ثقافة و فن

الخواجة مصري (5): بيير لاكو..هذه الآثار “مصرية”

أجانب أثروا في تاريخ المصريين

بيير لاكو .. معركة تمصير مصلحة الآثار المصرية

بيير لاكو

سلسلة يكتبها: أحمد الفران*

في خريف ١٩٢٢ وبين عشية وضحها تحول فندق ونتر بلاس بمدينة الأقصر من حالته الساكنة المعتادة إلى ضجيج لامثيل، إذ أصبح الفندق ممتلئا عن آخره بمراسلي الصحف المحلية والأجنبية وممثلي الحكومة المصرية وعلماء المصريات من مختلف جنسيات العالم، ولا صوت يعلو فوق الاصوات التي تتغنى بالاكتشاف الذي هز العالم .. لقد اكتُشفت مقبرة الفرعون الصغير الذي طال انتظاره.. توت عنخ آمون.

لم تكن أجواء الضجيج هي السائدة فحسب، فقد طغت عليها أجواء الشك والريبة التي سيطرت على فندق ونتر بالاس، والتي تعكس حجم الخلاف بين مكتشف المقبرة الإنجليزي هوارد كارتر وممول الاكتشاف اللورد كانارفون مع رئيس مصلحة الآثار المصرية الفرنسي بيير لاكو.

زاد من حدة التوتر بين الطرفيين، بعد أن ظنا (كارتر – كارنارفون) أن من حقهما الاستحواذ على كل ما تحتويه المقبرة، كما يحق لهما أن يفعلا ما يحلو لهما، بل أنهما لم يقدما الدعوة إلى لاكو لحضور الافتتاح الرسمي للمقبرة، وتجاهلا تمامًا الصحافة المصرية، وقاما ببيع الحقوق الحصرية لصور وأخبار الاكتشاف لجريدة التايمز اللندنية في صفقة هي الأولى من نوعها في التاريخ مقابل خمسة آلاف جنيه إسترليني وحصر الدعوة على مراسل أجنبي واحد هو آرثر ميرتون –صديق كارتر- لتغطية حفل الافتتاح.

أثار هذا الأمر حفيظة الصحافة المصرية وبدأت في مهاجمة كارتر وكارنارفون، بل امتد الأمر إلى مهاجمة الحكومة المصرية، فكتبت الأهرام في عددها الصادر في ٤ ديسمبر “أن اللورد منع مراسلي الصحف المصرية و١٢ من أعيان الأقصر من مشاهدة الكنز الأثري العظيم من ميراث أجدادهم وأنه يلفت نظر الرأي العام لذلك ويطالب الحكومة بأن تنتدب مندوبين لحصر الكنز والاستيلاء عليه”، كما كتب كيرلس المنقبادي رئيس تحرير جريدة مصر مقالاً في ٩ ديسمبر ١٩٢٢ جاء فيه “هذا الكنز سيكون له فوائد مزدوجة ولكننا لم نفهم لماذا أهملت الحكومة مراقبة العمل منذ الابتداء وحين الاكتشاف أيضاً ،ولماذا لم يوجد أحد حين اكتشاف هذا الكنز ومن القائم بحراسته الآن؟! …. تريد الأمة المصرية اجوبة صريحة على هذه الأسئلة وتريد قبل كل شيء أن تحتفظ الحكومة المصرية بكل هذه الآثار وتبقيها في المتحف المصري”.

بيير لاكو في منطقة الأهرامات

استغل لاكو الفرصة في إحكام قبضته على الاكتشاف الجديد تحت إلحاح الضغط الشعبي وتراجع النفوذ الإنجليزي في مصر بإعلان استقلال مصر في ١٥ مارس ١٩٢٢، وتقدم بطلب رسمي لكارتر وكارنارفون لتزويد الصحافة المصرية بتقرير يومي عن ما يجري في أعمال التنقيب، وعمل على تغيير قانون الترخيص بالتنقيب عن الآثار ليكون من حق الحكومة المصرية أن تحصل على كل الآثار المكتشفة أو تختار منها بناء على تقديرها لمدى أهمية هذه الآثار بدون أية استثناءات لأية جهة.

مذكرة موقعة من بيير لاكو باللغة الفرنسية حول قانونية حق مصر في امتلاك مقبرة توت عنخ أمون

امتد السجال حول تقسيم مقتنيات المقبرة بين لاكو وكارتر إلى ساحات المحاكم، وعلى الرغم من حكم القاضي بأن القانون المصري يسمح لكارتر بأخذ نصف القطع المكتشفة، إلا أن الحكومة المصرية أعلنت أن كل القطع المكتشفة ستكون ملك الحكومة المصرية حيث أنه قد تم العثور على المقبرة سليمة وفقاُ للقانون.

سنوات من المناوشات بين لاكو وكارتر أنتهت بإقرار كارتر أن ممتلكات المقبرة بأكملها هي ملك للحكومة المصرية ، مع تعويض ورثة كارنارفون بمبلغ 36 ألف جنيه إسترليني هي قيمة تمويل أعمال الحفر، ثم تولت الحكومة المصرية الإنفاق علي أعمال الحفر والتنقيب في المقبرة سبع سنوات، لتنتهي المعركة بانتصار الإرادة المصرية مدعومة بجهود لاكو.

في نفس التوقيت أثيرت مسألة أخرى كان طرفها بيير لاكو وهي خروج رأس نفرتيتي التي ظهرت فجأة في متحف برلين، ليبدأ معركة أخرى مع الألمان العاملين في التنقيب، حينما أدعى لودفينغ بورشاردت عالم المصريات الألماني (مكتشف ومهرب تمثال نفرتيتي) بأنها خرجت بأذن من لاكو، إلا أن الوثائق الرسمية أثبتت تهريب بورشاردت للتمثال، فأصدر لاكو أوامره بمنع الحفريات التى يجريها علماء المصريات الالمان، لتتدخل السلطات النازية لدى الملك فؤاد للإلغاء هذا الإجراء ونجحت السلطات الألمانية فى مساعيها بعد ان قدمت وعداً بإعادة التمثال إلى مصر مرة أخرى، إلا أنه لم يعد إلى الآن.

       على مدار ٣٥ عاماً قدم لاكو نموذجاً فريد في تمصير مصلحة الآثار المصرية، وتغيير القوانين التي تعزز من حماية مصر لتراثها الأثري المتفرد، وتحكم قبضة الدولة المصرية في تقنين أوضاع الحفر والتنقيب.

بيير لاكو على ظهر الحمار خلف جاستون ماسبيرو

نشأته

ولد بيير لاكو في ٢٥ نوفمبر ١٨٧٣ في بلدة بري كومت روبرت بفرنسا، والده المهندس المعماري لويس كليمنت، بدأ تعليمه الأولي في مدراس الرهبنة اليسوعية بنفس البلدة، درس الفلسفة في السوربون عام ١٨٩٧ وفي نفس العام درس علوم المصريات بالكوليج دو فرانس أحد أهم المؤسسات العلمية والبحثية الفرنسية، وتعلم اللغة العبرية.

الطريق إلى تمصير مصلحة الآثار المصرية 

في عام ١٨٩٩ وصل لاكو إلى القاهرة، وتم ضمه إلى اللجنة الدولية المعنية بالمعهد الفرنسي للآثار الشرقية، والمعنية بإعداد الفهرس العام للمتحف المصري وتم نشره عام ١٩٠٤، وكانت تلك هي أولى المهام العلمية التي أُسندت إليه بمصر، في تلك الأثناء لم يكن يتصور لاكو أن مهمته بمصر ستمتد إلى ما يزيد عن الثلاثين عاماً، إذ تشير المصادر إلى رغبته في العودة إلى باريس.

إلا أنه في عام ١٩١٢ أسندت إليه رئاسة المعهد الفرنسي للآثار الشرقية –الذي كان قد استقر بموقعه الحالي بالمنيرة منذ عام ١٩٠٧- وذلك خلفاً لعالم المصريات إميل جاستون شاسيات، خلال عامين كاملين عمل لاكو على تطوير النشاط الأثري للمعهد الذي يقوم بالحفريات في كافة الأراضي المصرية.

وفي ٢٢ نوفمبر ١٩١٤ أصدر حسين رشدي رئيس مجلس النظار المصري الأمر العالي نيابة عن الخديوي عباس حلمي الثاني بتعين بيير لاكو مديراُ عاماُ لدار الآثار المصرية ومصلحة الحفر، ابتداءً من ٧ أكتوبر ١٩١٤، خلفاً لجاستون ماسبيرو الذي أٌحيل إلى المعاش.

لم يتمكن لاكو من تولى إدارة مصلحة الآثار المصرية إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، إذ سافر في بداية الحرب وتم فصله إلا أنه أعيد إلى الخدمة مرة أخرى عام ١٩١٥، ثم سافر مرة أخرى إلى باريس وعاد عام ١٩١٧، ومنذ ذلك الحين بدأ العمل على تمصير مصلحة الآثار المصرية ومراجعة كافة القوانين الخاصة بالحفر والتنقيب على الآثار المصرية، ويبدو أن اكتشاف مقبرة توت عنخ أمون لعب دوراُ مهماً في تدعيم مساعي لاكو في حماية الآثار المصرية وخاصة مع ازدياد الوعي الشعبي بضرورة الحفاظ على الآثار المصرية ومنع خروجها أو إهدائها.

شهد عهده استبدال الموظفين الفرنسيين بالمصريين بمصلحة الآثار، بتعيين عدد منهم بالمصلحة عام ١٩٢١، وفي ٢٣ يونيو ١٩٢٧، أعاد الملك فؤاد تشكيل لجنة الآثار المصرية والذي كان يعطي الغلبة للمصريين في إدارة الآثار المصرية، ولم يعارض لاكو التشكيل، بل أعطى للمصريين كل الفرص المتاحة لتنمية مهاراتهم في علم المصريات حتى ترك عمله في عام ١٩٣٦، بعد أن قام بتغيير قوانين التنقيب عن الآثار المصرية وقصر حق التنقيب على المؤسسات العامة والجمعيات ومنع الأفراد من التنقيب، مما مكن مصلحة الآثار من الحصول على كل الاكتشافات الفريدة.

العودة إلى العمل الجامعي..

عاد لاكو إلى فرنسا في عام ١٩٣٨ وعين أستاذاً لعلوم المصريات بالكوليج دو فرانس واستمر في رئاسة قسم المصريات حتى عام ١٩٤٧، وأنتخب في عضوية أكاديمية النقوش والمخطوطات بباريس عام ١٩٣٩، واستمر في تدريس علوم المصريات حتى وفاته بمقر إقامته بباريس في ٢٧ مارس ١٩٦٣.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أحمد الفران (باحث في السياسات الثقافية)

أحمد الفران

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى