سياسة

فورين بوليسي: العالم قد يعترف بـ”دولة داعش” بعد سنوات

فورين بوليسي: أمريكا تتفاوض الآن مع طالبان .. فلماذا لا يتكرر الأمر مع داعش؟

فورين بوليسي – روزا برووكس

ترجمة: محمد الصباغ – دعاء جمال

قتلت ما تسمى بالدولة الإسلامية الآلاف في العراق وسوريا، وأماكن أخرى. فيما تواصل وسائل الإعلام العالمية حول العالم شجب الأساليب الوحشية التي ينتهجها التنظيم مثل قطع الرؤوس أمام العامة، و الذبح الجماعي للمساجين العزل والاستعباد الجنسي للفتيات والنساء.

لو نظرنا إلى التاريخ الغربي كدليل يرشدنا عما سيحدث فيما بعد، فإن الدولة الإسلامية في طريقها  إلى الشرعية الدولية.

يؤكد التاريخ على أن ارتكاب الفظائع الجماعية لا يمنع من النجاح في المستقبل. فمع فترة الإرهاب التي أعقبت الثورة الفرنسية، ذبحت الحكومة الفرنسية الثورية حوالي 30  أو 40 ألف شخص أمام العامة، وكل ذلك باسم الحرية والمساواة والأخوة. وفي بداية عام 1790، أطلق الرصاص على 150 مواطنا فرنسيا آخر على الأقل وأحرقوا حتى الموت، وقطعوا إلى أجزاء أو أغرقوا عمداً في منطقة فينديه الفرنسية. ويقال إن الجنرال الفرنسي فرانسوا جوزيف ويسترمان بعد حملة وحشية قادها قال: ”لقد سحقت الأطفال تحت أقدام الخيول“، وأضاف: ”لقد ذبحت النساء، وعلى الأقل، لن يولد المزيد من قطاع الطرق… لقد أبدتهم جميعاً. وزرعت الطرق بالجثث“. حسناً هذا أمر سيىء لكن ويسترمان أكمل: ”الرحمة؟ هذا الشعور ليس ثورياً“.

هذا الحديث ليس ممتعا الآن لكنه كان كذلك في الماضي. واليوم، أصبحت فرنسا قوة أوروبية بارزة وحليفا رئيسيا للولايات المتحدة.

وعندما ننظر إلى تركيا، نجد أنه بين أعوام 1915 و1918، قامت السلطات العثمانية بقتل أكثر من مليون من الأرمن فيما يعتبره تقريباً الجميع عدا الحكومة التركية عملية إبادة جماعية. لكن مرت مئات السنين والآن تركيا حليف ضروري للناتو.

كل ذلك كان تاريخاً قديماً؟ لنتقدم إلى فترة الأربعينيات. وصل عدد ضحايا الهلوكوست إلى 11 مليون مدني، أغلبهم من اليهود. لكن الآن، ألمانيا هي أهم صديق لنا في أوروبا. لا تقلقي ميركل فقد تسامحنا في كل ذلك.

كان تكوين الدول، وتوطيد السلطة بشكل عام، عمل دائماً يبنى على الدماء. ويعرف ذلك جيداً كل من المؤرخين والعلماء السياسيين وأيضاً علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا.، لكن بقيتنا يميل إلى تجاهل ذلك أو فقط يقوم بإخراج ذلك من كتب التاريخ.

اختر دولة ناجحة ومستنيرة ومتقدمة، وابدأ في رحلة تنقيب في تاريخها: لن تستمر طويلاً حتى تصطدم بالجثث.

خلال حرب الثلاثين عاماً، التي شهدتها مساحات كبيرة في أوروبا وقتل خلالها حوالي ثلث عدد السكان في العديد من المناطق، عادة ما نظر إليها المؤرخون على أنها أدت إلى قيام الدولة الأوروبية الحديثة. وخلال أربعة قرون بعد تلك الحرب، قتل في أوروبا ملايين آخرين. ويقول أوتو فون بيسمارك، مهندس الوحدة الألمانية في ملاحظة له عام 1862: ”لا يقرر مصير القضايا الكبرى بالخطب أو حلول الأغلبية.. لكن بالحديد والدم“.

تعلمت الولايات المتحدة من خطاب بسمارك، وقاتل مئات الالاف من الأمريكيين بين عامي 1861 و 1865 من أجل ”الحق“ في استعباد 4 ملايين أمريكي آخرين، ومات مئات الآلاف قبل أن تحل القضية، وصارت حكومة الولايات المتحدة المركزية أقوى من أي وقت مضى.

ذلك ما يتعلق فقط بالغرب ومجرد لقطات صغيرة لبضع مئات من السنوات. وفي بقية أنحاء العالم، كان هناك الكثير من نفس التصرفات. الذبح؟ حدث والتعذيب قد وقع. ذبح المدنيين العزل؟ حدث وحدث وحدث.

لا يعد ما سبق تبريراً لأعمال الدولة الإسلامية الوحشية حالياً أو يجعل ما تمارسه أقل رعباً، وتحديداً في هذا العصر من معرفة العالم بحقوق الإنسان الأساسية. لكن لو تجاهلنا الاستمرارية التاريخية لسلوك تنظيم الدولة الإسلامية حالياً وسلوك عشرات الدول الأخرى في الماضي التي ننظر إليهم الآن كأمثلة على المثالية، سنخاطر بعدم فهم عقلية العنف التي تنتهجها الجماعة، ونخاطر أيضاً باحتمالية فشل جهود الولايات المتحدة الحالية لإنهاء خطر هذا الإرهاب.

عند الفشل في رؤية أفعال الدولة الإسلامية في سياقها التاريخي، سيسمح لنا ذلك بالحفاظ على شعورنا بالراحة المستند إلى وهم كاذب بأن الدولة الإسلامية مجرد ”جنون“، أو كما قال الرئيس أوباما عام 2014، إن التنظيم ”ليس له أي رؤية سوى.. الذبح“، وفي عام 2015 قال: ”لا يمكن لأحد التغلب عليهم بالأفكار أو الأيدولوجيات لأنهم لا يعبرون عن شىء“.

لا تخطئ بتصديق ذلك. فقائد تنظيم الدولة الإسلامية أبو بكر البغدادي قد يكون مسؤولاً عن الآلاف من جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، لكنه ليس أحمقا كما كتبت جيسيكا ستيرن وجيه إم برجر في كتابهما عن الدولة الإسلامية، فتأثر تفكيره كثيراً بأعمال أبو بكر الناجي الذي تحدث كتابه القصير (إدارة الهمجية – The Management of Savagery) بأن استخدام الوحشية وترويجها إعلاميا بشكل جيد يزرع الخوف والاحترام في قلوب كل من الأعداء والمؤيدين للإسلام الراديكالي. بالفعل الدولة الإسلامية تنظيم وحشي، لكن بالتأكيد لديه رؤية أبعد من الذبح. وهي رؤية بغض النظر عن حديث أوباما، أظهرت بشكل واضح قوتها على جذب آلاف من المجندين الشباب من حول العالم.

من الحكمة أن نفترض أن قيادة تنظيم الدولة الإسلامية تتفهم دروس التاريخ التى لا ترحم. فالزمن يقلل من تأثير أكثر الجرائم وحشية: مع مرور بعض العقود، يمكن للمجتمع الدولي أن يغفر كل تلك الأعمال الوحشية، كما يحدث مع تركيا، التى لم تقدم حتى أي اعتلا يجب حتى أن تعتذر.

معروف عن الولايات المتحدة ذاكرتها قصيرة وعدم قدرتها على الرؤية طويلة الأمد: نحن أمة تركز على الحاضر وغير قادرين على وضع استراتيجية تستمر لأكثر من عدة سنوات. لكنني لن أراهن بأن الدولة الإسلامية تفكر بنفس الطريقة. فقادة التنظيم يدركون جيداً أن درجة وحشيتهم أسفرت عن عداء من المجتمع الدولي، لكنهم ربما يقامرون بأنهم لو أحكموا سيطرتهم على ما يكفي من حقول النفط والموانئ ومصادر الثروة الأخرى، مع تقليل حجم الأعمال الوحشية، فهنا سينتظرون العفو من المجتمع الدولي.

لو كان هذا ما يفكر فيه تنظيم الدولة الإسلامية (وأعترف أنها افتراض مشكوك فيه جداً)، فقد يكون المجتمع الدولي حينها قادرا على تحفيز التنظيم بوقف أشكال العنف بشكل أسرع عبر طريقة بسيطة وهي تركهم وشأنهم.

إلى الآن، يبدو أن الحملة التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية قد حققت القليل من النتائج الإيجابية: ورغم أن المسؤولين الأمريكيين يقولون إن الحملة أسفرت عن مقتل أكثر من 10 آلاف مقاتل من التنظيم، إلا أن مصادر استخباراتية أكدت أن تنظيم الدولة الإسلامية لم تضعف قوته. يبدو أننا على أقصى تقدير نحاول مد أمد الوضع الراهن، لأن الضربات الجوية التي تقودها الولايات المتحدة ضد الدولة الإسلامية ليست كافية لهزيمة أو تدمير الجماعة الجهادية، لكن بالتأكيد كافية لزيادة عداء التنظيم نحو الغرب. (في الواقع هناك بعض الأسباب لنصدق بأن الحملة العسكرية زادت من نطاق التنظيم دولياً، وعززت من جهوده في التجنيد).

لكن يأمل أيضا قادة تنظيم الدولة في تكوين دولة حقيقية، معترف بها من القوى العالمية – ولو على مضض- فهنا يجب أن نفعل الأفضل من أجل التحول إلى استراتيجية الاحتواء بدلاً من الاستمرار في المحاولات غير الفعالة لتفتيت وتدمير التنظيم.

نعم هذا تفكير محبط، لكن لو توقفنا عن قصف الدولة الإسلامية، ربما تقوم بترويض نفسها أسرع مما نحاول نحن أن نروضها. أو ربما سيجد قادة تنظيم الدولة مثل الأنظمة الوحشية السابقة، أن ارتكاب الفظائع والأعمال الوحشية ستولد عدم استقرار داخلي وتمرد.

بالطبع، ربما لا يمتلك البغدادي ودائرته الداخلية أي نية لتقليل حجم العنف. ربما ينتوون الاستمرار في معدلاتهم من الوحشية، وربما لا يمتلكون أي نية في ممارسة سيطرة دائمة على أي مناطق.

لماذا قد يفعلون ذلك؟ في أغلب فترات التاريخ، كان الولاء للدين أو الدم أحد أكثر مبادىء التنيظم السياسي أكثر من السيطرة على مناطق ثابتة (مثل الإمبراطورية العثمانية والرومانية المقدسة).  قد لا يهتم قادة الدولة الإسلامية إذا ما تم طردهم من العراق أو سوريا، طالما يكسبون مناطق أخرى ومصادر جديدة للثروة والسلطة، حتى لو تغيرت تلك المناطق وكانت غير متجاورة.

مع الأحداث الحالية يبدو أن الدولة الإسلامية لن تحتاج إلى وقف أعمالها الوحشية من أجل الاستمرار وكسب الشرعية.

إذا نظرنا إلى طالبان التى سيطرت على أفغانستان من 1996 إلى 2001، وتم عزلها دبلوماسياً واقتصادياً، ثم استهدفها الجيش الأمريكي منذ 2001. دان المسؤولون الأمريكيون طويلاً وحشية طالبان بنفس المصطلحات التي يستخدمونها حالياً مع تنظيم الدولة الإسلامية، لكن واشنطن الآن تعرض على الأقل دعماً ضمنياً في المفاوضات مع قادة طالبان. وتشير التكهنات المستمرة إلى أن المسؤولين الأمريكيين يشاركون بشكل مباشر في تلك المفاوضات.

من هذا، يمكن لقادة الدولة الإسلامية الوصول لهذا الاستنتاج الواضح: ما قاله الجميع من ماو إلى كيسينجر عن المتمردين بأنهم لا يحتاجون أن “يفوزوا” أو حتى ينجحوا؛ يحتاجوا فقط ألا يخسروا. وأن يبقوا في الأرجاء وقتاً كاف، مثل طالبان، ولا يهم كثيراً مدى وحشيتك؛ في النهاية سيتعب معارضوك من القتال، وإما سيستسلموا ويرحلوا أو يستسلموا ويتفاوضوا. وإذا اختاروا المفاوضات، سيشبعون حاجتهم الخاصة ليحفظوا مظهرهم بادعاء نسيان كل تلك الأعمال الوحشية، أو بادعاء تركيزهم فقط على المفاوضات مع “معتدلين” أو “متصالحين”. (علي قدر علمي، فإن مصطلح قائد “متصالح” لطالبان  هو “القائد الذي نشعر بالحاجة للتفاوض معه”).

بكلمات أخرى: يمكن للدولة الإسلامية الاحتفاظ بحقها بقطع رؤوس الأشخاص، وإذا لم يكن بإمكاننا تدمير الدولة الإسلامية، على الأرجح سنتعب من محاربتها، ونقرر قطع الصفقات معها. ثم، ندع بعض العقود تمر، وبسرعة! سيكون للدولة الإسلامية مقعداً في الأمم المتحدة، إذا كانت الأمم المتحدة لا تزال موجودة، سواء كدولة جديدة أو سيتم الاعتراف بها عالمياً بشكل أو آخر، وسيتم تجاهل كل تلك الأعمال الوحشية.

صحيح أن التاريخ يشير إلى أن ارتكاب الأعمال المروعة والواسعة الانتشار لا يمنع من الدخول فى مجتمع دولي مهذب، لكنه يشير أيضاً إلى عدم حتمية أي شيء. الكثير من المتمردين الوحشين والأحزاب عاشوا ليروا جرائمهم تبّرأ وتنسى، لكن آخرين عدة سقطوا.

وعندما يتعلق الأمر بالتنبؤ بمستقبل الدولة الإسلامية، هناك الكثير من الاحتمالات. سنجد أن بيئة الإعلام العالمي التى تعمل طوال الـ24 يوميا أصبحت أمرا جديدا على المعادلة، ومن المستحيل معرفة كيف ستؤثر هي أو انتشار أفكار حقوق الإنسان عالميا على قدرة الدولة الإسلامية على المحافظة على نفسها أو إصرار المجتمع الدولي علي هزيمة الجماعة على المدى الطويل. تتغير سيادة الدولة بطرق معقدة، ومن الصعب معرفة ما يشكل القوى العالمية، والسياسية والعسكرية، فقد يأخذ 10، أو 20 أو 50 عاماً من الآن.وقد تغير الانتخابات في الولايات المتحدة ديناميكية الجيش الأمريكية؛ كما يمكن أن تقطع الصين أو روسيا أو أي دول أخري صفقاتهم مع الدولة الإسلامية. وفي النهاية، يظل تنظيم الدولة مجموعة غامضة لمن هم خارجها، وبالتالي قد تظهر ديناميكية داخلية تؤثر فيها وتغير مسارها.

حتى لو كنت وكيل مراهنات، سأضع احتمالات ضعيفة لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية من الولايات المتحدة. ويمكن للبيت الأبيض إصدار ما يشاء من البيانات مدعيا أنه “حقق تقدما ملحوظا في إضعاف التنظيم وبالنهاية تدميره”، لكني اتشكك في ذلك واعتقد أن الجماعة  قد تظل قائمة وقوية لخمسة أو عشرة أعوام من الآن. ( أنا أقل تأكدا فيما يتعلق بمقعد لتنظيم الدولة في الأمم المتحدة، لكن أعط الأمر بضعة عقود أخرى؛ لا تعلم أبداً ما قد يحدث).

اتمنى أن أكون مخطئاً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى