ثقافة و فن

إيهاب عبد الحميد عن خيارات الترجمة: “نسخة المترجم من رواية المؤلف”

 

إيهاب عبد الحميد عن خيارات الترجمة: المكسب والخسارة و”نسخة المترجم من رواية المؤلف”

إيهاب عبد الحميد
إيهاب عبد الحميد

 زحمة

رأى المترجم والروائي إيهاب عبد الحميد أن يكتب مقدمة خاصة حول ترجمته لرواية الأمريكي توماس بينشون* “صيحة القطعة  49″، مقدمة منفصلة عن تلك التي  تناولت بينشون وأعماله وكتبها عبد الحميد أيضا، ليتلوها بمقدمته حول عملية الترجمة نفسها، وما استلزمته من جرأة جدية “ليست حميدة” على حد وصف المترجم، تلك الجرأة التي تبدت في   قدر ليس بقليل من “القرارات” التي اتخذها المترجم تجنبا “للانسحاق أمام العنفوان اللغوي للكاتب”، وسعيا لنتيجة تكون “مفهومة وممتعة”، وهو خيار آخر لجأ إليه المؤلف إلى حد وصفه الترجمة بـ “نسختنا الخاصة من رواية بينشون”، متمنيا  أن يكون ” المكسب من وراء هذه الترجمة أكبر كثيرا من “خسارة” ترك النص مهجورا بدعوى “استحالة ترجمته”.

 novel

عن ترجمة بينشون

إيهاب عبد الحميد

الترجمة خيارات.

والكمال هدف يُسعى إليه ولا يُدرك.

وعلى مترجم بينشون أن يحدد منهاج ترجمته بوضوح، حتى لا يضيع وسط شبكة معقدة من الخيارات.

كان خيارنا منذ البداية تقديم ترجمة يقرأها القارئ العربي المعاصر المعتاد على قراءة الأدب.

هي ليست للدارسين والنقاد (لا نظن أن دارسا لبينشون يمكن أن يكون رأيا نقديا حصيفا من دون قراءته بلغته الأصلية)، بل هي مخلصة لقارئ شغوف يبحث عن متعة مختلفة وخيال متجاوز.

والترجمة عموما هي لعبة المكسب والخسارة.

كل من البدائل المطروحة في كل فقرة وجملة ولفظة يجعلك تكسب شيئا وتخسر آخر.

هذه حقيقة يجب أن يستسلم لها المترجم بشجاعة مهما كان طامحا إلى المثال.

لقد سعينا إلى تقديم رواية “مفهومة” و”ممتعة”، فأن تفقد الرواية أحد هذين العنصرين، ولو حتى بدعوى “أمانة الترجمة”، سيكون اغتيالا حقيقيا للكاتب في لغة أخرى.

هنا، نعدد بعض النقاط الرئيسية للمنهاج الذي اتبعناه في ترجمة بينشون:

 الجرأة:

ليست “الجرأة” بالصفة الحميدة في الترجمة في جميع الأحوال، إذ يغلب الظن على كونها تتناقض أحيانا مع “الدقة” و”الأمانة”، بوصفهما أكثر أهمية.

لكن ترجمة بينشون تحتاج إلى قدر جدي من “الجرأة”، لولاها لانسحق المترجم أمام العنفوان اللغوي للكاتب. والحقيقة أن القارئ يحتاج إلى ملاحظة هذه “الجرأة” في ترجمة روح النص منذ الصفحات الأولى. إن المترجم هنا يجد نفسه وسيطا في “اللعبة” التي يلعبها بينشون مع قارئه، ويحتاج إلى التحلي بقدر من هذه الجرأة لكي يكتسب ثقة القارئ، ومن ثم يستطيع إقناعه بالاشتراك في هذه اللعبة.

يتبدى ذلك من خلال التصدي بقدر من “التأويل” لبعض التراكيب أحيانا، بدلا من نقلها بـ”دقة” و”أمانة” تصبح معها- بالنظر إلى الاختلاف الثقافي والخسائر الطبيعية التي تنشأ من اختلاف اللغات- مفرطة في الغموض ومستعصية على الفهم.

في هذا السياق أيضا اخترنا- في مواضع قليلة- اللجوء إلى كلمات ذات أصل أجنبي، بدلا من المفردات الفصيحة التي لا تؤدي المعنى بدلالاته المباشرة. وافترضنا أن قراء بينشون قادرين، على الأقل، على فهم هذه المفردات البسيطة. فهل يستعصي على القارئ فهم مفردة مثل “سويت شيرت” أو “تي شيرت”؟ وماذا عن كلمة “تلفزيون” التي دخلت اللغة العربية منذ عهد طويل ولم تستطع مفردات فصيحة أن تزيحها عن موقعها؟ هل هناك ترجمة جيدة لكلمة “فلاش باك” تنقل الإحساس بالقدر نفسه من السرعة والكفاءة؟

على الجانب الآخر فإن التردد في الصياغة الذي يفضل الصياغات “الأسلم” على حسابات الصياغات الأكثر جرأة قد يكون مستساغا من باب إبراء الذمة في نصوص أخرى، لكننا وجدناه هنا أمرا غير مقبول. إذ أن المسألة لا تقتصر على “بعض الصياغات”، وإنما تتجاوزها لذهنية سردية متكاملة.

مرة أخرى: ليست الجرأة هنا غاية مبتغاة في ذاتها، وإنما وسيلة لتحقيق أكبر قدر ممكن من “المتعة” و”المفهومية”.

الغموض الفني:

في كثير من الأحيان، عندما يواجه المترجم تراكيب سردية أو لغوية غامضة أو ملتبسة، لا يجد أمامه بدائل تمنحه المستوى نفسه من الغموض في اللغة المستهدفة. بل يجد بدائل تمنحه درجة أكبر أو أقل. ما لم نجد الدرجة نفسها من الغموض الفني، مِلنا عادة- في هذه الترجمة- إلى اختيار البديل الأقل غموضا، تماشيا مع قواعد “المفهموية” و”الإمتاع” سالفة الذكر.

 الإحالات

ليست الهوامش الشارحة جهدا محمودا من المترجم في جميع الأحوال، عند تصديه لترجمة العمل الأدبي، ولا يجب أن تكون من دواعي فخره، كونها تقطع التدفق السردي، وتخرج القارئ من بين السطور.

لكن الواقع أن رواية كهذه لا يمكن قراءتها من دون فهم إحالاتها. لذلك كانت الاستعانة- التي قد يراها البعض للوهلة الأولى مفرطة- بالهوامش الشارحة.

لدينا القارئ الأمريكي “الأصلي”، ابن ستينيات القرن العرشين (وقت ظهور الرواية)، ولدينا القارئ العربي ابن العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين (وقت ظهور الترجمة)، وبينهما طيف واسع مكاني، وزماني، ولغوي.

يقودنا هذا إلى مشكلة أخرى، هي أن الإحالات قد تكون غامضة في الأصل، تبعا لمستوى القارئ. أي أن هناك قارئ أمريكي يمكن ألا يفهم إحالة معينة، في حين يفهمها قارئ آخر، بحسب درجة معرفته. فأي الإحالات تستحق الشرح وأيها يفضل تركه على حاله؟

في هذا السياق، كان أمامنا خياران: إما أن نوفر شروحات لجميع الإحالات التي نراها مهمة، ما يجعل القارئ العربي أكثر “علما” من بعض القراء الأمريكيين، لكنه يبطئ من إيقاع القراءة؛ أو أن نهمل عددا كبيرا من الإحالات، بزعم أن كثيرا منها يستعصي على القارئ الأمريكي “العادي” نفسه.

وقد اخترنا بلا جدال الخيار الأول، تطبيقا لمنهاج “المفهومية” و”المتعة”.

 الإيقاع:

في كثير من الأحيان، وتجنبا للهوامش الشارحة، التي استخدمناها بكثرة على أي حال، اضطررنا إلى استخدام أكثر من لفظة لترجمة لفظة واحدة، مع أن هذا قد يخل بعض الشيء بالإيقاع.

ولأن الترجمة- كما أسلفنا- خيارات، لكل منها ميزاته وعيوبه، فقد اخترنا البديل الأفضل في رأينا، ولو خسرنا أحيانا الإيقاع خسارة تستحق الرثاء.

 الأسماء

على الجانب الآخر، قررنا أن نمسك عن وضع هوامش بالإحالات التي قد تنشأ عن أسماء الشخصيات والأماكن التي اختارها الكاتب.

والحق أن اختيار بينشون لهذه الأسماء يستحق دراسة بذاتها. هناك أسماء سيفطن القارئ بنفسه لإحالاتها، مثل اسم البطلة (أوديبا). لكننا عموما لم نرغب في إرهاق القارئ بالتأويلات المختلفة للأسماء.

مع ذلك، فمع ظهور شخصية ما بوصفها “تاريخيه”، كنا نحرص- أحيانا- على وضع هامش يوضح للقارئ ما إن كانت حقيقية فعلا- كما يقول الكاتب- أم أنها من ابتداعه ووحي خياله.

 تقطيع الجمل الحوارية:

لدينا- عموما- طريقتان لترجمة الجمل الحوارية:

الأولى هي الطريقة المعيارية للغة العربية، حيث يسبق القائل قوله، وهي التي نستخدمها على وجه العموم في هذه الترجمة. انطلاقا من كون الجملة الحوارية المعيارية في الانجليزية تستحق النقل إلى جملة حوارية معيارية في العربية. والأمانة هنا تقتضي الالتزام بـ”المعيارية” أكثر من “طريقة تقطيع الجملة”.

مع ذلك، فقد لجأنا إلى الإبقاء على التقطيع “الأصلي” للجملة (القول قبل القائل)، وهي الطريقة الثانية، حين رأينا غرضا آخر من ذلك، وهو “الالتفات”. أي عندما شعرنا أن الهدف هو إثارة انتباه القارئ لعبارة معينة، أو مفاجأته، قبل أن يعرف من القائل. وهي عموما عملية تقديرية بالأساس.

وأخيرا:

هذه نسختنا الخاصة من رواية “صيحة القطعة 49″، التي حاولنا خلالها الموازنة بين المتعة والمفهومية والدقة والأمانة، في نقل الرواية الأصلية إلى العربية، مستغلين ما نمتلكه من أدوات، محدودة بأي حال.

إننا واعين بخسائرنا قدر ما نحن واعين بـ”المكاسب”، ونتمنى أن يتفق القارئ على أن المكسب من وراء هذه الترجمة أكبر كثيرا من “خسارة” ترك النص مهجورا بدعوى “استحالة ترجمته”.

وفي النهاية، نتمنى- قبل كل شيء- قراءة ممتعة.

..

*توماس راجلز بينشون الصغير (Thomas Ruggles Pynchon, Jr). (وُلد في 8 من مايو 1937م) روائي أمريكي. حاصل على منحة زميل ماك آرثر، تتسم رواياته بالغموض والتعقد. من أشهر رواياته ” قوس قزح الجاذبية”،  “صيحة القطعة  49 “، وميسون ديكسون”،  يشتهر بينشون أيضًا بالعزلة العميقة التي تكتنفه، فلم يُنشر له إلا عدد قليل جدًا من الصور الفوتوغرافية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى