سياسة

فورين بوليسي: “الدولة العميقة” تنتقل من مصر إلى الولايات المتحدة

“الدولة العميقة”.. من مصر إلى الولايات المتحدة

فورين بوليسي- ستيفن كوك
ترجمة: فاطمة لطفي

خلال الأسابيع والأشهر التي سبقت انقلاب صيف 2013 في مصر الذي أنهى رئاسة محمد مرسي، واجه المصريون تحديًا اقتصاديا تلو الآخر. وأصبح انقطاع التيار الكهربائي أمرًا اعتياديًا، ومجال السياحة ميتًا، والاستثمار الأجنبي معدومًا، بينما كانت الحكومة تعبث في ظل وجود أزمة مالية. جميع ذلك كان يعني معاناة شديدة لملايين المصريين الذين كانوا يأملون في أن تحمل نهاية نظام حسني مبارك لهم “العيش والحرية والعدالة الاجتماعية”، المطالب التي تبناها الكثيرون في ميدان التحرير قبل ذلك بسنوات.

ومن بين أكثر المشاكل الاقتصادية حدةً في ذلك الوقت، نقص الوقود. وبالنسبة لمصر، البلد المزدحمة بالسيارات، عدم القدرة على التحرّك، بالإضافة إلى الازدحام المروري المعتاد والمحبط، يزيد الوضع سوءًا وتعقيدًا.

ومن ثم انتهى كل شيء. اختفت الأزمة الاقتصادية التي اختلقت، وتصاعدت على مدى أشهر بين عشية وضحاها. وبعد أسبوع من الانقلاب، ذكر كل من، بن هوبارد وديفيد كيركباتريك من صحيفة نيويورك تايمز، أن البنزين، أصبح “فجأة” متاحًا. هل كان ذلك مجرد مصادفة؟ أم صنيعة عصبة سرية من ضباط الجيش وعملاء المخابرات والبيروقراطيون رفيعو المستوى، المعروف جميعهم بـ “الدولة العميقة”؟

فكرة الدولة العميقة ليست غريبة في مصر. إلا أنها ترتبط عادة بتركيا، وتحوّلت مؤخرًا وبغتةّ إلى الولايات المتحدة الأمريكية. بالنسبة للأتراك، تأكدت الشائعات التي تتعلق بعصبتهم السرية منذ فترة طويلة، عندما صدمت سيارة مرسيدس-بنز، شاحنة في البلدة الصغيرة سوسورلوك، التي تبعد 150 ميلًا عن اسطنبول في الثالث من نوفمبر من عام 1996. كان ركاب هذه السيارة مجموعة غريبة تشمل نائب قائد شرطة اسطنبول وعضو برلماني، وقاتل مأجور معروف وصديقته، ونجا فقط البرلماني من الجناح اليميني، سدات بوجاك.

بالنسبة للكثيرين في تركيا، ما أصبح معروفًا عن فضيحة سوسورلوك قدم نظرة خاطفة عن الدولة العميقة التركية. كان هناك التساؤل الواضح المتعلق بالكيفية التي جعلت أحد المشرعين بتركيا وقائد شرطة رفيع المستوى يتشاركون ركوبة مع قاتل وتاجر مخدرات معروف يدعى، عبدالله كاتلي. ومن ثم أثيرت مزاعم مثيرة أن فرامل السيارة، التي صدمت الشاحنة بسرعة شديدة، تعطلت عن بعد. جاء على رأس هذه التساؤلات والاتهامات مزاعم أن كاتلي، وصديقته، وقائد الشرطة، نجوا بالفعل من حادث التصادم لكن قتلوا على يد فريق من القتلة الذين وصلوا إلى موقع الحادث قبل وصول الشرطة وطاقم الإسعاف.

حتى تلك اللحظة، كان هناك القليل من الأدلة الملموسة على وجود الدولة العميقة بتركيا، حتى وإن كانت النظرية نفسها، مقبولة كحقيقة من حقائق الحياة السياسية التركية من قبل. كانت مؤامرة غير مرئية، وكان الأتراك، حسني النية، يسدون النصح للأجانب كثيري الأسئلة، للبحث عن دلائل وجودها بين ضباط الجيش وأفراد الشرطة وعملاء المخابرات -المشتبه بهم المعتادون- وأيضًا في أكثر الأماكن التي لا يمكن توقعها مثل وسائل الإعلام وقطاع الأعمال والبيئة الأكاديمية. لم يعرف أحد كيف يعمل كل ذلك، لكن يعتقد أن المجموعات تستخدم قوى الدولة التركية لتحقيق مصالحها على حساب مصالح المجتمع.

وأثبتت نظرية المؤامرة التي تستند إلى فكرة أن “الأشياء لا تبدو كما تراها” جاذبيتها لدى المصريين والأتراك على حد سواء. ورغم انتشار المصطلح والتركيب المتخيّل لمن هم وراءها، إلا أن لدى كل من المصريين والأتراك اعتقاد أن لدى هذه القوى النافذة غير القابلة للتفسير، تأثير فريد من نوعه على مسار نشأة الأحداث. يعيش المصريون والأتراك تحت مظلة نظام سياسي أصبحت فيه الوحشية والفساد والتلّون معايير مقبولة اجتماعيًا. لذا لن يكون مستغربًا أن ينتهي الأمر بالناس انتهى إلى الاعتقاد بوجود الدولة العميقة.

ومع ذلك، مصر وتركيا دولتين يسجن فيهما الصحفيون بشكل دوري، ويسجن معارضي الحكومة، وقوات الأمن مسيسة، والنواب البرلمانيون مرنون، والصحف اسم آخر لحملة معلوماتية مدروسة تشن تحت رعاية القصور الرئاسية. لكن كيف دخلت الدولة العميقة نطاق المباحثات السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية؟

في الأسابيع الأخيرة، نشرت منصات إخبارية مثل “Infowars” “the Intercept”، “AlterNet” و”Breitbart” قصصًا عن الدولة العميقة الأمريكية. وصل المصطلح على الأرجح إلى الولايات المتحدة بنفس الطريقة الذي وصل بها إلى مصر، من خلال أشخاص أنهكهم التفكير في تفسير أحداث في دول لها أنظمة سياسية وثقافية وتاريخية مختلفة مثل تركيا ومصر والولايات المتحدة. بالنسبة لمؤيدي الرئيس دونالد ترامب، الدولة العميقة هي كبش فداء مناسب مع مواجهه الإدارة الجديدة هجوم في الصحافة، واحتجاجات في أنحاء البلاد. ومن ثم هناك ما يبدو أنه حرب غير معلنة بين ترامب وأجهزة الاستخبارات، التي أخرجت للعلن احتمالية تورط مسئولين رفيعي المستوى في أنشطة غير قانونية وربما حتى ترقى للخيانة. كما أن هناك وجهه نظر تقول أنه يبدو أن قوى داخل الحكومة تتواطأ مع الصحافة والديمقراطيين لمحاصرة إدارة ترامب الناشئة.

الأمر الذي يمثل العكس تمامًا لدى معارضي ترامب. حيث يعتبرون هجوم ترامب على الصحافة وجهوده في نزع الشرعية عن القضاء، والصلات غير المفسرة بين البيت الأبيض والحكومة الروسية، والجهود المتأنية لزرع حالة عدم الاستقرار في البلاد مع الأبعاد الخطيرة لخطة ستقلب شكل النظام السياسي الأمريكي من الأساس. فضلًا عن الحقيقة الواضحة أن بعض مستشاري الرئيس الكبار وكبير الاستراتيجيين مثل ستيفن بانون، تحدثوا علنًا عن ” تفكيك النظام”، جميع ذلك يزيد من حدة المخاوف بشأن وجود مؤامرة يدبرها المجموعات الأكثر قوة ونفوذًا لتقويض النظام الديمقراطي الأمريكي.

بعبارة أخرى، يجادل الكثير من منتقدي ترامب أن الدولة العميقة الأمريكية متورطة في انقلاب بطيء. ويعتقد 40% أو نحو ذلك الأمريكيين أن الرئيس يبلي حسنًا، وأن الكثير من المجادلات التي وقعت في الشهر الأول من رئاسته نتيجة لجهود منظمة ومتضافرة نظمتها البيورقراطية الأمريكية لتقويض إدارة ترامب. ترامب نفسه، ألمح إلى ذلك كثيرًا أثناء هجومه على أجهزة الاستخبارات والقضاء.

هناك ما يدعو للقلق حول نزاهه المؤسسات القانونية والسياسية الأمريكية في ظل رئيس ومستشارين جعلوا المؤسستين عرضة للتساؤل والتلاعب. ولا يبدو أن الرئيس فكر في مدى تأثير هذه التكتيكات على المسار السياسي المقبل للبلاد – الحقيقة التي تحوي أجه تشابه شديدة الوضوح للطريقة التي وظفت بها القيادة في مصر وتركيا المؤسسات لتحقيق تحدياتها السياسية الحالية، وأثناء ذلك، رسخوا الطبيعة السلطوية لأنظمتهم السياسية.

لكن بجانب التشابه الظاهر، هناك أوجه اختلاف واضحة أيضًا بين الدولة العميقة المصرية والتركية، ونظيرتهما الأمريكية. في تركيا، الدولة العميقة- إن وجدت- يعتقد أن دورها الحفاظ على أمر واحد ورئيسي وهو تأمين النظام الجمهوري الذي أسسه مصطفى كامل أتاتورك ورفاقه في عام 1932. وتحقيقًا لذلك، سعت الدولة العميقة لقمع التعبير عن القومية التركية والتصدي لطموحات الإسلاميين، وإنكار تاريخ الأرمن في الأناضول، وفي حقبة سابقة، قمع الإشتراكية. أنتج ذلك اغتيالات دورية، وأسهم في حرب استمرت لثلاثة عقود مع حزب العمال الكردستاني فضلًا عن أربعة انقلابات منذ عام 1960.

أما في مصر، لطالما كان هدف الدولة العميقة تأمين ما يمكن وصفه بـ ” النظام الطبيعي” للوضع السياسي، ما يعني استمرار النظام السياسي الذي يهيمن عليه الجيش، والذي أسسه الرئيس جمال عبدالناصر والضباط الأحرار في خمسينيات القرن العشرين. ولطالما كان المصريين أكثر نجاحًا من الأتراك في ذلك، الذين لجأوا كثيرا إلى التدخل العسكري وأعمال العنف للحفاظ على الدولة الجمهورية العلمانية.

أما في الولايات المتحدة، وعلى مستوى أكثر تجريدًا، تقوم البيروقراطية الأمريكية بشئ مشابه لما قامت به الدولة العميقة المصرية والتركية، حماية النظام. الأشخاص في البيت الأربيض والببنتاجون ووزارتي الخارجية والعدل والكونجرس وأجهزة الاستخبارات يبثون تسريبات للصحافة لأنه ليس لديهم خيار مع إدارة لدى مسئوليها صلات غير مفسرة مع روسيا، ومصالح متضاربة، فضلًا عن دعمهم لأشكال ناعمة من القومية البيضاء وفاشية تهدد المثل الأساسية للديمقراطية الأمريكية.

لا شيء مما حدث في الولايات المتحدة منذ تنصيب ترامب يدل على وجود دولة عميقة أمريكية. برزت الفكرة لأن، مثل المصريين والأتراك الذين يعيشون في مجتمعات حيث أفعال الحكومة غامضة، سعى الأمريكيون المحرومون من تفسيرات مقبولة للتحوّل المحير للأحداث في بيئة سياسية مشحونة ومليئة بالاستقطاب، إلى التفسير السهل، وهو نظرية المؤامرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى