سياسة

فورين بوليسي: سقوط الإمبريالية سبب فوضى الشرق الأوسط

 فورين بوليسي: سقوط الإمبرياليات وانسحابها من الشرق الأوسط الهشّ سبب الفوضى

فورين بوليسي – روبرت كابلان – ترجمة: محمد الصباغ

على الرغم من السمعة السيئة الحالية للإمبريالية، إلا أن الإمبراطورية كانت النظام المعروف للحكم في أغلب فترات التاريخ التي تم تسجيلها، و كان انهيار الإمبراطوريات دائماً حدثا فوضويا كما جرى في الهند و الصين منذ العصور القديمة و خلال القرن العشرين أو في أوروبا عقب الحرب العالمية الأولى.

كل الانهيار الموجود حالياً في العالم العربي و الفوضى في أجزاء من شمال إفريقيا، و شبه الجزيرة العربية و الشام أيضاً يرتبط بالنهاية الأخيرة للإمبريالية. و يؤكد ذلك سقوط مدينة تدمر السورية في أيدي تنظيم الدولة الإسلامية، وهي المدينة التاريخية و أحد أكثر المواقع الأثرية الرائعة في الشرق الأدنى.  تظهر مدينة تدمر كيف أن المنطقة كانت تحددها الممرات التجارية أكثر من الحدود الثابتة. و استيلاء الهمجيون عليها فقط يبرز تلك الحقيقة.

 هناك ثلاثة أنظمة إمبريالية نشهد انهيارها الآن في الشرق الأوسط.

أولاً، تظهر الفوضى في الشرق الأوسط أن المنطقة لم تجد إلى الآن حلاً بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى. لمئات السنين كانت النزاعات الإقليمية قليلة في بلاد الشام و الرافدين بين كل من السنة و الشيعة، أو العرب و اليهود، و أيضاً بين المسلمين و المسيحيين. كانوا جميعاً تحت سيادة إمبراطورية إسطنبول، التي حمت كل طائفة من الأخرى. انهار هذا النظام عام 1918، و أطلق العنان لشيطان النزاعات القومية، و الطائفية و العرقية التي انطلقت للسيطرة على الأراضي و الحدود تحديداً.

ثانياً، كان الانهيار العراقي عقب الإطاحة بصدام حسين، و انهيارسوريا مع بداية الربيع العربي، و ظهرت الدولة الإسلامية و كل ذلك وضع حداً للحدود التي أقامتها الإمبريالية الاوروبية (فرنسا و بريطانيا) في الشام.

ثالثاً، النهج الواضح للرئيس الأمريكي باراك أوباما برفع الأيدي عن تلك التطورات، يظهر نهاية دور أمريكا كقوة عظمى في تنظيم و استقرار المنطقة. و منذ الحرب العالمية الثانية أصبحت الولايات المتحدة إمبراطور العالم في كل شئ عدا الاسم فقط. (لا أحد يجعل هذه النقطة أكثر وضوحاً و تفصيلاً من مؤرخ جامعة أكسفورد ،جون داروين، في كتابه الذي صدر عام 2007  -بعد تيمورلنك، قيام و انهيار الامبراطوريات العالمية، من 1400-2000) .

ليست فقط القوى الإمبريالية هي التي ذهبت و تركت الفوضى. فسقوط صدام حسين في العراق، و معمر القذافي في ليبيا، و بعد الحد من قوة نظام بشار الأسد في سوريا و تحويلها إلى دويلة صغيرة محاصرة، كل ذلك أنهى عصر الرجال الأقوياء الذين جاؤوا بعد فترات الإستعمار. حكم كل هؤلاء المستبدون وفقاً للحدود التي رسمها الأوروبيون. و لأن تلك الحدود الإمبريالية لا ترسم حسب العرق أو المذهب، احتاجت تلك الأنظمة المستبدة إلى هويات علمانية لتعبر تلك الانقسامات الطائفية. و الآن كل ذلك قد أجتيح بوحشية.

للأسف، لم يكن كل من نادوا بالربيع العربي يبتغون الحرية لكن بعضهم كان يريد إسقاط السلطة المركزية، التي لم تقل شيئاً عن جاهزية تلك الدول إلى قسوة الديمقراطية.

بين الدول التي تأثرت بتلك الإضطرابات نوعان، الأول: الدول التي لها عمر طويل من الحضارة. هي الأماكن التي كانت لها نفس الشكل (الحدود) منذ العصور القديمة، و نشأ بها شكل قوي من العلمانية التي ظهرت فوق العرقية و الطائفية الدينية. و الأبرز في تلك الأمثلة دول مصر و المغرب و تونس. فلو نظر أحد إلى خريطة المواقع الرومانية بطول ساحل شمال إفريقيا، سنرى أن الخريطة مزدحمة بالمستوطنات حيث أماكن تلك الدول، و ستشهد غياباً للمستوطنات في المساحات الشاسعة في ليبيا و الجزائر. بمعنى آخر، المغرب و تونس و مصر دولة معرفة تاريخياً. فمهما كان هناك من فتن و تغيير في الأنظمة شهدتها تلك الدول أثناء الربيع العربي، لكن هوية دولتهم ليست نقطة شك أو تساؤل.

و بالتالي أصبحت القضية في تلك الدول ترتبط بفكرة من سيحكم أو ما هو اتجاه الحكومة، و ليس حول هل ستكون هناك دولة أم لا.

أما النوع الثاني من دول الشرق الأوسط فهي غير مستقرة أكثر. تأخذ شكل جغرافي غامض، و أيضاً لها هوية ضعيفة. و في الحقيقة بعض هويات تلك الدول تم اختراعها من قبل الإستعمار الأوروبي. و دول ليبيا و سوريا و العراق تمثل هذا النوع. لأن الهوية في هذه الحالات هشة، و شكل الاستبداد الخانق هو ما يقدر على توحيد تلك الدول. و السبب الرئيسي للطبيعة المتطرفة لأنظمة القذافي و الأسد و صدام حسين، و التي مارست قمعاً أكبر بكثير مما مارسه نظرائهم مبارك في مصر، و بن علي في تونس.

الجزائر أيضاً دولة مصطنعة، صنعها الفرنسيون، و مرت بحكم استبدادي و تواجه الآن عملية انتقالية غير محددة مع تدهور صحة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي يحكم منذ عام 1999. و الأردن أيضاً دولة ذات طبيعة جغرافية غير واضحة، لكن الدولة شهدت حكماً معتدلاً خلال حكم الهاشميين المبدعين و تتلقى دعماً اقتصادياً و أمنياً كبيراً من الولايات المتحدة الأمريكية و إسرائيل.

و بالنسبة لليمن فهو يملك حضارة قديمة لكنه انقسم دائماً بين ممالك مختلفة بسبب التضاريس الوعرة التي جعلت السيطرة على المناطق في الدولة دائماً أمرا شبه مستحيل.

فقط الأنظمة الاستبدادية تستطيع السيطرة على الدول المصطنعة و المشكلة من طبيعة جغرافية مبهمة. و عندما تنهار تلك الأنظمة تترك خلفها فراغ كبير. و بعد بقاء النظام على القمة و في الأسفل قبعت القبلية و العائلات الكبيرة، زالت منذ فترة طويلة كل أشكال التنظيم الاجتماعي و السياسي بفعل تلك الأنظمة.

كانت الشمولية (الاستبداد) هي الإجابة الوحيدة لإنهاء الإمبريالية الغربية في تلك الدول المصطنعة، و السبب الجذري للفوضى في الشرق الأوسط الآن هو انهيار تلك الأنظمة الشمولية.

 تلك الطبيعة الجغرافية المبهمة  وضعف سيادة الدول ذات الحضارة القديمة أدى إلى ظهور دول مثل إيران و تركيا و السعودية. فإيران حضارة عالمية قديمة و عظيمة من ناحية و دولة راديكالية لا ترحم من ناحية أخرى. و هذا يوضع تحركاتها الكبيرة الفعالة في جميع أنحاء المنطقة. كانت الإمبراطورية الفارسية موجودة بشكل ما على الهضبة الإيرانية منذ قديم الزمان. و بدلاً من مواجهة مشاكل الهوية السياسية كما تفعل الدول العربية، فالإيرانيون يباركون ثقافتهم الخاصة كالصينيين و الهنود.

في نفس الوقت، النظام الراديكالي الملالي الذي يدير الحكومة في طهران يمثل حالة أشبه بالمجموعات الجهادية مثل الدولة الإسلامية و حزب الله، و القاعدة، و جيش المهدي.  و بالتالي إيران قادرة على التعامل بأساليب غير تقليدية. فإيران تستطيع التحكم بالوقود النووي، و دربت المتطرفين و المليشيات و القوى الوكيلة لها في الشام، كما أجرت بذكاء مفاوضات مع العدو الأول لها أمريكا. و بالتالي فإيران ورثت جزئياً الفراغ الذي خلفه اختفاء الإمبراطوريات العثمانية، و الأوروبية و الأمريكية.

بينما إيران هي القوة الشيعية الكبرى في منطقة الشرق الأوسط الطائفية الجديدة، فإن السعودية هي نظيرتها السنية. و بالمقارنة مع إيران فالسعودية ، هي دولة صنعتها أسرة واحدة ممتدة. و لم تكن من تكوين شبه الجزية العربية كما هي إيران بالنسبة للهضبة الإيرانية. إلا ان بيت آل سعود وجد طريقه لعقود من خلال عبر التحول الاجتماعي الكبير في الداخل و الوضع الأمني المضطرب في الخارج. و التغييرات الكبيرة على مستوى الشخصيات و التي نتجت عن الملك الجديد سلمان شملت تغيير ولي العهد و وزير الخارجية، و تشير إلى نية تلك السلالة المطلقة في تعديل السياسات من أجل عدم السماح بالهيمنة الإيرانية في المنطقة.

و كان رد فعل السعودية على ما تراه اتفاقا نوويا وشيك بين أمريكا و إيران هو الغارات الجوية ضد جماعة الحوثي المدعومة من إيران في اليمن، و جددت الرياض دعمها المكثف للمعارضة السورية (و التي تساعدها أيضاً تركيا و قطر).

لو تم هذا الاتفاق في الواقع سيفسر على أنه بداية لتقارب أمريكي إيراني إقليمياً، فيبدو و كأنه قوى إمبريالية تختفى (السعودية) و تصعد قوة أخرى (إيران).

و لاحتواء ما سيحدث بعد الاتفاق الإيراني، لن يكون على أمريكا دعم السعودية فقط، بل مصر و تركيا أيضاً. فالخدمات الأمنية في مصر تحت قيادة عبد الفتاح السيسي تتحالف بشكل ما مع نظيرتها في إسرائيل في مناطق غزة و سيناء و أماكن أخرى. تريد أمريكا مصر دولة قوية –ديمقراطياً أم لا- لتكون حليفا إقليميا ضد إيران لتدعم بذلك السعودية. بينما تركيا تحت قيادة الرئيس رجب طيب أردوغان لا ينظر إليها كدولة مؤيدة لأمريكا، تركيا بذاتها دولة قوية و تساعد على التوازن ضد النفوذ الإيراني.

الصراع بين تلك القوى الجيوغرافية و التاريخية من أجل السيطرة سوف يحدد النظام الجديد ما بعد الإمبريالية.

الرئيس الأمريكي القادم في عام 2017 قد يرغب في إعادة تدخل الإمبريالية الغربية –تحت مسمى آخر بالطبع. لكنه أو لكنها سيكون مقيداً بانهيار السلطة المركزية في المنطقة التي بدأت بانهيار نظام صدام حسين و استمر خلال سنوات الربيع العربي. كانت الديكتاتوريات العربية في المنطقة مقنعة بالنسبة للمصالح الأمريكية، لأنها لم تملك سوى أمريكا لتلجأ إليها في الأزمات الإقليمية. لكن الآن، في بعض الدول، لا يوجد من يتحمل المسؤولية أو الشخص الذي قد يجذب اهتمامنا. فالفوضى ليست مسألة أمنية أو إنسانية، لكنها عقبة شديدة أمام إظهار القوة الأمريكية.

و بالتالي فإنه على المدى القريب ربما يكون مستقبل الشرق الأوسط قاتماً. فالدولة الإسلامية السنية ستقاتل المليشيات الشيعية الإيرانية، كما قامت قوات صدام حسين السنية بقتال آية الله الخميني في الحرب الإيرانية العراقية من عام 1980 إلى 1988. هذه الحرب مهما استمرت من الزمن، مثلت بشكل ما قرار ريجان المتعمد بعدم التدخل  وهو دليل آخر على ضعف الإمبريالية. بالرغم من نجاح تلك السياسة في السماح لريجان بالتركيز على أوروبا و المساعدة في إنهاء الحرب الباردة.

بالعودة إلى الوراء، كانت الحروب تقوم بها الدول أما الآن فتقوم بها شبه دول. الإمبريالية حققت النظام، على الرغم من التراجع الذي حدث. و الآن التحدي يتعلق بتأسيس نظام حكم أكثر من تأسيس الديمقراطية.  فبدون نظام، لن يكون هناك حرية لأحد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى