تاريخ القصف البساطي في أميركا
تاريخ القصف البساطي في أميركا
أيان بوروما
رجمة: إبراهيم محمد علي
نيويورك ــ مؤخرا، قال تيد كروز، أحد مرشحي الرئاسة من الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة إن حل الاضطرابات في الشرق الأوسط يتلخص في “القصف البساطي” (القصف المكثف لمنطقة بأسرها) للمناطق التي يحتلها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) “حتى يتسنى لنا أن نرى ما إذا كانت الرمال تتوهج في الظلام”. كما وَعَد دونالد ترامب، المرشح الجمهوري الأوفر حظا، بقصف داعش بلا هوادة. ولم يتورع مرشح ثالث، كريس كريستي، عن التهديد بشن حرب ضد روسيا.
وليس من المستغرب في ظل هذا الخطاب الذي يتبناه المرشحون أن يفضل نحو 30% من الناخبين الجمهوريين (ونحو 41% من مؤيدي ترامب)، وفقاً لنتائج استطلاع حديث للآراء، قصف “عقربة”، الموقع (الخيالي) الذي جرت فيه أحداث فيلم “علاء الدين”. فقد بدا الاسم عربيا، وكان ذلك كافيا.
ربما يكون بوسعنا أن نقرأ مثل هذا الخطاب العدائي على افتراض أن أولئك المنغمسين فيه لابد أن يكونوا من الوحوش المتعطشة للدماء. ولكن منظوراً أكثر إحسانا ربما يتلخص في أنهم يعانون من الافتقار الشديد إلى الذاكرة التاريخية والخيال الأخلاقي. فلم يجرب أي منهم الحرب شخصيا. ومن الواضح أنهم من المستحيل أن يفهموا عواقب ما يقولون.
بيد أن مجرد التصفح الظاهري السريع للتاريخ الحديث كاف لإدراك حقيقة مفادها أن “قصف الناس بلا هوادة” ليس السبيل لكسب الحروب. فهو لم يُفلِح في فيتنام، ومن غير المرجح أن يُفلِح في سوريا أو العراق. حتى أن النازيين لم يُهزموا بفِعل القصف المكثف. كما أثبتت دراسات ما بعد الحرب التي أجريت بواسطة القوات الجوية الأميركية والبريطانية أن الدبابات الروسية كانت أكثر فعالية من القصف الجوي للمدن الألمانية في إسقاط الجيش النازي.
ويقودنا هذا إلى تساؤل مناسب لبداية العام الجديد: هل من الممكن أن يعلمنا التاريخ حقاً العديد من الدروس؟ فلا شيء على الإطلاق يتطابق تماماً مع ما حدث من قبل.
ربما كان من الصحيح أننا لا نستطيع أن نتوقع أن ينبئنا التاريخ بما يتعين علينا القيام به في أي أزمة بعينها. ولكن لأن بعض أنماط السلوك البشري تتكرر، فإن معرفة الماضي قد تساعدنا في فهم زمننا على نحو أفضل. والمشكلة هي أن الساسة (والمعلقين) كثيراً ما يختارون الأمثلة الخاطئة لتعزيز مواقفهم الإيديولوجية.
على سبيل المثال، لأن قِلة من الناس على ما يبدو يمكنهم التأمل في زمن من الماضي أبعد من الحرب العالمية الثانية، فإن الأمثلة من ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين هي الأكثر عُرضة لإساءة الاستخدام. فكلما تشجعنا لمعارضة حاكم مستبد ، يُستَحضَر شبح أدولف هتلر، وتعود إلى الحياة أشباح 1938 لمواجهة الشكوك بشأن الحرب “الوقائية” المتسرعة. وكان أولئك الذين تشككوا في غزو جورج دبليو بوش للعراق “مهادنين” أقرب إلى نيفيل تشامبرلين.
الواقع أن تركيزنا بشكل يكاد يكون كلياً على النازيين والحرب العالمية الثانية يحجب عنا أوجه تشابه تاريخية أخرى ــ ولعلها أكثر تنويراً وتثقيفا. فالحروب الرهيبة التي تدور رحاها في الشرق الأوسط اليوم، والتي تؤلب طوائف دينية ثورية وزعماء القبائل ضد دكتاتوريات قاسية تدعمها قوة عظمى أو أخرى، تشترك في جوانب أكثر مع حرب الثلاثين عاماً التي خربت قسماً كبيراً من ألمانيا ووسط أوروبا في الفترة من 1618 إلى 1648.
فعلى مدى ثلاثة عقود من الزمن، كانت الجيوش المغيرة تقتل وتنهب وتعذب البشر من قرية إلى قرية ومن بلدة إلى أخرى. وكثيرون من أولئك الذين لم يُقتَلوا ماتوا بسبب الجوع والأمراض التي انتشرت بواسطة أعداد كبيرة من الرجال المسلحين.
ومثلها كمثل حروب اليوم، كثيراً ما يُفتَرَض أن حرب الثلاثين عاماً كانت في الأساس صراعاً دينيا، ولكن بين الكاثوليك والبروتستانت. والواقع أنها، ومرة أخرى كمثل الحروب العنيفة الحالية التي تجتاح العالم العربي، كانت أشد تعقيدا. فكان الجنود المرتزقة، سواء من البروتستانت أو الكاثوليك، يتحولون من جانب إلى آخر وفقاً لما يناسبهم من ظروف، في حين دعم الفاتيكان الأمراء الجرمان البروتوستانت، ودعمت فرنسا الكاثوليكية الجمهورية الهولندية البروتستانتية، وكان الكثير من التحالفات الأخرى تتشكل وفقاً لخطوط طائفية.
بيد أن حرب الثلاثين عاماً كانت في واقع الأمر صراعاً من أجل الهيمنة على أوروبا بين البوربون وملكيات هابسبورج. وطالما لم يكن أحد الطرفين قوياً بالقدر الكافي للسيطرة على الآخر، فقد استمرت الحرب، وأسفرت عن معاناة رهيبة بين الفلاحين وسكان المدن الأبرياء. وكما هي الحال في الشرق الأوسط اليوم، كانت قوى كبرى أخرى ــ فرنسا والدنمرك والسويد بين قوى أخرى ــ تشارك بدعم جانب أو آخر، على أمل تحقيق مكاسب شخصية.
الواقع أن أوجه التشابه مع الحرب في سوريا والعراق مذهلة. فتنظيم الدولة الإسلامية يتألف من متمردين سُنّة وحشيين يحاربون حكاماً من الشيعة. وتعارضه الولايات المتحدة، ولكن تعارضه أيضاً إيران، القوة الشيعية، والمملكة العربية السعودية التي يديرها حكام طغاة من السُنّة. والمحور الرئيسي للصراع في الشرق الأوسط ليس دينياً أو طائفيا، بل إنه جيوسياسي: الصراع على الهيمنة الإقليمية بين المملكة العربية السعودية وإيران. وكل من الطرفين لديه من يؤيده بين القوى الكبرى، وكل منهما يحرك عمداً متعصبين دينيين؛ ولكن الفوارق الدينية ليست المفتاح إلى فهم تصاعد العنف.
تُرى ماذا ينبغي لنا أن نتعلم من كل هذا؟ قد يزعم بعضنا أن الإصلاح الديني الشامل هو وحده الكفيل بجلب السلام الطويل الأمد إلى الشرق الأوسط. ولكن برغم أن إصلاح الإسلام ربما يكون مرغوباً في حد ذاته، فإنه لن يضع حداً للحرب الحالية.
إن الرئيس بشار الأسد لا يقاتل في سبيل طائفة بعينها من الإسلام (العلويين في حالته)، بل يصارع من أجل البقاء. ولا يخوض تنظيم داعش حرباً من أجل المذهب السُنّي، بل لإنشاء خِلافة ثورية. والصراع بين المملكة العربية السعودية وإيران ليس دينيا، بل سياسيا.
لقد مرت لحظات خلال حرب الثلاثين عاماً عندما كان التوصل إلى تسوية سياسية في حكم الممكن. ولكن الرغبة في الاستفادة من مثل هذه الفرص كانت غائبة؛ وكان طرف أو آخر يسعى إلى اكتساب ميزة أكبر بالاستمرار في القتال (أو تشجيع آخرين على القيام بذلك).
وإنها لمأساة أن تُهدَر فرص مماثلة اليوم. إن التسويات تتطلب التوصل إلى حلول وسط. وسوف يكون لزاماً على الأعداء أن يتحدثوا مع بعضهم بعضا. أما الأحاديث المتبجحة المتباهية عن القصف المكثف، واتهام أولئك الذين يحاولون التفاوض بالترضية والمهادنة، لن يؤدي إلا إلى إطالة أمد العذاب والمعاناة، إذا لم يتسبب في إحداث كارثة أعظم. وهذا من شأنه أن يؤثر على كل واحد منا تقريبا.
إيان بوروما أستاذ الديمقراطية وحقوق الإنسان والصحافة في كلية بارد، ومؤلف كتاب “العام صِفر: تاريخ من 1945”.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2016. ينشر بالاتفاق مع زحمة دوت كوم
www.project-syndicate.org