر، وسرعان ما كثر تمثيلهم بدرجة كبيرة في صفوف الضباط خلال الأيام الأولى من حكم عبد الناصر. هذا النجاح المبكر يبدو انه أنه أقنع شبابًا أكثر من المنوفية بالسعي للثروة والمراكز التي يقدمها الجيش. وكما يقول صامويل تاضروس، أستاذ السياسة والمؤرخ وأحد مواليد المنوفية، والمحاضر الحالي بمعهد هودسون: “لو أنت من مدينة قويسنا، ورأيت الشخص (س) بزيه العسكري الكامل، ربما تحاول الالتحاق أيضًا بالجيش.”
بقيت روابط المنوفية القوية بالجيش، حتى مع عدم وجود الجودة والاستقلال في مدارسها. خلال انتخابات الرئاسة عام 2012، دعمت النسبة الأكبر من الناخبين بالمحافظة أحمد شفيق، القائد السابق بالقوات الجوية، والذي خسر بفارق ضئيل ضد منافسه مرسي. وكانت أعلى من أي نسبة تصويت نالها شفيق بمحافظة أخرى.
من طلاب إلى سادة
على الرغم من إرثها في المدارس فائقة الجودة التعليمية وأعداد الشخصيات العسكريين والسياسيين التي أنجبتهم، تبقى المنوفية في فقر عميق. المحافظة بين اثنتين فقط ي مصر تفتقدان الأراضي الصحراوية قليلة الكثافة السكانية التي يمكن ريّها واستصلاحها، لتظل غير قادرة على زيادة رقعتها الزراعية، ويعاني اقتصادها القائم على الزراعة بشكل كبير مع زيادة تعداد السكان. يعيش سكان المنوفية في منازل أصغر من المعدل الموجود في مصر، والمحافظة تمتلك أقل عدد من المستشفيات في مصر مقارنة بأعداد السكان.
المصدر الثالث لنجاح المنوفية هو هجرة سكانها، الذين انتقلوا تاريخيًا إلى أماكن أخرى بمعدلات أكبر من أي محافظة أخرى. بالقرب من القاهرة، الفلاحون المنوفيون السابقون وعائلاتهم هيمنوا على الضواحي، وخصوصًا في منطقة شبرا الخيمة الصناعية. (الأبعد من ذلك، الكثير من المحلات الشهيرة في نيويورك للأطعمة الحلال يعمل بها أشخاص من المنوفية.) قللت الهجرة بعض من الضغط على المحافظة وخلقت فرصًا لمن يغادرونها.
مصر غارقة في أزمة اقتصادية مع وجود إشارات قليلة على تراجعها. الطبقة الوسطى في حالة ذعر مع ارتفاع أسعار المنتجات المستوردة، ويعاني الفقراء من نقص السلع الأساسية مثل السكر وألبان الأطفال. وفي محافظات عديدة، تتراجع شعبية السيسي مع قيمة الجنيه المصري. لو كان تاريخ المنوفية يمثل دليلًا بأي شكل من الأشكال، فستظل المحافظة وفية أكثر من الكثيرين لقادة الدولة.