سياسة

ديرشبيجل: الحياة في دمشق بين الرقص والموت

ديرشبيجل: السوريون في دمشق بين الرقص والموت

أسواق البلدة القديمة بدمشق

ديرشبيجل – Fritz Schaap

إعداد وترجمة: محمد الصباغ

قبل شروق شمس يوم الخميس في صباح خريفي صافٍ، تغادر حافلة صغيرة دمشق. تعمد سائقها الالتفاف حول الطرق السريعة الرئيسية في بدايتها ليتجنب فخًا ربما نصبه القناصة. بعد حين، ستعود الحافلة إلى الطريق السريع وتزيد من سرعتها عبر الطريق الموازي للساحل، كانت متجهة نحو مدينة حمص.

بداخل الحافلة ستة أشخاص، جميعهم يعيشون في المنطقة السورية التي تسيطر عليها قوات الرئيس بشار الأسد. هم أعضاء فريق معروف باسم “العنقاء” للتسلق والمشي لمسافات طويلة. هم صاحب حانة، وطالبة جامعية، ومصمم، ومدرب، وعاشق للرياضة، وعامل ألماني في مجال التجميل. خططوا جميعًا لقضاء يوم في الهواء الطلق الرائع.

الأجواء مبهجة. وقال كنان حداد، صاحب الحانة، بصوت يبدو على صاحبه الترنح: “المغامرة في انتظارنا.”

إليدا سانجار وكنان حداد

مع معاناة الحافلة في الوصول إلى أعلى جبل قاسيون بدمشق، عاصمة نظام الأسد، نرى في الخلف عددا لا نهائيا من المباني الرمادية والبنية، وتبرز بينهما مآذن وأبراج كنائس. القصر الرئاسي يبدو كحصن على تل وسط جبل قاحل.

وتبدو إليدا سانجار، طالبة في الحادية والعشرين من عمرها وتدرس الاقتصاد، إنها متعبة بعد حفل في الليلة الماضية. قالت إنها تدعم نظام الأسد لأنها سعيدة بقدرتها على الاستمرار في دراستها والاحتفال في نفس الوقت. يأتي ذلك مع عدد القذائف القليلة التي تهبط على العاصمة.

أما صديقها، كنان، الجالس بجوارها، فيقول “أنت تعيش مرة واحدة.” أغلب أصدقائه غادروا إلى أوروبا، لكنه قرر البقاء وافتتاح بار خاص به وحضور حفلات قدر استطاعته. ويضيف أن الدولة موجودة فقط في الأماكن التي يسيطر عليها النظام، والاستقرار الذي تقدمه هو كل ما يهتم به.

يمتلك كل من في الحافلة أسبابا مختلفة لدعم النظام. لكنّ هناك شيئا واحدا مشتركا: الخوف من الدولة الإسلامية. هذا نتيجة استراتيجية الأسد الناجحة في تصوير نفسه على أنه أهون الشرور: ومع مغادرة الملايين للبلاد هربًا من مآسي الحرب، ألقت الدولة الإسلامية بكثير من الناس في أحضان نظام الأسد.

وعند الحديث عن القنابل التي تتساقط على المستشفيات والمدارس في مدينة حلب، وجدنا إجابات مقتضبة.

قال كنان: هذه هي الحرب. بينما قالت إليدا: ما الذي يمكن للحكومة أن تفعله؟ عليهم حماية دمشق. علينا النجاة. بينما قال قائد المجموعة: المسؤولون هم المدنيون في حلب بعد أن زودوا الإرهابيين بالمأوى.

للوهلة الأولى، تبدو الحياة طبيعية في موطن مجموعة المتسلقين بدمشق، التي تبعد 350 كيلومترا عن حلب. في وسط المدينة، الإشارة الوحيدة إلى وجود حرب قائمة هي نقاط التفتيش الكثيرة وصور الشهداء المعلقة في كل مكان. تمتلئ الأسواق في شوارع البلدة القديمة المتعرجة بالأشخاص. هناك تعرض السجاجيد والهواتف المحمولة للبيع، بجانب معروضات الذهب والفضة وبجانبهم تجد الملابس الداخلية المعروضة للبيع أيضًا.

الحياة تبدو طبيعية في أسواق دمشق

يشوي الطهاة في البلدة القديمة الكباب الشهير، وتتم تدفئة الأرضيات في المحلات والفنادق استعدادا للشتاء، ويستمر الزوار في التوافد على المسجد الأموي. يرتدي زوار الأوبرا الزي الرسمي وتُقرأ الإعلانات باللغات الإنجليزية والفرنسية والعربية، كما لو أن دمشق ما زالت مدينة عالمية كما كانت من قبل.

في الميدان المقابل للأوبرا، هناك حروف عملاقة تشكل كلمة “أنا أحب دمشق”. وصلك ضمن حملة إعلانية للمدينة، وباحترافية يتم إنتاج مقاطع فيديو لإظهار معالم المدينة باستخدام طيارات دون طيار (درونز). العاصمة هي حصن الأسد، وجبهته القوية في الحرب الإعلانية. الرسالة واضحة: دمشق طبيعية والحياة تستمر في مكان تولي النظام المسؤولية.

وهذا السبب الذي لا يجعل هناك صورا للدمار في وسط العاصمة. عندما سقطت القذائف على البلدة القديمة والضواحي المحيطة، تحرك الحرفيون خلف سيارات الإسعاف لإزالة آثار الدمار. يفعل الأسد كل ما باستطاعته لتقديم صورة المدينة العالمية المزدهرة عن بقايا دولته المحطمة- دولة كانت سوريا.

بعد ساعتين، وصلت مجموعة المغامرين إلى أطراف مدينة حمص، حيث انتعش التمرد فيها بوقت ما، وعوقبت بوحشية من نظام الأسد في المقابل. اليوم، أجزاء كبيرة من حمص تبدو كمدينة أشباح وتتصاعد الأدخنة من الأنقاض التي تعبر خلالها الحافلة. لم يبد أحد من فريق “العنقاء” ملاحظات، وفضلوا بدلا من ذلك الحديث عن البيرة، وتحديدا عن حقيقة أنه بعد تدمير أماكن صناعة البيرة في سوريا بات عليهم شربق البيرة اللبنانية، والتي يشتكون من أنها لا تقارن بالسورية.

وعند الوصول إلى اللاذقية، المعقل القوي للأسد والتي يطلق عليها إبيزا سوريا، وتطل على البحر المتوسط، يقول أحد الجالسين في الحافلة: “هناك مناطق عظيمة أيضًا في حلب. إلى الآن.” فالمقاطع التي ينشرها النظام عن الحياة الليلية في غرب حلب هي جزء ن الدعايا الإعلامية، وهي حقيقية وفقًا لقائد الحافلة. ففيديوهات السياحة الغريبة التي انتشرت في سبتمبر أظهرت حلب الغربية كأن لم تمسها الحرب بمناطق خضراء وحمامات سباحة بفندق الفيروز وملاه ليلية مليئة بالأشخاص.

لكن الفجوات في الروايات ليس من الصعب تحديدها، حتى في دمشق. الاقتصاد في حالة فوضى، والبائعون يشتكون من تراجع العائدات وهناك 1.8 ملايين لاجئ وجدوا مأوى لهم بالمدينة مع خوفهم من مواجهة الشتاء. القليل جدا منهم يمكن أن يتحمل شراء كمية قليلة من الجاز للتدفئة. وفي حالات كثيرة، تعيش عشر عائلات في منزل واحد في المدينة القديمة.

وبالقصر أعلى التل، يستمر الأسد في تصوير نفسه في هيئة الأب الحامي. لكن الناس بالأسفل فقدوا قدرتهم على الاتزان، فهناك تقارير طبية نفسية تشير إلى ارتفاع نسبة الإقبال على تناول الأدوية النفسية. في حين يدور الحديث في المقاهي حول اقتناء الكثير من المدنيين لرخص أسلحة لأن معدل الجريمة ارتفع بشكل واضح.

كما أن مئات المقاتلين من تنظيم الدولة الإسلامية والمجموعة الإسلامية المتطرفة “جبهة فتح الشام” ما زالوا يقيمون في مخيم اليرموك، في دمشق على بعد 4 كيلومترات فقط من الأماكن المخصصة للرقص والحانات. حفر المقاتلون الأنفاق أسفل المنطقة بالكامل، للزحف أسفل مواقع الخصم، كما أن طلقات القناصة تسمع بين الحين والآخر بالمباني المدمرة.

أجزاء من دمشق مدمرة

هؤلاء الذين ليسوا مجبرين على النظر نحو العنف، يحاولون الابتعاد عنه. الكثير من الشباب الذين تعايشوا مع الحروب لم يعودوا يقرؤون الأخبار، لا يريدون معرفة ما يحدث بالفعل في حلب. وكما قال كنان: “كلما قلت معرفتك، عشت حياة أفضل.” هاجروا إلى عالمهم الخيالي، وذهبوا للتسلق والمشي، وتدخين المخدرات، وتناول المهدئات، والسكر في الحفلات، أو يغادرون إلى الخارج.

لكنّ كثيرين في المدينة فقدوا قدرتهم على الابتسام. هم المستمرون في متابعة الأخبار. يقولون إن الحياة أصبحت باللونين الأسود والأبيض، ولا يفرق انتمائهم إلى أي الجانبين. لقد أصبحوا منهكين وتعساء ومحبطين، لأن بلادهم تحتضر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى