رأي النخبة

محمد العريان: أزمة عمالقة التكنولوجيا

النتائج المبهرة لشركات التكنولوجيا تواجه تحديا كبيرا

*محمد  العريان

ترجمة: مايسة كامل        

سنغافورة ــ تُظهِر النتائج الفصلية المبهرة من أكبر شركات التكنولوجيا أنها لم تقترب حتى من إشباع أسواق المستهلكين، أو استنفاد دورات الإبداع والابتكار، أو الوصول إلى مرحلة نضج النمو. وإذا تعمقنا بشكل أكبر في هذه التقارير فسوف توضح لنا أيضا الأهمية الجهازية الكبيرة والمتنامية التي يتمتع بها هذا القطاع. ولكن من منظور قطاع التكنولوجيا هناك جانب سلبي واضح لهذا التطور.

فمع تزايد الأهمية الجهازية يأتي غالبا المزيد من التدقيق. والواقع أن عمالقة التكنولوجيا المزدهرة والمبدعة تواجه الآن احتمال نشوء جهود مضاعفة لتنظيم أنشطتها وفرض الضرائب عليها. وكلما استغرقت هذه الشركات وقتا أطول لإدراك أهميتها الجهازية، كلما تعاظمت احتمالات حدوث ردود أفعال سلبية أشد قوة من قِبَل الحكومات وعامة الناس، وهذا من شأنه أن يلحق الضرر بالشركات ويقوض قدرتها على الاستمرار في إنتاج الإبداعات التي تعزز رفاهة المستهلكين حقا.

عندما بدأ قطاع التكنولوجيا يتطور نحو الأهمية الجهازية، كان يتألف من مجموعة من الشركات البادئة المتحمسة التي تمتلك تكنولوجيات خارقة. وإلى جانب تعطيل القطاعات والأنشطة الاقتصادية القائمة، انتهت هذه التكنولوجيات إلى إنتاج طلب جديد على السلع والخدمات الجديدة بالكامل التي مكنتها.

الواقع أن سجل سابقات أعمال شركات التكنولوجيا ــ التي تثبت مرة تلو الأخرى قدرتها على تحقيق نمو غير عادي ــ يمكنها من اجتذاب استثمارات هائلة. وهي بالتالي قادرة ليس فقط على تعزيز مكانتها في السوق، بل وأيضا تطوير قدرات مبدعة في مناطق جديدة، من خلال الاستحواذ على المنافسين الأصغر حجما، سواء كان ذلك فعليا أو مرتقبا. حتى أن بعض هذه الشركات قادرة حتى على مقاطعة ذاتها بشكل متكرر ــ وبالتالي البقاء بشكل مستمر على حدود التكنولوجيا.

وما يغذي المزيد من النمو الملحوظ الذي تسجله شركات التكنولوجيا الكبيرة أن العديد من خدماتها مجانية ظاهريا، مما يسهل على المستهلكين تبنيها بسرعة. ومن المفيد أن هذه الخدمات يمكن تقديمها غالبا في الخارج بنفس سلاسة تقديمها في بلد المنشأ، إلى الحد الذي أصبح معه مفهوم “الخارج” ذاته مرنا إلى حد كبير.

بمرور الوقت، أدى التراكم السريع لقوى السوق في يد شركات التكنولوجيا الكبرى إلى ظهور احتكارات القِلة في بعض القطاعات، واحتكارات مطلقة في القليل من القطاعات. وفي بعض الحالات ارتفع نفوذها الاجتماعي والاقتصادي بل وحتى السياسي إلى عنان السماء. على سبيل المثال، لعبت شركات مثل فيسبوك وتويتر دورا محوريا في تحفيز المحتجين خلال انتفاضات الربيع العربي في عام 2011.

كما قد يُفضي هذا إلى مخاطر جسيمة: فبقدر ما قد تكون إبداعات الشركات التكنولوجية الكبرى مفيدة، فإنها ربما تخدم أيضا كقنوات مهمة تستغلها قوى حكومية أو غير تابعة لدولة بعينها لإحداث انقطاعات من صنعها. ففي الفترة السابقة للانتخابات الرئاسية العام الماضي في الولايات المتحدة، عملت بعض منصات التواصل الاجتماعي عن غير قصد على نشر معلومات مضللة. والأمر الأشد خطورة هو أن جهات متطرفة مثل تنظيم الدولة الإسلامية اعتمدت على وسائل التواصل الاجتماعي لأغراض التجنيد والدعاية.

ليس من المستغرب أن تميل شركات التكنولوجيا الكبرى إلى التحرك بسرعة أكبر من الحكومات والهيئات التنظيمية. وعلى هذا فإن ما بدأ كإهمال حميد قائم على مبدأ عدم التدخل ــ نتيجة للجهل وعدم الانتباه إلى حد كبير ــ يتطور الآن إلى شيء أكثر قوة. ومع بلوغ شركات التكنولوجيا نقطة الأهمية الجهازية، تتغير المواقف في التعامل معها بشكل ملحوظ.

في السنوات الأخيرة، أضحى هذا التحول ظاهرا على نحو متزايد، مع مواجهة شركات التكنولوجيا الكبرى لقدر متزايد من التدقيق في ممارساتها التنافسية، وسلوكياتها الضريبية، واستخدامها للبيانات، وسياسات الخصوصية. كما نشأت تساؤلات أوسع نطاقا حول مساهماتها في إزاحة العمالة وتأثيرها على نمو الأجور، حتى مع إدراك المجتمعات على نحو متزايد لحقيقة مفادها أن تعطيل التكنولوجيات الجديدة للنظم القائمة يعني ضمنا الحاجة إلى إصلاح التعليم وتحسين القدرة على اكتساب المهارات وإعادة التدريب.

ومع ذلك، يبدو أن قطاع التكنولوجيا ذاته يقلل من أهميته الجهازية المتزايدة. ونتيجة لهذا، ربما تتأخر الشركات في إدراك الحاجة إلى تحديث عملياتها ومواردها وعقليتها بحيث تعكس التحول من شركات صغيرة معطلة للنظم القائمة إلى شركات قوية قائمة على الأمر كله. وهذا يعني بناء نماذج عمل أكثر شمولا وتكاملا، والاستعانة بمواهب من ذوي الخبرة في مجموعة أوسع من المناطق، من أجل تجاوز تركيز هذه الشركات الشديد على الإبداع والابتكار.

كلما طال أمد هذه العملية، كلما تعاظم خطر فقدان شركات التكنولوجيا السيطرة على السرد. فبعيدا عن تغذية ارتفاع المراقبة الخارجية، والتنظيم، والإشراف، هناك خطر ردود الفعل السلبية من جانب المستهلكين ــ أو حتى استغلال الإبداعات من قِبَل قوى خبيثة.

في عالَم مثالي، كانت شركات التكنولوجيا الكبرى لتدرك وتكيف دورها المتغير في التعامل مع القوى الخارجية، بما في ذلك الحكومات والمستهلكين، وبالتالي إيجاد التوازن الصحيح بين الإبداع، والمزايا التي تعود على المستهلك وحمايته، والأمن القومي. ولكن عالَمنا ليس مثاليا. وحتى وقتنا هذا، كانت تصرفات القوى الداخلية والخارجية غير متزامنة وغير متوافقة، في ما يتصل بالتصورات، والقدرات، والتدابير. وإذا أضفنا إلى هذا التحيز الواعي وغير الواعي والإغراء العظيم للتلاعب بالسياسة، تُصبِح المخاطر أشد عمقا وتعقيدا.

تستطيع شركات التكنولوجيا الكبرى، بل ينبغي لها، أن تلعب دورا أكبر في مساعدة الاقتصاد بالكامل على التطور بطريقة منظمة ومفيدة للأطراف كافة. وسوف يتطلب هذا في المقام الأول من الأهمية أن تستوعب أهميتها الجاهزية، وتعمل على تكييف منظورها وسلوكياتها وفقا لذلك. ولكن الأمر يتطلب أيضا التواصل بشكل أفضل، مع اكتساب أهداف الشركات وعملياتها لقدر أكبر كثيرا من الشفافية. وأخيرا، يدعو الأمر إلى الالتزام بالرصد المعزز ومراقبة ذواتها ونظرائها، فضلا عن الاتجاه إلى التدابير الجمعية الأكثر فعالية، كلما كان ذلك مناسبا.

إذا فشل قطاع التكنولوجيا في إحداث هذه التغييرات، فسوف تشتد حدة الرقابة الحكومية والتنظيمات حتما. وليس من المؤكد على الإطلاق أن تكون النتيجة الصافية إيجابية بالنسبة للمجتمع، ناهيك عن عالَم الأعمال.

محمد عبد الله العريان كبير المستشارين الاقتصاديين في أليانز، وكان رئيسا لمجلس الرئيس الأميركي باراك أوباما للتنمية العالمية، وهو مؤلف كتاب “اللعبة الوحيدة في المدينة: البنوك المركزية، وعدم الاستقرار، وتجنب الانهيار التالي”.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2017. ينشر بالاشتراك مع زحمة دوت كوم
www.project-syndicate.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى