سياسة

ذي إتلانتيك: الثورة المصرية أكلت أبنائها؟..5 عائلات تروي

خمس عائلات تروي  قصص المعاناة بعد خمس سنوات من الثورة

أحد المتظاهرين في مصر يظهر من ثقب بلافتة مطالبة بالإفراج عن سجناء سياسيين

أتلانتيك – لورين بون – إعداد وترجمة: محمد الصباغ

يستغرق الوصول من ضاحية فيصل بالقاهرة إلى السجن قرابة 30 دقيقة بالسيارة. هناك الكثير من السجون في مصر، لكن يبدو أن الجميع يعرفون سجن طره، الذي افتتح عام 1908. بالسجن مجموعة مختلفة من بينهم المعارضين، ورجال الأعمال، والإسلاميين، ورجال الدولة –من بينهم الرئيس المخلوع حسني مبارك، الذي حكم مصر لثلاثة عقود قبل أن تسقط الانتفاضة التي بدأت تحديداً منذ 5 سنوات نظامه.

منذ ذلك الحين، لم تتوقف الاضطرابات، وأصبحت أكثر شخصية عنها جماعية. شهدت البلاد أول انتخابات ديمقراطية على الإطلاق، ثم موجة جديدة من التظاهرات المعارضة لحكم محمد مرسي، الرئيس الإسلامي الذي وصل إلى الحكم عبر الانتخابات، ثم انقلاب عسكري قاده قائد الجيش آنذاك عبدالفتاح السيسي، وأعاد نوع الاستبداد الذي غامر المتظاهرون بحياتهم وخرجوا ضده منذ خمسة أعوام. طالت الحملات الأمنية الليبراليين والإسلاميين على حد سواء، ليصبح السجن غرفة لدفن طموحات الثورة، بتنوعها المختلف.

تحفظ نورهان حفظي الطريق إلى السجن من شوارع فيصل الضيقة المليئة بالقمامة حتى المجمع بنيّ اللون الكائن بالصحراء. وفي مكان ما بهذا المكان يتواجد زوجها، أحمد. محتجز هناك طوال العامين الماضيين.

تقول نورهان: ”مر 5 سنوات منذ الإطاحة بمبارك، وها نحن نعود إلى المربع الأول.“

كان أحمد دومه في سن السادسة والعشرين من أبرز النشطاء الليبراليين، ويبقى رمزاً حياً للثورة: كان مفعما بالحيوية وبروح الانتصار، والآن واهن ومجبر غير مسموع خلف القضبان. اعتاد الزوجان الشابان على الحديث لساعات عن افتتاح مكتبة، وربما حتى دار نشر تخصص لتعزيز الحرية والديمقراطية في البلاد. الآن، أحاديثهم مقتضبة ومراقبة  وتكون لمدة 20 دقيقة كل أسبوع.

وتصحح والدة أحمد ،فتحية، ما قالته نورهان: ”الوضع أسوأ من المربع الأول.“ اعتادت مرافقتها إلى السجن. وبالنسبة لها، الرحلة إلى هذا المكان تثير ذكريات الماضي، فوالدها وأغلب أقاربها الذكور ألقي القبض عليهم على مدار العقود الماضية لانتمائهم إلى جماعة الإخوان المسلمين المحظورة حالياً.

وتضيف: ”لو لم تكن مع النظام العسكري، فأنت إرهابي. لكن بعدما تحذف كلمة إرهابي تجد أن الاسم هو لأشخاص تعرفهم.. ابنك، زوجك، البائع في الشارع… أي شخص. الدولة منقسمة… القادم لا يعرفه أحد.“

ازدادت حدة القمع قبل الذكرى الخامسة لبداية ثورة 25 يناير، ألقت قوات الأمن مؤخراً القبض على نشطاء وأغلقت مراكز ثقافية في وسط القاهرة.

أما جمال عيد، المحامي والناشط بمجال حقوق الإنسان فيقول: ”نحن في مواجهة أسوأ فترة وأكثرها قمعية في تاريخ مصر الحديث. حرية من هم خلف القضبان هي حريتنا.“

بعد خمس سنوات من الانتفاضة المصرية الشهيرة وانتصرت لفترة، إليكم خمس قصص لخمس عائلات من أطياف سياسية مختلفة وحدّهم الثورة التي تلتهم أطفالها.

السجين: أحمد دومة

الزوجة: نورهان حفظي  والأم: فتحية دومة

استغرق الأمر بعض الوقت حتى تتعامل الأم بود مع زوجة ابنها الأكبر. الظوجة ليست محجبة، والأم عاشت في قرية بدلتا النيل وكانت قلقة من أحاديث الناس. تصف نورهان نفسها بأنها ناشطة ليبرالية، بالرغم من نشأتها بضاحية محافظة في القاهرة، كان مسموحاً لها بمزاملة الأولاد والاشتراك في المسرح المدرسي. أما فتحية فتنتمي إلى عائلة من أتباع الإخوان المسلمين في الريف. تلك المجتمعات التي عانت من إهمال كبير أثناء حكم مبارك، فقدم الإخوان المسلمين بعض الخدمات الإجتماهية كالعيادات ومدارس التمريض. وترى فتحية أن تنظيم الإخوان ”يعبر عما يعنيه أن تكون مسلماً. الأمر يتعلق بالاهتمام بالجميع“، وعند تلك العبارة أدارت نورهان رأسها بعيداً.

في فبراير 2015، حكم بالمؤبد على أحمد دومة كجزء من حملة السيسي القمعية. لكن السجن لم يكن بجديد عليه، فقد ألقي القبض عليه أول مرة عام 2009 على حدود قطاع غزة مع عديد النشطاء الذين كانوا يعبرون عن تضامنهم مع الفلسطينيين. وتقول نورهان إن الإخوان المسلمين لم يدافعوا عنه في ذلك الحين بالرغم من استخدامهم الدائم لحصار غزة في هتافاتهم السياسية. غيرت تلك التجرية من أحمد، واعتبر أن الجماعة  التي تربى في كنفها ”منافقة“ إن لك تكن من أعدائه.

اطلق سراح دومة بعد فترة، وفي عام 2010 تقابل مع نورهان في مظاهرة للتضامن مع فلسطين. وأحب كل منهما الآخر سريعاً، وأعلنا خطبتهما يوم 11 فبراير 2011،ليلة الإطاحة بمبارك، في ميدان التحرير. وبعد وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم، عارض أحمد دومة حكومة مرسي لفرضهم أجندة دينية محافظة ولعدم محاسبتهم للجيش على العنف ضد المتظاهرين.

القي القبض عليه مرة أخرى في عام 2012، والسبب هذه المرة من بيم كُثر هو رسم جرافيتي معادي لمرسي على مقر الغخوان المسلمين، ثم اطلق سراحه سريعاً مرة أخرى. واتفق الأب على الفور، وهو عضو بجماعة الإخوان، مع عقاب ابنه. وتقول والدته: ”تسبب ذلك في شرخ بيننا وبين أحمد،“ وتضيف: ”بدأت نورهان تشعر بأنها وأحمد في فريق ونحن ننتمي إلى فريق مختلف.“

وفي 30 يونيو كان أحمد من بين الملايين الذين تظاهروا في الشوارع مطالبين برحيل مرسي وانتخابات مبكرة. وفي 3 يوليو، هتف مع كثيرين بعد إطاحة الجيش بمرسي. وقال له والده حينها إن شباب الدولة حمقى، وأن ”الدولة العميقة“ ستطغو على المشهد. وبعد أكثر من عامين، يعتقد الكثيرون أنه كان على حق. فأحمد خلف القضبان. ووالده في دلتا النيل مهدد بالقبض عليه في أي وقت مثل الكثير من الأقارب والأصدقاء.

لكن مع وجود عدو مشترك وهو ”الدولة العميقة“، تبقى العائلة منقسمة وهناك شعور كبير بعدم الثقة. تقول نورهان: ”في أي لحظة يمكن أن يفعل الإخوان المسلمين أي شئ باسم الدين، أو باسم الجماعة من أجل الدفاع عن أنفسهم. ولسوء الحظ، علاقاتي مع كل الأعضاء بالجماعة من حولي فقط يثبت وجهة نظري.“

أما فتحية فقد ردت على ذلك، وتذكرت زواج ابنها الأصغر مؤخراً وكيف أنه قرر الانتظار حتى خروج شقيقه من السجن، لكن بعد الحكم الأخير بالمؤبد قرر ألا ينتظر. وتقول الأم ويملأ وجهها الدموع: ”أثناء الزواج، كنت مشتتة الذهن لغياب أحمد، ولم الحظ حتى أن ابني الآخر يتزوج.“

أمسكت نورهان بذراعيها وقالت: ”كل شئ سيكون على ما يرام أمي. كل شئ سيكون على ما يرام.“ وأعطت فتحية منديلاً، لكن ليس قبل أن تستخدم آخر لتجفف دموعها هي.

السجينة: إسراء الطويل

الأم: هناء   الشقيقة: دعاء

عادت إسراء الطويل-23 عاماً- إلى منزلها بعد قضاء ستة أشهر في السجن. وجدت قطتها وودي، التي أنجبت عديد القطط في غياب إسراء، وجهاز المشي الذي تستخدمه في تمارينها الرياضية بعدما أصيبت برصاص ضابط شرطة في 2014 خلال الذكرى الثالثة لثورة 25يناير.

في الصيف الماضي قالت والدتها، هناء: ”لم تكلف إسراء مصر شيئاً والآن مصر سلبتها أغلى شئ: حريتها.“

اتهمت إسراء بالانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين المحظورة وبنشر تقارير كاذبة ”تشوه سمعة مصر“- وقد أنكرت تلك التهم. وأفرجت عنها محكمة الجنايات في ديسمبر لأسباب صحية، لكن تحركاتها لازالت محدودة وتحت المراقبة. ولا يسمح لها بالحديث إلى الإعلام.

تصف والدة إسراء وشقيقتها ما حدث بالكابوس. ففي أحد أيام يونيو الماضي، خرجت إسراء مع أصدقائها المقربين ،عمر محمد وصهيب سعد، إلى أحد المطاعم ولم يعودوا إلى المنزل.

وتقول دعاء شقيقتها: ”انتظرنا 17 يوماً لنعرف أنها محتجزة. كانت الأيام طويلة وجميعنا حلمنا بكوابيس. هل قتلها أحدهم؟ هل مازالت حية؟“

خلال فترة سجنها، تدهورت قدرة إسراء على المشي. نادراً ما كانت دعاء تبتسم، وبالكاد كانت مهتمة بإنهاء عامها الأخير بالجامعة. أما شقيقتهم الصغرى آلاء، فانقطعت عن الدراسة. تقول والدتهن إنها لا تريد تأنيب نفسها على فقدانها. لماذا نخطط للمستقبل في دولة حيث الخروج في ليلة إلى تشيليز يمكن أن يكون بداية لشهور من الألم؟

في الصيف الماضي قالت هناء، إنه بمجرد خروج إسراء سيغادرون البلاد. لكن إسراء حالياً خارج السجن، لكن لا طريق للمغادرة. حتى موعد النطق بالحكم أو يتم إسقاط التهم عنها أو حتى….. لا يعرفون.

السجين: محمد إمام

الوالدة: صالح طاهر

نشأت الوالدة في منطقة العوايد بالإسكندرية، ضاحية فقيرة على الأطراف ولم تفهم السياسة. وقالت العضو بحزب الكنبة إنها لم تكن تشاهد الأخبار من قبل. وفي رؤيتها لمصر، كان عام 2011 مجرد عام آخر.

وتشرح وهي تتحدث بجوار زوجها وابنها الأكبر :”لسنا بعائلة سياسية. لا نحب السياسة.“

لكن الآن تخنقهم السياسة. ففي يناير 2014، أصيب نجلها محمد إمام -21 عاماً- في قدمه خلال مظاهرة بجامعة الإسكندرية. وفي إبريل ألقي القبض عليه عقب مظاهرات بالجامعة.

بالرغم من نفي والدته لكونه ناشط، يقول أصدقاءه إنه كان عضواً بحركة 6 إبريل- المجموعة التي ساعدت في تنظيم المظاهرات الضخمة التي أدت إلى الإطاحة بحسني مبارك في فبراير 2011. في حين تقول الأم: ”لا نعرف حتى ما هي 6 إبريل.“

سجن محمد أمر معقد بالنسبة لعائلته. والده ضابط جيش متقاعد. وكل ما يقوله :”غير مسموح لنا بالتدخل في السياسة.“

في حين تردد شقيقه الأكبر تامر -36 عاماً- في انتقاد النظام، خوفاً من تعقيد موقف أخيه. وقال: ”أعتقد أن أي شخص أعمى يمكن أن يفهم الحالة. هناك تجاوزات كبيرة تحدث في الدولة ويقع ذلك على عاتق الشخص المسؤول.“ وفي ركن بعيد بالغرفة جلس الأب وأبدى امتعاضه.

وعندما سألت الأب عن رأي تامر قال: ”أمر يخصه.“ لم يزر ابنه حتى الآن بالسجن وقال: ”لا رأي لي في كل ذلك.“

مي القهوجي

السجين: لؤي القهوجي

الشقيقة: مي القهوجي

يبدو أن مي كبرت بمعدل 50 عاماً خلال الخمس سنوات الأخيرة. مع بداية الثورة، لم تعرف ماذا يحدث وما الذي كان على المحك. نشأت في الإسكندرية ولم تذهب إلى القاهرة مطلقاً. لم تفعل إلى الآن. لكنها حالياً 20 عاماً، ورأت الكثير والكثير.

تقول :”لم أعد طفلة بعد الآن. لم يعد هناك أطفالاً.“  فقطت مع طفولتها أصدقاء بسبب الاختلافات السياسية. وفقدت آخرين بسبب الموت. كانت شاهدة على مقتل اثنين من أصدقائها، حيث كانوا يتظاهرون مطالبين بحقوق أكثر.

فقدت أيضاُ احساساها بالمكان. لكي ترى شقيقها لؤي -28 عاماً- يجب أن تستيقظ عند الفجر وتسافر إلى سجن برج العرب بالإسكندرية، حيث يقضي شقيقها حكماً بالسجن لعامين. انتظرت لخمس ساعات في ظروف ”مقززة“ كي تراه لمدة 20 دقيقة.

تقول: ”لؤي يرى أن الوضع في مصر سيئ جداً، والبقاء في السجن أفضل لأنني لو كنت بالخارج لفعلت شيئاً متهوراً أو متشدداً.“ وتضيف: ”كان ليستمر في التظاهر ولن يعود حتى وفاته.“

حكم على لؤي وآخرين بالشجن لمدة عامين في فبراير 2015، وتشمل الاتهامات التظاهر بدون ترخيص و تهديد الأمن العام. وبعد الطعن، تم تخفيف الحكم إلى عام واحد وثلاثة أشهر. لؤي في السجن بالفعل يقضي عقوبة بقضية أخرى وهي التظاهر دون تصريح أمام محكمة جنايات الإسكندرية عام 2013، أثناء محاكمة ضباط شرطة متهمين بقتل خالد سعيد.

تقول مي :”عندما كنت طفلة، كرهت الصراصير. متى رأيتهم في المنزل أصرخ وعلى الفور أحاول قتلهم. لكن لؤي كان يبعدهم فقط. ويطلب مني فعل الشئ ذاته.“ وتضيف: ”قال لي ليس لأنك تكرهينهم فمن حقك قتلهم. ولأنك تكرهينهم لا يعني ذلك أنك لا تستطيعين الحياة معهم.“

رضوى

السجين: محمد البهيت

الابنة: رضوى البهيت

خلال الستة أشهر الماضية، عندما أردات رضوى رؤية والدها أو الحديث معه، كان يجب عليها انتظار مكالمة هاتفية من رقم مجهول. ثم تسافر من قريتها على دلتا النيل إلى مكان سري حول القاهرة، حيث يقوم بتغيير مكان إقامته مرة كل عدة أسابيع.

ألقي القبض على والدها في أكتوبر 2013، لكونه عضواً في جماعة الإخوان المسلمين. وبعد عامين ونصف خلف القضبان، أطلق سراحه. لكنه لم ييهنأ طويلاً بحريته. علم بصدور أمر آخر بالقبض عليه، هرب على الفور.

تقول طالبة الحقوق ،20 عاماً :”كانت أمامه فرص لمغادرة البلاد وأن يكون حراً. لكن لو هرب الجميع، من سيبقى ليقاتل؟ من سيبقى ليستمر في الصراع؟ عندما تؤمن بقضية، يعطيك ذلك قوة على الاستمرار.“

كان والدها قيادي بالجماعة منذ الصغر. وألقي القبض عليه إبان حكم مبارك لنشاطه مع الجماعة في أعوام 2005، و2007، و2010، لكن كل مرة لم يحتجز لأكثر من 25 يوماً. وتقول الابنه :”الإخوان ليست مجرد جماعة، بل أسلوب حياة.“

وفي الوقت الذي تقول فيه رضوى إن الجماعة عادت للعمل تحت الأرض، إلا أنهم ملتزمون كأي وقت مضى. يقيمون اجتماعاتهم الأسبوعية في اماكن سرية وقاموا بتعيين قيادة محلية جديدة. ومع ذلك تخشى مع معرفة الجميع بانتمائها، أن يتم فصلها من الجامعة في أي لحظة.

تقوم كل اسبوعين أو أكثر مع أصدقائها بمظاهرات صغيرة، لكنهم يشعرون بعجزهم عن التأثير وعمل تغيير حقيقي.

تريد أن تصبح محامية متخصصة في قضايا حقوق الإنسان، وبالفعل بدأت العمل مع منظمة حقوقية عربية مقرها لندن. تقوم بتوثيق عمليات القبض وتتواصل مع عائلات المحتجزين. وتقول: ” تنحى مبارك، كان ذكرى رائعة. والآن كل ما نملكه هو الذكريات.“

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى